مجلة الرسالة/العدد 983/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 983/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1952



الإنسان بين المادية والسلام

تأليف الأستاذ محمد قطب

عرض وتعليق

للأستاذ حسين عبد الفتاح سويفي

لن يصدق القارئ بعد أن يفرغ من قراءة هذا الكتاب، أن مؤلفه شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، فلو أن كاتباً أفنى عمره الطويل في البحث والاطلاع لينتج مثل هذا الكتاب لضمن لنفسه الامتياز والتفوق. إنه يسحرك ويستهويك من أول جملة في المقدمة إلى آخر جملة في النهاية، أنه يرضي ذوق الأدب، وروح الشاعر، وعقل العالم، ومنطق الفيلسوف

هو بحث سيكلوجي، يعرض عليك النفس، في ثوب تحليلي رائع، وتعبير أدبي موسيقي بديع، وإنك لتجد فيه رشاقة الأسلوب وقوة التعبير والتحليل، وسلاسة المنطق وسلامته، والمعرفة بأسرار النفس وخفاياها، وطبيعة تكوينها، ورأى العلماء والأديان فيها، ومدى ارتباطها بالحياة، وارتباط الحياة بها.

وهو يضع الإنسان بين المادية والروحية، وبين المذاهب الاجتماعية المختلفة والأديان السماوية، ويسلط عليه هذه الإشعاعات، ليقنعك فتقتنع معه بأن الإسلام دين فطرة، دين الحياة والأحياء.

نه يقول في المقدمة: (بينما يتطرف فرويد، في إطلاق النفس من عقالها، ورفع الكبت عن الغرائز المحبوسة، وتتطرف المسيحية من الجانب الآخر في فرض الكبت على الطاقة الحيوية للإنسان. يقف الإسلام بينهما موقفاً وسطاً، ولا يطلق الإنسان من عقاله، إلى الحد الذي يرده حيواناَ ويلقى ما تعبت الإنسانية من الوصول إليه في جهادها الطويل، من ضوابط لنزعات الحيوان)

هكذا في إيجاز بسيط يعرض عليك موضوع الكتاب موجزاً في بضع جمل، ثم يفصله لك تفصيلاً، يقنعك كل ما فيه بصدق ما يقول

وإنه ليفجؤك بالرأي أحياناَ، فيترك في نفسك مجالاَ للتساؤل والحيرة، ثم لا يلبث أن يعيد إليك أمنك وطمأنينتك ويردك إلى نفسك، ويرد نفسك إليك، فعند ما يقرأ الفصل الأول من الكتاب (نظرة المسيحية) وتطالع أولى فقراته:

(المسيحية دعوة مخالفة لطبيعة الحياة والأحياء، دعوة ترتفع بالإنسان عن نفسه، وتصل به إلى الآفاق العليا التي تسمو عن الجسد والمادة، الآفاق الطليقة من قيود الأرض. ومن نوازع الشهوات) (إنها قصيدة رومانتيكية ساحرة، وحلم جميل لشاعر نبيل - ولكنها مع ذلك مخالفة لطبيعة الحياة والحياء -)

لا شك أن سؤالاَ يقوم نفسك؟! كيف تكون المسيحية مخالفة لطبيعة الحياة لا يتركك في هذه الحيرة طويلاً فيجيبك الإجابة المقنعة البسيطة الصحيحة.

(المسيحية حقنة مضادة للمادية اليهودية والرومانية التي كانت شائعة يوم بعث المسيح، فلزم إذن أن تكون كلها روحانية متسامية، لتتعادل مع تلك المادية، لعلها تصلح النفوس، ولكنها ليست نظاماً طبيعياً للحياة الدائمة في كل الأجيال وفي كل الشعوب) ثم يضرب لك الأمثال.

وحينما يتحدث عن فرويد، يعترف أنه عبقرية فذة، ولكنه لم يكن على صواب دائماَ فيما يبديه من الآراء. أنه ينكر عليه (نظرته إلى الإنسان على أنه كائن أرضي بحت، لايرتفع بمشاعره وعواطفه عن عالم الأرض إلا في حالات الشذوذ)

وينكر عليه وعلى دارون وعلى الغربيين عامة (هذه الروح المادية المتنكرة لكل قوة خارجة عن حدود الأرض، ولا نؤمن إلا بميدان العلم التجريبي) ثم يناقش هذا الرأي فيقول:

(إن العلم ما يزال في طفولته، وما يزال كل يوم يصل إلى آفاق جديدة، فيلغي إلغاء تاما معلومات كان ينظر إليها على أنها حقائق نهائية لا تقبل الجدل، ولا تحتمل التأويل)

إنه يريد من هؤلاء جميعاَ أن يقولوا قولاً غير هذا، يتمشى مع العقل والواقع أنه يريد من قائلهم أن يقول:

(إنني توصلت بالشواهد الثابتة، والتجارب المؤكدة، إلى إثبات كذا وكذا من الأمور، ولكن أمورا أخرى فاتتني ولم أستطع إدراكها، ومنها سر نشوء الحياة على ظهر الأرض والسر الذي يجعل الأحياء تتشبث بالحياة، وتتطور تبعاَ لذلك لمواجهة ما يحيط بها من ظروف، ثم السر الخفي في قدرتها على هذا التطور العجيب، ولا يمكنني في الوقت الحضر أن أقول: إلا أنها من أسرار خالق الحياة التي لم يكشف عنها بعد الأحياء)

ولا يفوته حين يقول ذلك للغربيين، أن يأخذ علينا نحن الشرقيين (إيماننا الأعمى بكل ما يأتي به الغرب على أنه صواب لا خطأ فيه، ولماذا لا نعيد النظر في هذه الآراء والنظريات فنأخذ منها الصواب ونتجنب الخطأ، ولنا عقيدتنا الخاصة التي نعترف بالعلم كما نعترف بالدين، ونضع الإنسان في وضعه السوي)

وإنك لتحس الثورة العاتية في نفسه، على هذا العالم المادي الثقيل المتخلي عن إنسانيته حينما يختتم هذا الفصل بقوله: (ألا إنها المغلطة الكبرى لكل حقائق الحياة، والنفس البشرية هي التي أدت العالم، إلى الحيوانية المتجردة، التي أر تكس فيها بغير عذر الحيوان، وبغير حصافة الحياة التي رسمت للحيوان حدوداً معينة، تقف عندها غرائزه. . أما الإنسان الذي كرمه خالقه ورفعه، وجعل في يده أمر نفسه، فإنه ينتكس اليوم إلى حمأة يتعفف عنها بعض أنواع الحيوان.

ثم استمع إليه، واسخر معه كما سخر من التجريبيين، أولئك الذين يخضعون كل شيء للمعمل والتجريب، والتجريب العلمي (يؤمن الغربيون بكل ما يحمل خاتم التجريب، ويأخذونه قضية مسلمة، لا تحتمل الشك والتأويل، أما ما لا يخضع للمعمل فهو خرافة، أو على الأقل شيء ساقط من الحساب، ولما كان الله - مثلاً - لا يدخل المعمل، ولا يخضع للتجريب، فقد استغنوا عن خدماته، وأعلنوا أنه غير موجود)!

على أنه مع ذلك لا ينكر خدمات العلم التجريبي، التي أداها للبشرية، ولمنه ينكر، وينكر القارئ معه، إخضاع كل شيء للمعمل والتجريب، فهناك الجوانب الروحية التي لا يمكن أن تنكر لأننا نجهل جانباً منها

(قد يستطيع الباحثون ذات يوم أن يصلوا إلى نتيجة نهائية قاطعة، في المظاهر المادية لهذا الكون، أما النفس الإنسانية فهي عالم واسع غير محدود، ومازالت البشرية منذ مولدها إلى هذه اللحظة. تتحدث عنها، وتحاول الوصول إلى كنهها في آدابها، وفنونها، وفلسفتها، وأديانها، واجتماعياتها، فلا ينتهي الحديث، ولا ينقطع عنه نقطة معينة، وإنما يتقبل البحث كل مما قيل، وكل ما سيقال، ويبقى بعد ذلك الباب مفتوحاً للمزيد) هذا حديث عقلية واعية صاحبة مرتبة، تعرف كيف تعبر وتدمغ الحجة بالحجة، وتقرع الرأي بالرأي، وتأتي بعد ذلك بفصل الخطابب، وهو يؤيد العلماء النظريين الذين يقولون (إن هناك نزوعاً، أو انفعالاً نفسياًيؤثر في الجسد، فينتج عنه حركة جثمانية تهدف إلى تحقيق هذا النزوع، أو إرضاء الانفعال، وينكر على التجريبيين قولهم: (إن الجسد هو الذي يتصرف في النفس)

يقول قائلهم (أي التجريبيون - إنني سمعت خبرا محزنا فبكيت، فنشأت من ذلك عاطفة الحزن! فالحزن نشأ من البكاء أي من الحركة الجسدية. وليس العكس، أن الإنسان يحزن فتنهمر دموعه - كما يقول العقلاء من عباد الله).

(ويقولون إنني رأيت الأسد فجريت، فنشأ من ذلك الخوف، لا أنني خفت فجريت)

أن المؤلف يؤمن بأن الجسد أداة منفذة لرغبات النفس، وينكر على فرويد إيمانه بالجبرية الشعورية التي تقول؛ إن الحياة النفسية مصدرها الجسد، والجسد إفرازات كيمياوية، ونشاط كهربي، لا سلطان لأحد عليه، لأنه يعمل بطريقة غير إرادية فقد انتفت إرادة الإنسان التي يكون بموجبها مسئولا عما يفعل).

وهل هناك دليل على تأصل المادة في حياة فرويد، وعلى عدم اعترافه بالأديان، والجوانب الروحية، أقوى من هذا القول لأن الأديان جميعاً تقول: بأن الإنسان محاسب على أعماله، لأنها تصدر عن إرادته، ولا تعفيه عن المسئولية حينما يرتكب خطيئة في حياته الدنيا، حنى القوانين الوضعية، تأخذ المجرم بالعقاب، لأنه مسئول عما يفعل، وإلا فلم يعاقب المجرم؟ ولم وضعت القوانين؟.

وليتصور القارئ أي فوضى كانت تسود البشرية، لو ترك الناس أحراراً فيما يفعلون، باعتبار أنهم غير مسئولين عما يفعلون! وأي فرق بينهم وبين الوحوش في الغابات والهوام في مسارب الأرض.

إنه حين يقول ذلك (ليسقط المسئولية الخلقية، ويسقط معها الإنسان).

وعندما يتعرض للشيوعيين يكشف زيف مذهبهم، حين يقولون:

(- إن الإنسان هو القوة الفعالة في هذا الوجود - وتلك جملة براقة قد توحي بأن أنصار هذا المذهب، يؤمنون بالإنسان وبالإنسانية في صورها الرفيعة النبيلة، الإنسان في مجموعة، بما فيه من جسد وعقل وروح) فأنظر كيف يكشفهم ويفضح مذهبهم حين يقول: (إنهم لا يؤمنون بالإنسان، ليرفعوا من شأنه، ولكن لينفوا فقط تدخل الإله في شؤون الخلق، أما إيمانهم بالإنسان فعلى أساس أنه مادة، ولكن إذا سألنا ما هو الفكر؛ وما هو الشعور؟ ومن أين ينبعثان؟ يتضح لنا أنهما نتاج الدماغ البشري. . . وهذا الدماغ ليس إلا مادة. . .

وهنا تظهر طبيعة المؤلف الصاحية الواعية: فيقول:

(إذا كان العقل مادة، فإن الفكرة في ذاتها ليست مادة، لأنها لا تتحدد بحدود الزمان والمكان)

وهكذا يردهم إلى صوابهم حين لا يجدون الإجابة المعقولة

ثم يبين لك خطل الرأي الشيوعي في أن المادة هي أساس النظم الاجتماعية الصالحة، كانت الجوانب الروحية هي الأسس الأصيلة، التي أقام عليها نظاماً اجتماعياً صالحاً في مدى سنوات معدودات.

(إن الإسلام قد انتشر بسرعة مثالية، ما تزال فريدة حتى اليوم، ففي أقل من عشر سنوات، أيام عمر بن الخطاب، كان قد غمر فارس والعراق والشام ومصر والنوبة. . . لم يكن ثمة بارود، ولا اختراع حربي - مادي - يتفوق به حفنة من العرب الذين انطلقوا من الجزيرة، يبشرون بالإسلام، على قوى الإمبراطوريتين العريقتين، في فارس وبلاد الروم. . شيء واد هو الذي تغير، هو إحساس هؤلاء العرب بالحياة والكون، وبالحق والعدل الأزليين.

لقد كانت العقيدة الجديدة، هي القوة الدافعة في هذا البناء الجديد)

وعندما ينتهي المؤلف إلى (نظرة الإسلام) يتحدث عن الفرد من خلال عدسة الإسلام، فلا يترك جزءاً من جزيئات جسمه، ولا مسرباً من مسارب نفسه، ولا هاتفاً من هواتف رغباته، ولا غريزة من غرائزه إلا وبحثها تحت ضوء هذه العدسة. ثم يبين مقدار صلة الفرد بالسماء، ومدى سموه وصعوده، وعلاقته بالأرض ومدى انجذابه إليها - على حسب نظرة الإسلام - ثم يأخذ له صوراً متلاحقة لنزعات عقله وجسمه وروحه. . وكيف أن الإنسان يساير هذه النزعات، أو يحد من قوتها بالقدر الذي يضمن للفرد والحياة، اضطراً النمو، ودوام الأرقاء.

وإنه ليعرض عليك النظريات الإسلامية، في فلم منسق، يرضي روحك وعقلك، ويرد بك مناهل المعرفة الإسلامية. كل ذلك في أسلوب يكاد من الرقة يطير، ومن القوة يلتهب.

وهو مع ذلك كله، لم يأت بجديد على حسب (نظرة الإسلام) ولكنه ارتاد فعرف كيف يكتشف، واطلع فعرف كيف يفهم ويفهم، فارجع إلى هذا الفصل من الكتاب لأنه أضخم من التلخيص.

وفي باب الفرد والمجتمع يعرض عليك الآراء النظرية، والتطبيقات العلمية المختلفة للحكومات، ويبنين لك خطأ أولئك الذين يغلون في احترام الفرد على حساب المجتمع، والمجتمع على حساب الفرد فيقول (كلتا النظريتين مبالغ فيها إلى حد الإسراف المعيب) (فالفرد الذي يبلغ إحساسه بنفسه وذاتيته أن ينسى وجود الآخرين، والمجتمع الذي لا يفرض للفرد، أي وجود مستقل، كلاهما يتجاهل طبائع الأشياء، ويغفل عن حقيقة نفسية مهمة)

وقد كان من الممكن أن يكتفي بهذا القول ففيه وحده الإقناع، ولكنه دائماَ يأخذ في كثير من التفصيل والتعليل، لتزداد اقتناعاً على اقتناع

حسين عبد الفتاح