مجلة الرسالة/العدد 98/ماذا يقولون عنا؟
مجلة الرسالة/العدد 98/ماذا يقولون عنا؟
العالم الإسلامي
فرنسا وشمال أفريقية
ترجمة مقال نشرته مجلة (لموا) لكاتب فرنسي مطلع
العالم الإسلامي:
العالم الإسلامي إمبراطورية واسعة تنقسم كالعام المسيحي إلى عدد كبير من الممالك التي تجمعها عقيدة مشتركة ويفصلها اختلاف الجنس والموقع الجغرافي والنظام السياسي. وهذه الممالك تتفاوت درجات تقدمها الاقتصادي والفكري تفاوتاً شديداً. ففي نجد وملحقاتها التي تسمى الآن المملكة العربية السعودية لا تزال تسود حياة القبائل الرحل، بينما نجد تركيا والبلاد التي تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني وأفريقيا الشمالية قد بلغت الآن درجة رفيعة في مدينتها الصناعية.
نهضة العالم الإسلامي:
ولقد كان من نتيجة احتكاك هذه الممالك بالمدينة الحديثة أن دخلت كلها في دائرة النشاط العالمي بعد أن كانت بعيدة - مع تفاوت درجات هذا البعد - عن تيارات التعامل الكبرى. وذلك هو ما يمكن أن نسميه نهضة العالم الإسلامي، ويقصد بها نفس ما قيل عن نهضة الصين. ولقد عجلت الحرب الكبرى هذه الحركة بصهرها شعوب العالم في الأتون الجهنمي، فقد كان لهذه الحرب نتيجتان - على الأخص - غير منتظرتين ولكنهما كانتا عظيمتي الأثر؛ إذ منحت اليهود وطناً قومياً في فلسطين فتحقق بذلك الحلم الذي كان يسعى وراءه بنو إسرائيل منذ تخريب بيت المقدس على يد عام 70م. ثم حررت العالم العربي من الحكم التركي
وبعد الحرب سارت نهضة العالم الإسلامي بخطوات سريعة لأن المحاربين وجدوا أنفسهم مضطرين كيما يصلحوا الأضرار التي أصابتهم إلى أن يوسعوا تجارتهم ويجدوا للحصول على أسواق جديدة، فكان استغلال المناجم وأعمال الري وبناء الطرق والسكك الحديدية والسيارات والطيران وبعبارة موجزة (كل المعدات الحديثة للدول الشرقية التي تقوم على قدم وساق وتعمل على تغيير أحوال معيشتها تغييراً عميقاً) ولقد انقلبت دار الصناعة رأساً على عقب وهي التي عليها تقوم حياة البلاد الاقتصادية. وذلك بسبب طرق الصناعة الحديثة ومنافستها. ففي عام 1932 كانت المنسوجات اليابانية تعادل 70 % مما في أسواق العراق، وفي سوريا توقفت صناعة النسيج وكان في ذلك القضاء الأخير على دور دودة القز
ولقد نتج عن ذلك كثير من ضروب العراك بين المعتقدات والعوائد الماضية، وبين الأفكار والمستلزمات الجديدة. فلا تزال المساجد مركزاً للهياج السياسي، ووسط جزيرة العرب لا يزال متمسكاً بالقانون الديني التقليدي الذي يقول بقطع يد السارق، والجماهير لا تزال في كل مكان شديدة التأثر بخطب المهيجين. على أن نخبة القوم في مصر وسوريا والعراق يهجرون شيئاً فشيئاً الدراسات الدينية، ويوشك أن يزول أثر الإسلام في شئون الحكومات. وبالرغم من ذلك فقد أثار تحرر تركياً من سيطرة الدين كثيراً من الاضطرابات. على أن ضروباً من التقاليد المقدسة قد أمحت الثقة بها، وثل ذلك أعمال الدراويش في حلقات الذكر. ومن ناحية أخرى فإن مسألة القبعة وإن لقيت تقدماً بطيئاً نجد مشكلة حجاب المرأة لم يطرأ عليها تغير ما بالرغم من الثورة التركية. أما الخلافة فليس لها الآن إلا عدد قليل من الأنصار إذا استثنينا الهنود
في وسط هذه الحركات المختلفة نرى اتجاهين رئيسيين كانا نتيجة لتقدم السكان ورقي البلاد: اتجاه توحدي واتجاه قومي
الاتجاه التوحدي:
إن الاتجاه التوحدي يستمد قوته من النهضة العامة للضمير الإسلامي، ومن شعور هذه الممالك باشتراكها من حيث الأصل. وهذا الشعور يقويه مكافحة الغرب وكره الأجنبي. ومن هنا قامت كل هذه الهيآت والمؤتمرات التي تحاول جهدها أن تربط جميع الشرقيين على اختلاف طبقاتهم وأديانهم وممالكهم لتوجههم إلى غرض واحد هو الاتحاد ومقاومة الأجنبي. ولاجتماعات المسلمين في الظاهر صفة دينية على الأخص. وهي بغية الوصول لتحقيق فكرة الجامعة الإسلامية، لكن فكرة مؤتمر مكة قد أهملت دون أن يصيبها النجاح (في عام 1930 وعام 1931) ويؤكد بعضهم من جهة أخرى أن عدد الحجاج الذين يذهبون إلى مكة قد هبط من 120ألفاً في عام 1929 إلى 90ألفاً في عام 1930 و70 ألفاً في عام 1931 و 30 ألفاً في عام 1932 ومن 20 ألفاً إلى 25 ألفاً في عام 1933 ولم يأت من مصر إلا ألفان من الحجاج عام 1933 وليس للأزمة الاقتصادية إلا أثر جزئي في هذا الهبوط
والواقع أن فكرة الجامعة الإسلامية تصطدم باستحالة توجيه ثلثمائة أو أربعمائة مليون من المسلمين. كما أن الفكرة الدينية لا تكفي لربط العالم الإسلامي وحفزه. وهناك برهان مادي على صدق هذا القول وهو فشل فكرة الخلافة: (ففكرة الخلافة التي تقاومها السلطات التركية باستمرار في كل المناسبات يظهر أنها قد ماتت تماماً في الوقت الحاضر في البلاد العربية. ولقد أعلن الملك عبد العزيز بن سعود نفسه وهو يستقبل الحجاج في مكة أنه لم يجر ولن يجري مطلقاً وراء لقب خليفة المسلمين. فالخليفة يجب عليه مراقبة أوامر الدين ونواهيه في كل أجزاء الأرض. وفي عصرنا الحاضر لا يوجد رجل قادر على أن يضطلع بهذا الأمر. وعلى ذلك فإن النهضة الدينية في الشرق الإسلامي يمكن اعتبارها (رد فعل) في سبيل الدفاع السياسي أكثر منها بداية نهضة. فالإسلام هو الآن قوة لمكافحة الاستعمار الغربي واليهودي، لكن أثره في حياة الحكومات يفقد تدريجياً خطره الذي كان له في الزمن السابق. ويجب أن نضيف أيضاً أن مما يتفق وتاريخ المدينة الإسلامية ما نراه الآن من تقدم حركة دينية قوية ترمي إلى توحيد قوى قسمتها السياسية، وإقامة جبهة صلبة ضد الغرب) ومنذ عهد قريب تبذل الجهود لبعث النشاط الإيجابي في كل عضو من جسم العالم الإسلامي
ولقد نتج عن الحبوط (النسبي) لفكرة الدينية أن اتخذت كل الحركات المبذولة في سبيل الوحدة صبغة سياسية. وقد قوى تقدم الحركة الصهيونية في فلسطين الشعور بواجب الدفاع عن بيت المقدس وهو المدينة المقدسة الثانية للعالم الإسلامي. وفي أثناء عام 1931 دعا المفتي الأعظم إلى المؤتمر الذي عقد في ديسمبر، (وكان الغرض من هذا المؤتمر يبدو أولا دينياً محضاً: وهو التعاون الإسلامي ونشر الثقافة الإسلامية ومقاومة الإلحاد، والدفاع عن الأراضي المقدسة، والمحافظة على التقاليد، وإنشاء جامعة علمية في بيت المقدس، وبحث حالة سكة حديد الحجاز) والواقع أنه لم يكن المحافظة على البرنامج المبدئي. فقد كان من اللازم التوسع فيه حتى يستطيع أن يعالج أيضاً موضوعات مختلفة تهم حالة الشعوب الإسلامية من الناحيتين السياسية والثقافية. وبالرغم من ذلك فإن سلطة المؤتمر قد ضعفت لغياب الممثلين الرسميين لمصر والعراق ونجد، وبتأكيد الحكومة التركية عداوتها لكل سياسة داخلية أو خارجية (تستخدم الدين كوسيلة سياسية)، وفي بيت المقدس نفسه أعلن الحزب المعادي للمفتي الأكبر أن الرؤساء المسلمين لم يؤيدوا المشروع إذ لم يؤخذ رأيهم فيه
الجامعة العربية:
ومنذ الحرب الكبرى، أو بعبارة أخرى منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية تتخذ الحركة التوحدية صبغة جديدة. فالجامعة الإسلامية قد تحولت إلى توسع استعماري عربي. إذ حلت محل الفكرة الدينية التي حاق بها الضعف فكرة الوحدة الثقافية: أي وحدة البلاد التي تتكلم اللغة العربية، والتي يبلغ مقدارها 70 مليوناً، ولقد بذل منذ نصف قرن على الأخص مجهود في سبيل اللغة - لم يكن الغرب يشك في قوته - كان له أثر في تغيير الحالة الثقافية للبلاد العربية لدرجة أنه لم يعد من السهل المقارنة بين اللغة القومية واللغات الأجنبية من جهة، وبين البلاد العربية وأفريقيا الشمالية من جهة أخرى. وفي منتصف القرن التاسع عشر كان السكان الذين يتكلمون اللغة العربية في الشرق الأدنى وخصوصاً في سوريا وفلسطين يعتمدون على المصادر التي لا بأس بها في لهجاتهم الدارجة، وكانت اللغة الفصحى غير كافية، ولم تكن تؤدي الحاجة الضرورية. لذا كان من اللازم الالتجاء إلى اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية والتركية واليونانية والروسية ولقد غيرت هذه الحالة تغييراَ عميقاَ بخالق لغة فصحى حديثة. وكان مركز الحركة في دمشق وفلسطين وبغداد. وكان جعل التعليم العام باللغة العربية الفصحى الحديثة في كل البلاد الشرق الأدنى مما ساعد بطريقة أكثر تحقيقاً للغرض على التقليل المسافات التي تفصل لغة الكتابة عن اللغة الدراجة. وتبين الإحصاءات المدرسية التي نشرت في السنين الأخيرة في مصر وسوريا ولبنان والعراق وفارس أن عدد طلبة المدارس قد أزداد بعد الحرب في معظم هذه البلاد 300 إلى 600 % وفي ظل هذه الأشكال المختلفة التي تبدو بها حركات الجامعة الإسلامية والجامعة العربية قام عمل متوصل لتعديل الالتزامات المالية والاقتصادية والسياسية التي عقدتها أو فرضتها البلاد الغربية. وهذأ التعديل يصعب على الأخص في بعض البلاد مثل فلسطين حيث يتقابل وجها لوجه العنصران اليهودي والعربي اللذان حررتهما الحرب. ولقد استطاعت الحكومة البريطانية أن تتحاشى حتى الآن (الانفجار القوي الذي كان يحق للمرء أن يخشاه. . . وعلى الرغم من اضطرابات أكتوبر عام 1933 كانت مما يوجب أشد الأسف فقد تبدو حركة ضئيلة إذا قارنها باتساع مأساة الكفاح بين الصهيونية والقومية العربية)
الاتجاه القومي:
والاتجاه الضروري الآخر الذي يبدو في البلاد الإسلامية هو الاتجاه القومي، وهو يظهر بشكل أقوى في أفريقيا الشمالية، والواقع أن (البلاد العربية) تفكر تفكيراً غامضاً في الوحدة، أي في تحقيق أمة عربية. بينما تجد بلاد أفريقيا الشمالية تظهر الرغبة من تلقاء نفسها - كمصر مثلً - في أن تبقى أمماً مستقلة. والواقع أن حوادث العراق وفلسطين يصل صداها مباشرة إلى دمشق، كما أن اليمن - على رغم اختلاف الجو والحياة المادية والعقائد الدينية - قد تكون من الناحية السياسية أقل بعداً عن سوريا من بعد مراكش عن الجزائر
أفريقيا الشمالية:
إن حوادث أفريقيا الشمالية قليلة وغير معروفة. وهي بذلك تترك المجال للأقاويل التي تدخلها الأغراض، وللحملات الصحفية التي تصول فيها الشهوات السياسية لأحزاب اليسار واليمين. ولا تزال المعلومات في الوقت الحاضر سيئة للغاية فيما يتعلق بالاضطرابات التي حدثت أثناء الحرب في مراكش والجزائر وتونس، ومع ذلك فإن مسألة باتنا لا تزال على حرارتها حيث فقد هناك وكيل المديرية حياته
ولتعويض الأعمال المجيدة التي قامت بها الفرق الوطنية في ساحات القتال أثناء الحرب العظمى منحت حكومة كليمنصو سكان أفريقيا الشمالية وعودا لم تنفذ لسبب من الأسباب، ولقد اعترف المقيم العام مسيو بيروتون للنائب الاشتراكي مونيه فقال: (الواقع أن من سبقوني قد تركوا الحبل كله على الغارب. ولقد وجدت من اللازم أن يصلح كل شئ من جديد سواء من جهة الخطة السياسية أو من جهة الخطة الاقتصادية)
وقد كان مسيوب. هيريكور يجمع هذه الشكوى التي تقول: (ألا تعتقدون أن أولئك الذين هم منا والذين دفعوا ضريبة الدم ليس لهم بعض الحق في أن يتألموا لكرامتهم حيت يرون أنفسهم يعاملون معاملة الأهل الضعفاء وسط الجالية الفرنسية ذات الصدر الواسع بالنسبة للإيطاليين والأسبان والمالطيين بل وحتى الألمان؟) وبالرغم من اختلاف وجهات النظر الذين ينتقدون السياسة الفرنسية في شمال أفريقيا فإنهم متفقون على أنه ليست هناك وحدة ما في إدارة الجزائر وتونس ومراكش. ولقد حدثت محاولة واحدة بعد الحرب للوصل بين هذه الأدارات، على أنها لم تتلها أخرى. وهذا هو أحد أسباب الضعف الخطير أمام ثورة الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، ويضاف إلى ما سبق أن أعباء دولية تثقل تونس لأن السياسة الإيطالية ما تزال على نشاطها، وتثقل مراكش لأن للمصالح البريطانية أهميتها. ومن الآن يظهر أن إنكلترا سوف تطلب تعويضاً من مراكش الإسبانية عند احتمال تركها لجبل طارق
اضطراب شمال أفريقيا:
في خلال عام 1934 قامت في تونس والجزائر ومراكش سلسلة من الحوادث والاضطرابات والثورات يجد المرء تفصيلاتها في مجلة (أفريقيا الفرنسية) التي بينت في عدد سبتمبر أخطاء حكومة الجمهورية بقولها: (عندما تكونت الجبهة المعادية لفرنسا بشكل كتلة عربية، كانت تقابل على الدوام بسياسة تشتيت الجهود والمجاهرة بالعداء للأقاليم الفرنسية وتصديق الأخبار الكاذبة الخاصة بحالة هذه الأقاليم. . . إن المسئولية الكبرى فيما يتعلق بحالة القلق في شمال أفريقيا ترجع إلى باريس، فحكومة الجمهورية تغمض عيونها عن المطالب الشرعية التي تقتضيها الحالة الاقتصادية في شمال أفريقيا، ويجب ألا ننسى أن أفريقيا الشمالية قد أصبحت العنصر الأساسي في حياة الجمهورية الاقتصادية)
في الجزائر:
إن الجزائر هي مركز المصالح الفرنسية والنشاط الفرنسي في شمال أفريقيا. فإذا هدد المركز عرض كل شئ في تونس ومراكش للخطر. وقد قال أحد العلماء الذين هم على جانب كبير من الخبرة في هذه المسألة ما يأتي: (إن أهمية الجزائر لفرنسا أكثر من أهمية الهند لانجلترا، لكن الواقع أن الهند بالنسبة للإمبراطورية البريطانية مصدر قوة، بينما الجزائر تصبح من حيث القوة أمة من الدرجة الثانية)
ولقد كانت الحوادث الدموية التي شبت في الخامس من أغسطس شيئاً جزئياً استغلته الأحزاب السياسية. فصحافة اليسار قالت إنها حركة موجهة ضد اليهود، بينما اعتبرت صحافة اليمين مرسوم كرميو الذي يمنح عدداً كبيراً من اليهود الجنسية الفرنسية عملاً إجرامياً. والواقع أن مرسوم كرميو لم يقابله المسلمون عند إعلانه مقابلة سيئة، والربا هو إحدى النكبات الكبرى التي تضني الجزائر، وهو مهنة نمت على يد اليهود الجزائريين، ولكنها الآن تسير بنجاح في شمال أفريقيا بواسطة أفراد ليسوا من اليهود. هذه الضروب المختلفة من الشطط تعرض للخطر شيئاً فشيئاً أبناء المستعمرات الفرنسية وفرنسا نفسها. وإذا أضفنا إلى ذلك أثر الأزمة الاقتصادية كان لابد لهذه الحالة من أن تنتهي بالمذابح. ومن الغريب أن الحكومة التي من واجبها السهر على النظام والعدالة والرخاء لا تجد إلى الآن وسيلة لوضع نظام للأقراض يضع حداً للسلف الصغيرة التي كانت أول ما اهتمت به الحكومة الإنجليزية في مصر
السياسة البربرية:
يعيش في أفريقيا الشمالية مليون من الفرنسيين لا يمكن أن
يتركوا وسط عدد من السكان الوطنيين يبلغ اثني عشر مليوناً.
فيجب أن توجد طريقة للتوفيق بين فريقين مختلفين حتى
يستطيعا الحياة. ولقد حاول بعضهم إيجاد سياسة خاصة ببلاد
البربر يقصد بها خلق العداوة بين أهل هذه البلاد وبين العرب
وذلك عملاً بالمبدأ القائل: فرق تسد. وبناء على تقرير مسيو ماسينيون السنوي يوجد 29 % من البربر في الجزائر، و60
% في مراكش، و12 % في تونس. على أن الالتجاء إلى
سياسة بذر الشقاق لم تأت كما سمعنا بإحدى النتائج المنتظرة.
ولقد كان ظهير عام 1930 مبعث الاضطرابات التي انبعثت
من ذلك الوقت في مراكش؛ ومؤهلات المسلمين في شمال
أفريقيا تحتم أن تكون الثقافة هناك عربية محضة. وعلى ذلك
فالقوانين في بلاد البربر بدائية، وبعبارة أخرى متأخرة جداً
بالنسبة للقوانين في سائر البلاد الإسلامية فالمرأة مثلاً بموجب
القوانين في بلاد البربر سلعة من السلع، وهي تعتمد على
والدها الذي يستطيع أن يبيعها، وعلى زوجها الذي يملك
طردها، وعلى أشقائها الذين يمكنهم إنزال العقاب بها. لذا كان
من الوهم الاعتقاد بأن البربر يستطيعون أن يصبحوا فرنسيين
دون أن يصلوا أولا إلى ما وصل إليه المسلمون. وتطبيق ما
يسمى السياسة البربرية لا يمكن أن ينتج غير بقاء الاعتقادات
البالية واستمرار العادات الماضية
المعارضة الوطنية:
يكاد ينحصر البربر المقيمون بالجزائر في بلدة قابلية وقد اقترح إنشاء إقليم رابع لهم، على أن هناك عوائق لابد من انتظار حل لها، وهي أن التعليم غير كاف، وسكان المستعمرات لا يتعلمون العربية، كما أن هناك هوة تزداد تدريجياً بين الفرنسيين وأهل البلاد. ولقد كان هؤلاء مخلصين حتى عام 1930 وخصوصاً المتعلمون الجزائريون وعددهم 20 ألفاً. ويرى أكفأ الخبراء أن عدم السماح لهم بالتجنس بالجنسية الفرنسية كان خطأ بيناً. ولكن هل هذا صحيح؟ إننا لا نستطيع أن نعطي رأياً قاطعاً. على أن الواقع أن الاحتفالات بمرور مائة عام على احتلال الجزائر لم تحمل لأهل البلاد إلا خطباً فارغة. ومنذ أربعة أعوام لم يتحقق إصلاح واحد من الإصلاحات التي طلباها أو وعد بها أهل البلاد. ولذا ابتدأت المعارضة وشجعتها الأزمة الاقتصادية. فحمل (الوفد)، وهو الحزب الوطني، إلى باريس شكواه من الحكومة العامة، وأحيت جمعية العلماء المسلمين الثقافة العربية بين جماهير الشعب. والنتيجة أن سكان المستعمرات يزداد قلقهم تدريجياً، وأهل البلاد يتفاقم تذمرهم، والحكومة المركزية لم تصل إلى تسوية الحالة
في تونس:
إن معلومات الصحافة عن الاضطرابات التي قامت في سبتمبر عام 1934 سيئة. وقد شكت مجلة (أفريقيا الفرنسية) من (العقبات التي تصادفها الأخبار الواردة من تونس) في النصف الأول من شهر سبتمبر. وفي أوائل يونيو أكد البيان الرسمي للجنة المستعمرات في مجلس النواب أن تونس (تسير في الطريق السوي) وبعد ذلك بشهر عرف أن الجرائد (الخطرة) قد عطلت، وأن تذمراً هائلا يسود الموظفين والعمال والفلاحين. وإن السكان الوطنين محرضون على الامتناع عن دفع الضريبة. ومن الجلي أن المتطرفين من الدستوريين الحديثين يريدون بذلك التغلب على الأحرار الدستوريين. وفي 3 سبتمبر اتخذ المقيم العام عقوبات صارمة. فتكاثرت الحوادث وقامت المظاهرات الصاخبة أمام دار المقيم، وأغلقت الحوانيت وحدثت الاضطرابات، وهوجمت الفرق الحربية وشبت الحرائق. وحدث في موكنين حادث خطير نسبياً حيث هاجم الثائرون عساكر البوليس، فعطلت الجرائد المتطرفة
ولا يكفي أن تلقى تبعة اضطرابات شمال أفريقيا على الدعاية الشيوعية. فالواقع أن التذمر العام له أسباب محلية أكثر عمقاً، هي أسباب سياسية واقتصادية. لكن الواضح أن اضطراب البلاد الاقتصادي والفكري قد استغلته الدعايات الخارجية من الشيوعية وغيرها.
والحقيقة أن المقيم العام في تونس أعلن في 14 سبتمبر قرارات لغرض تسوية الديون الزراعية وتعطيل الإجراءات القضائية ووقف الحجوز. وعهد إلى خمس لجان تحكيم بحث موقف المدينين المعسرين. وأعظم نقص في السياسة المتبعة في تونس أنها تتحول مرة واحدة من لين شديد إلى قسوة شديدة. فهناك يباح كل شطط يرتكبه المرابون ونقابات الموظفين إلى أن يأتي يوم تجد فيه الحكومة نفسها مرغمة على الالتجاء إلى الشدة. وتلك هي السياسة المرتكبة التي مآلها الفشل العظيم
في مراكش:
ومراكش ليست محرومة هي الأخرى من الفضائح، فهناك حكاية حي مراكش المحجوز أو - من الناحية الاقتصادية - المضاربات على القمح الذي قدر بستة وثلاثين فرنكا، واشترى بخمسة وعشرين، ثم بيع ثانية للرباط بمائة وعشرة فرنكات مع كل ضروب المجاملة التي يؤسف لها.
ويظهر أن حكومة المقيم العام قد أخذت تشعر، ولكن - كما تقول مجلة أفريقيا الفرنسية - (إذا لم تحقق هذه الآمال وخصوصاً القضائية والمالية فلا بد من عودة الأيام العسيرة)
النتيجة:
والنتيجة أن شمال أفريقيا يعاني نقصا في وحدة الإدارة، وكذلك يعاني - كحكومة الجمهورية - نقصاً في السلطة. وهو يعاني أيضاً من نظام الإنتاج والتبادل الذي يرتكز كما هو واضح على مذهب الحرية. والواقع أن تدخل السياسة في الأعمال ينتج أثرين: يساعد المصالح الخاصة على حساب المجموع، ويعارض تطور القوانين اللازم منذ الحرب. إن من الواجب وجود توازن بين حقوق حكومة الجمهورية وآمال أهالي البلاد؟
ع. ك