مجلة الرسالة/العدد 979/المسرح والسينما
مجلة الرسالة/العدد 979/المسرح والسينما
فرقة المسرح المصري الحديث
في روايتي (كسبنا البريمو) و (طبيب رغم أنفه)
للأستاذ علي متولي صلاح
بدأت فرقة (المسرح المصري الحديث) موسمها الثاني بدار الأوبرا الملكية بتقديم مسرحيتين معا في ليلة واحدة، لأن واحدة منهما منفردة تقصر عن الوفاء بالليلة كلها، أولاهما (كسبنا البريمو) للسيدة الفاضلة صوفي عبد الله، وأخراهما (طبيب رغم انفه) لموليير
ونستطيع أن نلخص الأولى - في كلمات قصار - بأن عاملا أصيب بكسر في ذراعه اليمنى وهو يقوم بعمل إنساني نبيل، فأقعده ذلك عن العمل، وضاقت به الحال حتى اضطر إلى أن يبيع أوراق (اليانصيب) في الطرقات، وهو عمل لا يكاد يخلف عليه من الرزق ما يمسك أوده وأود زوجته وابنته. . وأخذت حياتهم تنحدر من سيئ إلى أسوء، وكانت الزوجة حاملا في شهرها السادس فراودت نفسها
- تحت تأثير ضرورات العيش الملحة القاسية - أن تجهض نفسها (كذا!!) وتتخلص من هذا العبء الجديد! ولكن الأمر لم ينته إلى ذلك، بل تحول إلى بيع الزوجة جنينها لقوم أثرياء ابتلاهم الله بالعقم، وهم يلتمسون الولد التماسا ليورثوه ما يملكون من مال وعقار. . ولكن ظرفا لم يكن منتظرا غير مجرى هذا التحول وأنقذ الوالدة والجنين وجلب لهم كذلك مبلغا طيبا من المال من حيث لا يحتسبون! وهكذا انتهت المسرحية. .
والموضوع - كما يرى القارئ - ضحل قريب المتناول، والافتعال يسري في جميع الحوادث، ولولاه ما نهضت حادثة واحدة من حوادث المسرحية كلها، ولانهارت عند أول مواقفها! وليس في الأمر موضوع ولا عقدة، وأغلب الظن أن المؤلفة الفاضلة لا تهدف إلا إلى أن تخاطب أعنف الغرائز في الإنسان، وأن تعرض عليه مجموعة من البشاعات التي يرتاح بعض ذوي العقول البسيطة لرؤيتها، وأن تمتع نظره
- لا عقله وقلبه - بمشاهد متتابعة من الفاقة والحرمان وضيق الحال وما إليها. وأنا أق (المشاهد) وأنا أعني ما أقول، فليست هذه المسرحية - في الحق - إلا مجموعة من هذه المشاهد العنيفة الصارخة (ميلودراما) لا تحمل في طياتها شيئا غير صورها الظاهرية، فإذا انتهت هذه الصور انتهت معها كل عاطفة، وسكنت في المشاهدين كل ثائرة، وأصبحت المسرحية - بعد دقائق معدودة من شهودها - في ذمة التاريخ
هذا - إلى أن الرواية ملأ بعيوب يحسن بالمؤلفة الفاضلة أن تعنى بتلافيها، وأن تأخذ نفسها بكثير من الجد والصرامة حتى تخلص منها، فهي لم تستطيع أن تبث الحياة النابضة في شخصية واحدة من شخصياتها، اللهم إلا شخصية (الداية)، ولم نرى في العواطف المبذولة أمامنا تحولا أو تغيرا، وإنما هي صور متكررة متماثلة تقريبا، واضحة التفكك والتفرق، وبعض النكات التي أوردتها فيها انحراف ونبو عن الذوق يجمل ألا يعرض على الناس، كقولها للضابط الذي يسأل عن دورة المياه إنها (في وش حضرتك)! فهذا كلام لا يقال على خشبة المسرح التي يجب أن تكرم وتصان عن هذا الدرك الأسفل من المزاج. . أما الافتعال فقد سبق أن قلت إنه أساس هذه المسرحية، ويبدو هذا بأجل صورة من الخاتمة فهي افتعالات يجر بعضها بعضا، كاستدعاء البوليس لمجرد تأوه الزوجة الحامل! وتصادف حضور الطبيب بعد ذلك بدعوة من هذا البوليس! ثم تصادف حضور المرأة الثرية التي اشترت الجنين والطبيب موجود، فإذا به أبن أخي زوجها وأحد الذين تريد أن تحجب الميراث عنهم!! وهكذا تجد سلسلة عجيبة من الافتعالات التي تزهق روح المشاهد!!
ونصيحتي للسيدة الفاضلة أن تؤجل الكتابة للمسرح بضع سنوات تدرس فيها هذا الفن، وأن تعلم أن الأمر في المسرح ليس كالأمر في الأقصوصة القصيرة التي تنشر الكثير منها على الناس، وأن المسرح عسر لا يسر
وأما الرواية الثانية فهي رواية ذلك الرجل الذي أكرهته الظروف على أن يكون طبيبا رغم أنفه فكان؟ وعرضت عليه فتاة اعتقد أهلها أنها أصيبت بالبكم ليحل عقدة لسانها، فعرف السر الخلفي في هذا البكم، وأدرك أن الفتاة تدعيه تخلصا من زيجة يريد أهلها أن يكرهوها عليها وهي تعشق فتى آخر! فانحلت العقدة من لسانها ونهض الرجل قاطع الأخشاب بما لم ينهض به نطس الأطباء، وانتهى الأمر بانطلاق لسانها وبزواجها من عشيقها معا!!
وهي رواية ذات فصل واحد، إلا أنها في الذروة من كمال التأليف وحسن العرض وحبكة الموضوع وجمال النكات وعفتها وعدم ابتذالها، إلا أنهم أرادوا أن يصبغوا بعض هذه النكات بالصبغة المحلية فأوردوا الكلمة المشهورة (موت يا حمار لما يجيك العليق) فكانت وسط نكات موليير كالرقعة في الثوب الجميل الصقيل!! وأنا أسوق هذه على سبيل المثال، فقد ورد سواها ولكنه كان أخف وقعا من هذه الصخرة العاتية!
هذا - وقد نهض بإخراج هاتين الروايتين شاب مرموق كان باكورة ما قدمت لنا فرقة المسرح المصري الحديث من المخرجين، بعد أن غمرتنا بالممثلين والممثلات ممن ثبتوا على خشبة المسرح ثباتاً لا يرجى بعد اليوم له تزعزع أو انهيار، وقام بالإخراج قياماً نحمده له كثيرا، وإن كنت آخذ عليه أنه لم يحسن اختيار الأثاث في (طبيب رغم أنفه) فقد جاءنا بما لم يكن في هذا العصر من أثاث، وأورد من الكراسي والستائر ما لا يتفق مع ما كان قائماً في عصر لويس الرابع عشر، وعلى كل فأنا أرجو لهذا المخرج الشاب أن يمضي قدماً في فنه، وأهنئ الفرقة بهذه الباكورة الطيبة من شبابها المتوثب الناهض
أما الممثلون فقد بلغ بعضهم منزلة لم يبلغها - بعد - السابقون الأولون من رجال المسرح، فقد كان عبد الغني قمر (الطبيب) - مثلا - يمضي على المسرح في خفة ورشاقة، ويؤدي دوره في صورة طبيعية حاذقة فاهمة، كأنما هو يقرأ من كتاب مفتوح داخل جدران أربعة لا يراه فيها إنسان!! الحق أن الأستاذ عبد الغني قمر جدير في قيامه بدور هذا الطبيب بالإعجاب الذي لا حد له، وقد أغفلت الثناء على الآخرين لأني سأختار من كل رواية ممثلها الأكثر براعة وخفة وفهماً لدوره، على أن يكون واحداً فرداً في كل رواية دون نظر إلى نفس الدور الذي يقوم به كبر أم صغر، وقل أم كثر. . وقد نظرت إلى ذلك الواحد في هاتين الروايتين فكان (عبد الغني قمر). . .
علي متولي صلاح