مجلة الرسالة/العدد 978/شعراء من أشعارهم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 978/شعراء من أشعارهم

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1952


4 - عدي بن زيد العبادي

للأستاذ محمود عبد العزيز محرم

ولا تنسى أنني حدثتك عن أخوة عدي، وأنهم لدى كسرى ناعمون، وأنه أقطعهم الضياع واجزل لهم الصلات. وهذا هو عدي يحدثنا عنهم وعن أهله، ويأسى لأساهم، ويستعين بهم، ويصف لهم حاله وما هو فيه من قيد، ومن حديد مضاعف، ومن غلول، ومن ثياب أخلاق مرقعات. هو مع ذلك لا يفوته أن يبرئ ذمته مما أتهم به، ويؤكد إخلاصه للملك:

ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المسبح الخلاق

إن نكن آمنين، فاجأنا شر مصيب ذا الود والإشفاق

فبرئ صدري من الظلم للسرب وحنث بمعقد الميثاق

ولقد سأنيزيارة ذي قر ... بي حبيب لو دنا مشتاق

ساء ما بنا تبين في الأيدي وإشناقها إلى الأعناق

فاذهبي يا أميم غير بعيد ... لا يؤتى العناق من في الوثائق

واذهبي يا أميم إن يشأ الله ينفس من أزم هذا الخناق

أو تكن وجهة، فتلك سبيل الناس لا يمنع الحتوف الرواقي

وتقول العداة أودى عدي ... وبنوه قد أيقنوا بغلاق

يا أبا سهر فأبلغ رسولا ... أخوتي إن أتيت صحن العراق

أبلغا عامرا، وأبلغ أخاه ... أنني موثق شديد وثاقي

في حديد الفسطاس، يرقبني الحا ... رس، والمرء كل شيء يلاقي

في حديد مضاعف، وغلول ... وثياب منضحات خلاق

فاركبوا في الحرام فكوا أخاكم إن عيراً قد جهزت لانطلاق

ثم هو يتحدث عن أهله مرة ويصف ما يلاقيه، وما يختلج في نفوسهن من نوازع الحذر والإشفاق، فيقول:

وبيتي مقفر إلا نساء ... أرامل قد هلكن من النحيب

يبادرن الدموع على عدي ... كشن خانه خرز الربيب يحاذرون الوشاة على عدي ... وما اقترفوا عليه من الذنوب

وقد أرسل عدي رسالة من سجنه إلى أخيه أبي وهو مع كسرى، يستعطفه، ويستنجده، ويصف حاله:

أبلغ أبيا على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم

بأن أخاك شقيق الفؤا ... د كنت به واثقاً ما سلم

لدى ملك، موثق في الحديد، إما بحق وإما ظلم

فلا أعرفنك كذات الغلا ... م ما لم تجد عارماً تعترم

فأرضك، أرضك، إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم

وان كان عدى قد اخطأ فقد يخطي الصديق! وإن كان ظلم فهذا نصيبه! وهلا تستطيع أيها الملك أن تتدارك الأمر وتجنح إلى الرأي المصيب! وعلى كل، فقد وكل عدي أمره لله وهو رب قريب مستجيب:

فإن أخطأت، أو أوهمت أمرا ... فقد يهم المصافي بالحبيب

وإن أظلم، فقد عاقبتموني ... وإن أظلم، فذلك من نصيبي

وإن هلك تجد فقدي وتخذل إذا التقت العوالي في الحروب

فهل لك أن تدارك ما لدينا ... ولا تغلب على الرأي المصيب

فإني قد وكلت اليوم أمري ... إلى رب قريب مستجيب

هذا عدي: عدي البائس المحزون، والحبيس في سجن صديقه ومليكه النعمان. ولم يكن يتوقع يوما أن يكون في مثل حاله هذا، وإن ماضيه مع الملك، وماضي بيتيهما معا، لم يكن يوحي - لحظة من اللحظات - أن هذه المصافاة والإخلاص والود قد تنقلب آسى ما بعده آسى، وشر تصغر دونه الشرور

وقد استطاع عدي بكل ما أوتى من قدرة على البيان والتعبير، قدرة الفنان البائس المذكور، وأن يرسم لنا صورة له في السجن. ولأهله، وأن يحدثنا عما كان بينه وبين النعمان من مودة وصفاء، وأن يذكر النعمان بأياديه عليه، وأن يذكره بما كان لزيد أبي عدي من ملك الحيرة قبل المنذر آبي النعمان، ويذكره الصهر، ويضرع إليه ألا يشمت به الأعداء

وقد أكره النعمان عديا على إطلاق هند. وما كان ينتظر لهذا الزواج غير هذا، ففارق السن، والطريقة التي تم بها، وعدم مواءمة الزوجين كفاءة كما يرى النعمان، كل هذا كان يشير إلى أن الزواج قد لا يطول اجله، وأن الفراق ينتظر الزوجين بعد حين طويل أو قصير. ثم جاءت الأحداث تتابع، وأضحى هذا الزواج من أسباب النفر بين عدي والنعمان، ودخل الأعداء، وخشي النعمان عديا؛ فكان الحبس، وكان الطلاق

وقد ترهبت هند بعد ذلك في ديرها المعروف بدير هند، وقد بنته حين تنصرت بعد تنصر أبيها على يد عدي، وحبست نفسها فيه، وأعرضت عن الحياة الدنيا بزخارفها ومفاتنها، إلى حياة نبيلة طهور تطمح إليها آمال النصارى المخلصين

واختلفت الرواة، فمن قائل إنها ترهبت بعد طلاقها، ومن قائل ترهبت آسى على زرقاء اليمامة، ومن قائل ترهبت حين قتل كسرى أباها النعمان

وأنا لا أميل إلى القولين الأولين؛ لأنها ما كانت تحزن على زوجها عدي حزنا يفقدها الرغبة في الحياة، ويدعوها إلى الرهبانية، وأنت تعرف ما أحاط بهذا الزواج مما يجعله غير مرجو النجاح، ولأن قصة زرقاء اليمامة، وصلتها بهند، غير واضحة ولا مفهومة. وأما ترهبها لفقدها أباها، فقد يبدو مقبولا ومعقولا؛ لأنه عزها وفخرها؛ ولأنه يصعب على أبناء الملوك أن يعيشوا كالناس بعد جلال الملك وأبهة الملوك، فينزووا في ناحية من نواحي الأرض يعيشون فيها في تستر وخفاء. وكانت هند قريبة عهد بالنصرانية، والمثل السامق الأعلى لها هو الترهب، فلعل نشوة دينية بعد قتل أبيها ألجأتها إلى ديرها المعروف. فهي قد تكون ترهبت حين ألمت بالنعمان الخطوب فوق تأثرها بالمثل الأعلى للنصرانية

وكانت هند تعتز بأبيها، وتحفظ اسمه، وتغار عليه، حتى بعد أن أنزلها الدهر عن مكانتها. ويحدثنا الرواة أن المغيرة بن شعبة لما ولاه معاوية الكوفة مر بدير هند، فنزله ودخل عليها، بعد أن أستأذن عليها، فأذنت له وبسطت مسحاً فجلس عليه، ثم قالت له: ما جاء بك؟ قال: جئت خاطباً؛ قالت والصليب لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم: ملكت مملكة النعمان بن المنذر، ونكحت ابنته، فبحق معبودك أهذا ما أردت؟ قال: إي والله؛ قالت: فلا سبيل إليه؛ فقام المغيرة وانصرف وقال فيها: أدركت ما منيت نفسي خالياً ... لله درك يا ابنة النعمان

فلقد رددت على المغيرة ذهنه ... إن الملوك نقية الأذهان

وقد أيأس أخوة عدي، وهم عند كسرى، ما نزل بأخيهم، فسعوا له، وعملوا على كسر قيده، وراسلوه في سجنه، فلقد كتب إليه أخوه أبي:

إن يكن قد خانك الزمان، فلا عاجز باع ولا ألف ضعيف ويمين الإله. . لو أن جاءوا طحوناً تضيء فيها السيوف ذات رز، مجتابة غمرة الموت، صحيح سربالها تلفوف كنت في حميها - لجئتك أسعى فاعلمن، لو سمعت، إذ تستضيف أو بمال سألت دونك لم يمنع تلاد لحاجة أو طريف

أو بأرض أستطيع آتيك فيها ... لم يهلني بعد بها أو مخوف

إن تفتني والله إلفاً فجوعاً ... لا يعقبك ما يصوب الخريف

في الأعادي، وأنت مني بعيد ... عز هذا الزمان والتعنيف

ولعمري لئن جزعت عليه ... لجزوع على الصديق أسوف

ولعمري لن ملكت عزائي ... لقليل شرواك فيما أطوف

ثم احتال للدخول على كسرى فأخبره، فكتب كسرى للنعمان يأمره بإطلاق عدي. غير أن الوشاة أسرعوا قبل فوات الفرصة، وحرضوا النعمان وخوفوه وأنذروه، أن أبقى على عدي، فبعث إليه أعداءه، فغموه حتى مات

للبحث بقية

محمود عبد العزيز محرم