مجلة الرسالة/العدد 978/التعليم في مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 978/التعليم في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1952


3 - التعليم في مصر

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

كل من استمع إلى بيان سعادة الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف الأسبق في الإذاعة. أو أطلع عليه في الصحف، عن عبث الطلبة في المدارس، واستخفافهم بجميع القيم الخلقية والآداب المرعية، وما تبع ذلك من إغلاق جميع المعاهد التعليمية في البلاد، مما لم يعهد له مثيل من قبل، يعتقد بأن المدرسة المصرية أصبحت في مسيس الحاجةإلى إصلاح شامل، لا يقتصر على مناهجها، بل يتجاوز ذلكإلى نظمها بل إلى روحها، حتى لا تنتهيإلى الفشل في مهمتها. ولقد أصبح واجبا وطنيا على جميع كبار المربين، وعلى رأسهم الأستاذ الكبير معالي رفعت باشا وزير المعارف العمومية، بل وعلى جميع القادة والمفكرين أن يبحثوا وأن يفكروا تفكيرا عميقا في علاج هذه الحال الآسفة المؤلمة، التي تهدد الأخلاق بالبوار، وحياة الأمة كلها - لا قدر الله - بالدمار، والتي أتينا على وصف الكثير منها في مقالينا السابقين بمجلة الرسالة الغراء، ذات الأثر الفعال في العمل على إنهاض هذه الأمة

إن الواجبيقضي علينا أن نذكر زعماءنا وقادتنا بما نحسه من عيوب وعقبات في طريق نهضتنا، لنتعاون جميعا على إصلاح أنفسنا، وواجبنا أن لا نستصغر ما في هذا الأمر الجلل من خطورة، وأن نكون صرحاء فلا نداري ولا نماري لنأخذ الأمر بما يستحقه من جد، وأن لا يكون مثلنا مثل النعامة تغمض عينيها وتخفي رأسها في الرمال، ظنا منها أنها ستفلت بذلك من الصياد، فإذا به يداهمها ويقضي عليها

لقد كان حال مدارسنا قبل ثورة 1919، أي منذ ثلث قرن من الزمان غير حالها اليوم، كان حالها يملأ نفوس طلابها احتراما لها وتقديسا، وكانت نفوس الفتية تمتلئ تقديرا للأساتذة وتقدير للمسؤوليات الملقاة عليهم، ولكن تلك النفوس الفتية كانت كذلك تمتلئ رهبا من النظار وكثير من الأساتذة، فكنا نأخذ على المدرسة ما فيها من شدة وقسوة ورهبة، كما كنا نأخذ عليها ما فيها من بعد عن الحياة الطبيعية في روحها وفي نظامها، ولكن الجد والاحترام والتقديس كانت أسساً تقوم عليها الحياة المدرسية كما هو الحال اليوم حياة المدارس الأجنبية التي بين ظهرانينا، فماذا جد في مدارسنا في السنين الأخيرة، حتى بعد أبناؤها عن الجد والوقار، وركنوا إلى العنت والاستهتار، مما اضطر الكثيرين من الزعماء والكبراءإلى أبعاد أبنائهم عنها، والإلقاء بهم في أحضان المدارس الأجنبية، التي لا شك في أنها تضعف القومية، ويوهن بعضها في نفوس أبنائنا العقيدة الوطنية والدينية، فكيف نغفل طوال السنين عن الفارق الكبير بين مدارسنا وبين تلك المدارس الأجنبية، ذلك الفارق الذي جعل منها مدارس ممتازة يفضلها الآباء الموسرون، ويحبها ويؤثرها على غيرها الأبناء المدللون. إن هذا الفارق واضح في نظمها وبين فيروحها التي تشيع المحبة والتعاطف والتعاون بين أساتذتها وطلابها، فهلا درسنا ذلك وتأملناه وعملنا له في مدارسنا وكلياتنا؟

إن المدارس الأجنبية تستخدم العصي أحيانا في تأديب التلاميذ الذين عز عليها علاجهم، ومدارسنا منعت فيها عصى التأديب من زمن بعيد، ومع ذلك ترى الناشئ في المدرسة الأجنبية التي تهوي بعصاها عليه أحيانا يحترمه ويقدسها، أما عندنا ف. . . . . . .، ولم يبق لدينا اليوم غير كلية واحدةأو كليتين، ومدرسة ثانويةأو مدرستين هي التي حافظت على كيانها ولم تتأثر كثيرا ما جرى في مختلف الكليات والمدارس، فحفظت توازنها واحترام طلابها لها. أعتقد أن كلية الطب من بين الكليات، والمدارسة الثانوية النموذجية هي من بين المدارس الثانوية التي لازال الجد والوقار يحف بهما في عملهما، ولما يتسرب إليهما الفساد الذي سرى في غيرهما، وأسأل الله أن يحفظهما من هذا العبث. فهلا تعرفنا الأسباب الحقيقية لذلك علنا نرسم الخطة المثلى للعودة بالمدرسة المصرية إلى جدها ووقارها!

إن الجفوة بين الطالب وكليته وبين التلميذ ومدرسته، كما وأن الجفوة بين المدرسة المصرية والبيئة المحيطة بها، هاتان الجفوتان اللتان تميزت بهما مدارسنا جفوتان قديمتان، نبهنا إلى علاجهما من زمن بعيد في تقاريرنا وفي مقالتنا وفي كتابنا (التعليم والمتعطلون في مصر) الذي أصدرناه منذ ثلاثة عشر عاما، وقد جاء في مقدمته: (عملت بين جدران المدارس زمانا طويلا، كنت أحس فيه أن المدرسة التي عملت فيها تلميذا، والتي عملت فيها مدرسا، والتي عملت فيها ناظرا، لم ينلها شيء محسوس من التغيير، ولم يتطرقإلى روحها شيء من التجديد، فهي لا زالت تسير على نفس الوتيرة القديمة، مليئة بنفس الروح القديمة، يحس تلميذها إذا ما دخلها بانقطاعه عن العالم وما فيه، إلى شبه سجن غير محبوب إذ لم يوصف بأنه مكروه، ولكنالجميع ظلوا يكتبون عواطفهم إزاءها، لما تجلبه من خير الوظيفةإلى طلابها بعد نيل شهادتها، ظلت المغريات القديمة تدفع الناس دفعاً للسعي إليها)

وجاء في تقرير رفعته إلى معالي وزير المعارف في مارس سنة 1928 ما يأتي: (فالمدرسة الابتدائية وكذا الثانوية لا زالت منفصلة تماما عن البيئة المحيطة بها، يدخلها التلميذ فيتصور أنه في عالم أخر غير عالمه الذي يعيش فيه، ونظرية حشو الأدمغة بالمعلومات البعيدة عن الحياة العملية لا زالت متجسمة في المنهج الجديد تجسمها في القديم، ولا زال كثير من التلاميذ يبغضون المدرسة وذكرها وكل ماله مساس بها)

وجاء في صفحة 18 من مؤلفي السابق الذكر في الكلام عن المستر دنلوب الذي ظل مستشارا للمعارف اكثر من ربع قرن من الزمان في بدء الاحتلال ما يأتي: (بهذه الطريقة أوجد دنلوب بين جدران المدارس نظاما عسكريا جافا شديد، إذ اصبح خير نظار المدارس ذلك الذي يقلده في كبريائه وشدته، فاجتهد كل ناظر إن يقسو القسوة كلها على مرءوسيه وتلاميذه، وحاول المدرس بدوره إن يعامل أبناءه بمنتهى الشدة والجفاء، وأن يبتعد عنهمويتكبر عليهم ما أمكنه الابتعاد والكبرياء، حتى أصبحت العلاقة بين المدرس وتلميذه علاقة عداوة وشحناه، لا عطف فيها ولا مودة ولا هوادة، كل يتربص بصاحبه الدوائر ويحاول إيذاءه بمختلف الوسائل. . . الخ)

ولقد ظل الحال كذلك والمستعمر ينفث سمومه في التعليم، حتى افسد جوه ونجح في تبغيض الأبناء في المدرسة وكل ما فيها، لكن هذا الشعور ظل مكبوتا زمنا حتى ثارت البلاد ثورتها سنة 1919 تطلب حريتها، فبدأ التلاميذ يتمردون على المدرسة، وبدأ شعور الكراهية يظهر شيئا فشيئا ويزداد ظهورا كلما ضغط المستعمر على البلاد، وحاول إخضاعها للحديد والنار، وجاء دور الحزبية التي شجعها المستعمر فلعبت بعقول التلاميذ والطلاب، وزادت نار الحقد والكراهية أوارا حتى صاروا في شبه ثورة جامحة على المدرسة ونظمها وتقاليدها وكل ما فيها، وفقد الأساتذةسلطانهم الروحي والعلمي عليهم، خصوصا بعد أن اضطرتنا ظروف نشر التعليم المفاجئة السريعة أخيراإلى الالتجاء إلى كثير من المدرسين الحديثين، الضعاف في مادتهم والضعاف في أساليبهم وسلطانهم الروحي العلمي.

ولو أن المدرسة كانت محببة إلى أبنائها، ولو إنها كانت متصلة اتصالا وثيقا ببيئتها متفاعلة معها، وكان أساتذتها ذوي سلطان علمي قوي على تلاميذها، ووجد فيها التلاميذ الغذاء العلمي والروحي الذي يطمئنهم ويرضي نفوسهم كما هو الحال في المدارس الأجنبية وفي كلية الطب وفي المدارس الثانوية النموذجية ما فعل الطلبة بمدارسهم هذه الأفاعيل، لما استباحوا أنفسهم حرمانها وعبثوا بمقدساتها، ولو أن المدارس الأجنبية في مصر والمدارس الثانوية النموذجية وكليات الطب كانت غير محببة لدى أبنائها، غير عابئة كغيرها بالاتصال بالحياة المحيطة بها، ذلك الاتصال الذي يجعل منها قطعة من الحياة، لما حرص عليها طلابها، ولفعلوا بها كل فعل غيرهم من الأبناء، فالكل مصريون والكل شعورهم واحد وبيئتهم واحدة

لهذا كله أدعو مجالس الكليات كما أدعو كبار المسئولين عن التعليمإلى دراسة أحوال الكليات والمدارس دراسة عميقة لجعل الحب والتشويق والاتصال المباشر بالحياة العاملة، والتعاون بين الأساتذة والطلاب أسسا حقيقية في حياة المعاهد التعليمية جميعها، وإلى العناية بالغذاء الروحي المقوم للنفوس والقلوب، والكفيل بتقويم الضمائر، ودفعها لحماية جميع المقدسات والحرمات، مع الحيلولة بين الطلاب والحزبية الممقوتة في سبيل القضاء على الفوضى والفساد والترهات، كما أدعو كبار المسؤولين من رجال المعارف إلى البحت والتمحيص في التقاء نظار المدارس والناظرات ممن حسنتسمعتهم وترفعوا عن الدنايا والموبقات، بل ممن ارتفعت شخصياتهم عن كل الشبهات، فهؤلاء خاصة يمكن أن يوجه الأساتذة التوجيه الصحيح، الكفيل بإصلاح حال الأبناء. والله أسأل أن يهدينا صراطه المستقيم، وان يوفقنا إلى استقامة حياتنا واستعادة مجدنا إنه نعم المولى ونعم النصير

عبد الحميد فهمي مطر