مجلة الرسالة/العدد 977/القصص
لترجمات أخرى، أنظر المارد الأناني
مجلة الرسالة/العدد 977/القصص
المارد الذي يحب نفسه
للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد
كان الأطفال قد اعتادوا دخول بستان المارد واللعب فيه حين يعودون من المدرسة عصر كل يوم. وكان بستاناً واسعاً، رقيق الحواشي، قد اكتست أرضه بالعشي الخضر الطري، وانتثرت في أرجاءه الأزهار الجميلة كأنها النجوم. وكانت فيه اثنتا عشرة شجرة من أشجار الخوخ التي تتفتق في الربيع عن أزهار رقيقة زاهية الألوان كأنها اللآلي، تتحول في الصيف إلى ثمار يانعة سائغة. وكانت الأطيار فيه تعتلي غصون الشجر وتغرد في عذوبة تصرف الأطفال عن ألعابهم وتستوقفهم ماخوذين، فلا يملكون أن يعبروا عن نشوتهم بغير هذا القول:
- ألا ما أسعدنا في هذا المكان!
غبر إن المارد عاد يوماً من زيارة أحد أصدقائه الغيلان، بعد أن لبث معه سبع سنين، أنهى في خلالها كل ما أراد أن يحدثه به - فإن محادثته كانت محدودة تنتهي ولا شك - عاد العملاق إلى قصره فرأى الصغار يلعبون ويمرحون في البستان! فصرخ فيهم بصوت خشن غليظ قائلاً:
- ماذا تصنعون هنا؟
فانطلق الأطفال من فورهم هاربين! ثم استأنف المارد صراخه قائلاً:
- إنما هذا البستان ملكي، وذلك ما يستطيع إدراكه كل إنسان، ولست اسمح لا أحد غيري باللعب فيه أبداً:
ثم قام فصنع جداراً رفيعاً سور به بستانه، ورفع لوحة كتب عليها هذا الإعلان:
سيجزى المخالفون شر الجزاء.
فياله من مارد لا يؤثر أحداً بالحب سواه!
ولم يبق حينذاك للأطفال المساكين ملعب يرتعون فيه. لقد حاولوا أن يتخذوا لهم من الشارع ملعباً، ولكنهم زهدوا فيه حين وجدوه مليئاً بالأتربة والأشجار، وظلوا كذلك يحومون حول الجدر الرفيعة - حين ينتهون من دروسهم - لاهجين بحمال ذلك البستان الذي وراء تلك الأسوار، وبأيام سعادتهم التي انتهت، يقولون:
- ألا ما كان أسعدنا هناك!
ثم قدم الربيع وانتشرت بمقدمه الأزهار والأطيار في كل ناحية على الأرض غير بستان هذا المارد اللئيم الذي لم يبرحه الشتاء. أن الأطيار لم يعنها أن تغرد فيه حين غاب عنه الأطفال؛ وإن الأشجار قد نسيت أن تورق أو تزهر. . . ولقد أخرجت إحدى الأزهار الجميلة مرة رأسها من بين الأعشاب فهالها أحزنها أن ترى لوحة الإعلان تمنع الصغار من غشيان البستان، وانسلت هاربة لتستأنف نومها العميق الذي كانت مستغرقة فيه. ولم يكن في العالم أحد قد استولى السرور عليه غير (الثلج) و (الجليد) اللذين قالا في نفسيهما:
إن الربيع قد نسى هذا البستان، ولذلك فإننا سنحيا هنا طول العام!
وكذلك طغى (الثلج) على الإعشاب وأسبل عليها طرف ردائه السابغ، وانتشر (الجليد) على الأشجار فكساها حلة من الفضة ازدانت بها، ثم انهما أمراً ريح الشمال أن تبقى معهما فلبت أمرهما، وجاءت ملتفة بالفراء تصفر طوال النهار خلال البستان والمداخن، فرحة بهذا المكان البهيج.
ثم انهم قرروا دعوت (البرد) فنزل وأنشأ يتحدر كل يوم ثلاث ساعات بشدة حتى يكسر بلاط القصر، فإذا تم منه هذا أمعن هرباً حول البستان يطوف بأقصى ما أوتي من سرعة! لقد كان برداً عجيباً أغبر، وكانت أنفاسه بيضاء كالثلج!
وقد جلس المارد اللئيم ذات يوم في الشباك المطل على البستان الأجرد الشاتي، وقال يحاور نفسه.
- ما أقدر أن أفهم سبب تأخر الشتاء حتى الآن أو ما أظن إلا إن تغيراً قد طرأ على الجو.
ولكن الشتاء لم يأت، ولا جاء بعده صيف ولا خريف، بل إن الخريف نفسه جاء وانضج الثمار في كل بستان إلا في بستان المارد الذي كلن يعرفه الخريف لئيماً لا يحب أحداً غير نفسه!
إن المارد لمضطجع ذات صباح في فراشه فسمع أنغاماً شجية تطرق أذنيه خيل إليه لعذوبتها إنها من فرقة موسيقى الملك حين كانت تجتاز الطريق، ولم تكن تلك الأنغامالشجية غير صدح طائر صغير كان يشدو على بعد من نافذته. لأنه ما سمع من أمد بعيد شدو طائر، فظن إن ما طرق أذنيه أعذب ما في العالم من ضروب الألحان!
ثم إن البرد وقف تهتانه من حوله، وريح الشمال قطعت صفيرها، وهبت على المارد من النافذة نفحة من أريج عبق جميل. فقال المارد في نفسه:
- ما أحسب أن الربيع قد جاء أخيراً. وقفز من فراشه، فماذا رأى!
إنه لمنظر جد جميل!
أولئك هم الأطفال الصغار، قد دخلوا البستان من خلال ثقب صغير وجدوه في أحد الجدر واعتلوا الأغصان وبقوا هناك جالسين. وقد ابتهج الشجر بمقدمهم فأورق، وماس على رؤوسهم في حب وحنان، وكانت الطير تشدو حيناً وتطير حيناً في جذل وابتهاج، والزهر يرنو إلى ذلك بسام الثغور من بين الأعشاب.
- إنه حقاً لمنظر بهيج!
ولكن الشتاء لما يبرح تلك الزاوية القصية التي وقف فيها أصغر الأطفال يعول طيراً، ويطوف بما حوله طوراً آخر، والشجرة المسكينة بقربه ما تزال شاتية. . إن ذلك الطفل لم يتمكن من الوصول إلى الغصن لصغره؛ وكانت الريح الشمالية تعصف حوله، والشجرة تنحني له ما استطاعت وتدعوه قائلة:
- تسلق أيها الطفل الصغير. . . ولكنه لي يقدر على شيء من هذا!!
. . . وأدركت المارد عليه الشفقة حين رآه فقال:
- ألا ما كان اشد إيثاري لنفسي! لقد عرفت الآن سبب انقطاع الربيع من المجيء إلى هنا. . . سأذهب إلى ذلك الطفل فأضعه على الشجرة، ثم أنثنى على الجدار فاهدمه واجعل من بستاني هذا ملعباً وقفاً على الأطفال حتى الأبد. . . واشتد اسفه على ما اكن بدر منه.
ثم إن المارد نزل وفتح بابه في هدوء وسار في بستانه؛ ولكن ما أن رآه الأطفال حتى هربوا، وعاد الشتاء إلى البستان من جديد! ولكن صبياً واحداً منهم لم يهرب، ذلك هو الصغير الذي ملأت عينيه الدموع لما رأى المارد قادماً إليه.
وتسلل المارد إلى الطفل ورفعه بلطف فأجلسه على الشجرة فما كان أسرعها حين أورقت وأزهرت، وما كان أسرع الأطيار حين تساقطت عليها مغردة حائمة حول الصبي الصغير الذي كان يحولها عنه إلى عنق المارد مسروراً، ثم انحنى الطفل على المارد فقبله، فلما رأى أصحابه ذلك أمنوا المارد وعادوا وعاد معهم الربيع، فقال المارد يخاطبهم:
- إنه بستانكم أيها الصغار الآن. ثم تناول معولاً كبيراً فهدم به الجدر القائمة حول البستان. فكان الناس إذا مروا به في طريقهم إلى السوق في منتصف النهار رأوا المارد يلاعب الأطفال في اجمل بستان تقع العين عليه!
وظل داب الأطفال كذلك، يلعبون طوال النهار، حتى إذا أمسى المساء وخيم الليل، جاءوا إلى المارد فحيوه وانصرفوا
وقد سألهم المارد مرة عن صديقهم الصغير الذي كان قد رفعه على الشجرة، فأجابوه، بأنهم لم يروه من قبل، ولا رأوه من بعد، ولا يعرفون أين يسكن. لشد ما حزن المارد على ذلك الطفل الصغير الذي قبله!
بقي الأطفال على هذا: يختلفون إلى البستان عصر كل يوم بعد انتهاء دروسهم، فيلعبون مع صديقهم المارد. . . غير أن الطفل الصغير وحده كان المتخلف من بينهم أبداً. ولكم كان المارد يشتاقه ويحبه، ويتحدث عنه ويتمنى أن لو يراه.
ومضت عللا ذلك السنون تتبعها السنون، فشاخ المارد وعجز عن مشاركة صغاره اللعب. فكان يجلس على مقعد وثير ليتفرج عليهم هانئاً مغتبطاً. وكان يقول في نفسه:
- إن في هذا البستان لكثيرا من الأزهار الجميلة. ولكن اجمل منها في نظري هؤلاء الصغار.
وفي صباح يوم شات - وقد اصبح الشتاء الآن لا يفزع المارد، وإنما هو إغفاءة قصيرة لا يلبث الربيع بعدها أن ينهض بإزهاره وتهاويله - في صباح ذلك اليوم، بينما كان المارد يرتدي ثيابه إذ بصر بشيء هاله. فكذب نظره وكذب نفسه. . . إنه منظر مدهش عجيب! أفي الإمكان هذا؟ شجرة حالية بالنوار الجميل في تلك الزاوية القصية وتحتها طفله الصغير الذي احبه واقفاً؟
هرول المارد نازلاً يستخفه الفرح، وجاز إرجاء الحديقة مسرعاً حتى جاء إلى الطفل، وما كاد يقترب منه ويراه حتى طما غضبه واربد وجهه، وسأله قائلاً حين بصر بآثار مسمارين على يديه ومثلهما على رجليه:
- من ذا الذي تجرأ فجرحك؟ قل من ذا الذي تجرأ عليك ففعل؟ فأجابه الطفل الصغير:
- كلا. . . ما هذه جروح حقيقة، إنها جروح الحب! وهنا استولت على قلب المارد الرهبة والخشوع فخر ساجداً أمام قدمي طفله وسأله قائلاً:
- من أنت إذاً؟
فأجابه الطفل باسماً: أنا الصبي الذي سمحت لي مرة باللعب في بستانك هذا؛ جئت لآخذك معي إلى بستاني الذي هو الفردوس.
وحينما عاد الأطفال عصر ذلك اليوم كعادتهم، وجدوا المارد ميتاً في مكانه تحت الشجرة، وقد نثرت على جثمانه الأزهار والنور الأبيض الجميل.
ف. س