مجلة الرسالة/العدد 975/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 975/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 03 - 1952



رياح وشموع

شعر: كمال نشأت

للأستاذ محمد محمود زيتون

هذه مجموعة رقيقة من شعر الشباب، ضمت أصدق الأحاسيس، التي اهتزت لها مشاعر الأستاذ الشاعر كمال نشأت، وقد ملك الربيع عليه سمعه وبصره، فغفا عن صخب الناس، ومضى إلى الطبيعة يستجليها، فواتاه الإلهام وساعفه النغم.

ولا عجب، فهو من شباب الإسكندرية، أمسى وأضحى بين عينيها، فافتن بالأنسام، واحتفل بالأمواج، واختلى بالأسحار والأصائل، فتصيد لقيثارته الشادية أوتار الربيع، فامتزج النغم الناعم بالموج العتى، وخفقت (الشموع) في رعونة (الرياح) العواصف؛ والربيع في حناياه دوى لا يبلى مع الخريف الحائل، والهجران الموحش.

يستهل الشاعر مجموعة (رياح وشموع) بالقطعة الجميلة التي عنوانها (ربيعي) وهنا نضع بين يدي القارئ مفتاح الشاعرية الذي يهدى إلى أسرار نفسه: فليس الربيع خضرة وزهرة. أو جدولاً وبلبلاً. . أو بعضاً من تلك المفاتن التي تجتمع عليها الحواس المشتركة هذه الدنيا، ولكن الربيع عند الشاعر معان مجردة له أن يمنحها ما يشاء من الأصباغ، وله أن ينغمها بحيث ينفرد هو بتوقيعها على قيثارته في محاريب الفن.

لهذا، كان ربيع شاعرنا معنى جديداً له معالمه ومعارفه، فالحياة في تقلباتها (ربيع خالد لا ينهي) بحيث لا يغفو مع الخريف، ولا يعسو مع الظلام، فليتأمل القارئ هذين البيتين وبينهما سبعة أبيات رقاق:

وبمهجتي أجد الربيع مجدداً ... أبداً نضيراً في الشعور الناضر

أنا في الخريف أرى ربيعاً غافيا ... وأكاد ألمسه صنيعة ساحر

ويسبح بعد ذلك في الآفاق الفساح، دافعاً بجناحيه الذهبي هذا السحاب، متنقلا على بساط سليمان من الروض إلى الميناء إلى محطة الرمل إلى التزام إلى تريانوه إلى العيون النواعس إلى الشاطئ، والربيع من حوله: هالة مشعة أو بسمة دافقة، يقول:

هو في دمي خلد وبين أضالعي ... فجر أوائله بها كأواخر

لي خافق يجد الربيع منوعا ... في كل مرأى يستبين لناظري

لي خافق يجد الربيع بكل ما ... يلقاه من ماض لدى وحاضر

في البحر، في القفر الجديب، وفي لظى ... بين الجوانح، في ظلام مغاور

في بسمة الطفل الصغير تكشفت ... عن طهره في روعة لعباقر

في غنوة العصفور في ألق الضحى ... في ضجة الموج العتي الهادر

وإذا عاد ربيع الناس، ترنم شاعرنا بهذا النشيد العذب

(نداء الربيع) فيقول:

عاد الربيع ومهجتي ... فيها ربيع ناضر

شعر، وأحلام، وأنغام، وشوق زاخر

عاد الربيع فعدت أسمع بين أحنائي خطاه

همس يدب مجددا ... في القلب أفراح الحياه

ولئن تملك الربيع شاعرنا الملهم، فلا أقل من أن يمتزج بتهاويله فتراه - وهو على ضفاف (بحيرة البجع) - يتمنى أن يكون عطراً أو ريشة أو ظلاما أو صباحاً أو سكوناً أو ظلاما، ولكنه قلب أسير في يد الحقيقة، فيناجي البجعات السابحات الفاتنات:

آه لو كنت في رحابك عطراً ... في زهور على غصون وريقة

آه لو كنت ريشة في جناح=لطيور منعمات رشيقة

آه لو كنت في مياهك ظلا ... غائصاً يرتقي الزهور العريقة

كم تمنيت أن أكون صباحاً ... ناعساً حالماً رغيباً شروقه

كم تمنيت أن أكون سكوناً ... في كهوف بين الجبال سحيقة

كم تمنيت أن أكون ظلاماً ... ناشراً ستره محبا سموقه

كم تمنيت أن أكون، وما كنت سوى مهجة بأسر الحقيقة

وتراه يزف (نسمة الفجر) إلى دنيا الناس فيقول:

هبي على القفر الجديب، على السهول، على البحور روحاً تعانق كل ما تلقاه، طاهرة الضمير

وتوحد الكون الكبير، بحبها العف الكبير

وتثير في القلب فرحة الطفل الغرير

دوري بأحلام الربيع، وعطره بالأفق دوري

وتناثري فرحاً، وأحلاماً ... على الروض الشجير

إنه لا شك شاعر هيمان، له قلب أخذ يرق ويروق حنى صار فلذة من الطبيعة الحافلة بالجمال، فهو يقول:

فوق هذي الظلال سرنا ظلالا ... ضاحكات على الظريق الوديع

ويبدو هذا المزاج الشاعري في نغماته الموزعة بين (الليل الربيعي) و (البرعم الشفقي) و (همسة الصبح الخجول) ولا يعبأ بعد ذلك بالعواصف الهوج و (الضياء المقرور) والشموع الخوافق، فلأمل يحدو له بنشيد (الصباح العطوف)

إن قسا الليل ظلمة ورياحاً ... فالصباح العطوف في أحنائي

والسكون العميق بين ذراعينا ... ودفء الدماء في الأعضاء

أطفئي خافق الشموع، وخلينا ظلاماً إلى مجيء الضياء هذه بعض الرؤى الباسمة. والظلام الخفاف، التي تسابقت إلى خيال الشاعر كمال نشأت، فاهتزت لها ريشته الصناع، ما كدت أفرغ من ترتيلها حتى رأيتني صادق الرغبة في إشراك قراء الرسالة معي في الإعجاب بها، والتقدير له، فله مني أخلص التهنئة على براعته في التقاط الهمسات والبسمات والنسمات التي صاغها مع الربيع في (رياح وشموع)

محمد محمود زيتون

-