مجلة الرسالة/العدد 974/شعراء من أشعارهم:
مجلة الرسالة/العدد 974/شعراء من أشعارهم:
عدي بن زيد العبادي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
- 2 -
حين مات المنذر كان عدي رجلا شديدا ثقة يستعان به في جلائل الأمور وعظائمها، وكان يعمل في ديوان كسرى، وكان على صلة بالحيرة وما يجري فيها، وقد خلف المنذر أبناء يرفعهم بعض الرواة إلى عشرة، ويرفعهم آخرون إلى ثلاثة عشر، ولكن السيدين المنظور إليهما فيهم جميعا هما: النعمان والأسود. وقد قدمت لك أن المنذر دفع بالنعمان إلى حجر عدي بن زيد وأهل بيته لتربيته وتقويمه. وأما الأسود فقد تولاه، وأرضعه، ورباه، قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا، كانوا أشرافا. وكان أولاد المنذر جميعا يقال لهم الأشاهب من جمالهم وبياض وجوههم. وقد قال فيهم أعشى قيس بن ثعلبة:
وبنو المنذر الأشاهب في الحي ... رة يمشون غدوة كالسيوف
ولما أحتضر المنذر وخلف أولاده حار كسرى فيمن يعقد له أمر الحيرة، وأراد أن يختبر أبناء المنذر ليرى أيهم أحق بهذا الفضل، فبعث في طلبهم بمشورة عدي، ولما خلا بهم عدي - كما تروي كتب الأدب - أوصى كلا منهم بوصية مغشوشة مدخولة، إلا النعمان فقد محضه القول وأخلص له النصح. ولما دخلوا جميعا على كسرى يأكلون، كان النعمان في ثياب السفر ومتقلدا سيفه، وعظم اللقم، وأسرع المضغ والبلع، وزاد في الأكل، تبعا لوصية عدي، على غير ما فعل أخوته؛ فقد تباطئوا في الأكل، وصغروا اللقم، ونزروا. فأعجب كسرى بما فعل النعمان وولاه الحيرة.
وأنت ترى من هذا، ومما سبق، أن فضل عدي بن زيد على النعمان بن المنذر سابغ. ولذلك لم يكن من العجيب أن كان صديق الملك النعمان، وجليسه، ونديمه، في كل يوم لقية وخطاب، يخرجان للصيد معا، ويرجعان معا. وارتفعت أسهم عدي؛ فقد أحتال للنعمان وولاه، وغدا النعمان ملك الحيرة، ورثها بعد أبيه المنذر. ولم يكن بنوا مرينا ليرضوا عن النعمان، فإنهم أرادوا ربيبهم ورضيعهم الأسود ملكا للحيرة، ولكن تدبير عدي قرب ال من كسرى وأبعد الأسود.
ويذكر للرواة أن النعمان كان قد خرج يتنزه بظهر الحيرة ومعه عدي بن زيد، فمرا على المقابر من ظهر الحيرة ونهرها؛ فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا. ما تقول؟ فأخبر عدي أنها تقول:
أيها الركب المخبو ... ن على الأرض المجدون
كما أنتمو كنا ... وكما نحن تكونون
فانصرف النعمان وقد دخلته رقة، فمكث بعد ذلك يسيرا، ثم خرج خرجة أخرى فمر على تلك المقابر ومعه عدي، فقال عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ إنها تقول:
من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال
وصروف الدهر لا يبقي لها ... ولما تأتي به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فدم ... وجياد الخيل تردى في الجلال
عمروا دهرا بعيش حسن ... آمني دهرهمو غير عجال
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر يودي بالرجال
وكذلك الدهر يرمي بالفتى ... في طلاب العيش حالا بعد حال
فرجع النعمان وتنصر وكان من قبل يعبد الأوثان. وليس بعيدا أن يؤثر عدي في النعمان هذا التأثير؛ فقد مضى بيان ما بينهما من صلات وثيقة، وما قدم عدي للملك من جميل، وكان عدي أكبر سنا وأعلم، وكان له في نفس النعمان منزلة الوالد، ولذا فليس من البعيد أن يتنصر على يد عدي. وقد تنصر أبناء بيته أيضا، وبنوا البيع والصوامع، وبنت هند بنت النعمان بن المنذر ديرا بظهر الكوفة، يقال له دير هند.
وقد أحب عدي بن زيد هند بنت النعمان على فرق ما بينهما في السن؛ فقد كان عدي أكبر من أبيها النعمان، ومن شعره فيها
علق الأحشاء من هند علق ... مستسر فيه نصب وأرق
وفيها أيضا يقول:
يا خليلي يسرا التعسيرا ... ثم روحا فهجرا تهجيرا عرجا بي على ديار لهند ... ليس أن عجتما المطي كبيرا
ويقول.
من لقب دنف أو معتمد ... قد عصى كل نصيح ومفد
ليس أن سلمى نأتني دارها ... سامعا فيها إلى قول أحد
ويذكر أنه يصبي ظباء مترفات، يرفلن في الدمقس، ويكفين شؤونهن، وهن بنات كرام، مطيبات بالعبير:
بنات كرام لم يربن بضرة ... دمى شرقات بالعبير روادعا
يسارقن من الأستار طرفا مفترا ... ويبرزن من فتق الخدور الأصابعا
ومن المقبول أن يكون قد سار حب عدي عند هند، وعرفه الناس، وتحدثوا به، وبلغ النعمان شيء من هذا. ويحدثنا عدي أن سلمى (هند) مهما نأت دارها، ومهما نهاه عن التعلق بها الناصحون أو اللائمون، فهو لن يسمع إلى قول أحد. ثم هو كان يدخل بيت النعمان، فكان يرى بنات كرام ممتلئات مطيبات بالعبير، وحين يدخلن كن يسارقن النظر بطرف مفتر، ويبرزن أصابعهن من فتق الخدور - ذلك لأنه كان يصبى الضباء النواعم المنشآت في الدمقس والحرير.
والنعمان رجل عربي، يحفظه أن يتعرض أحد لفتاته بذكر، أو أن يقول فيها شعرا. وعدي قد تعرض وقد قال الشعر. ولا يبعد أن يكون النعمان قد عرف هوية عدي، وسمع شعره، بطريقة أو بأخرى.
وقد أجمعت الروايات على أن عديا صاهر النعمان. وأكثرها على أنه تزوج بنته هند. وقد دفع عديا حبه هند أن يتلمس الزواج بها. وقد تزوج بها، وهي يومئذ جارية، حين بلغت أو كادت. وقد طلبها إلى النعمان بطريقة خادعة، وهي أنه صنع طعاما واحتفل فيه، ثم أتى إلى النعمان وسأله أن يتغدى عنده هو وأصحابه، ففعل، وسقاه عدي، فلما أخذ منه الشراب خطبها إليه، فأجابه النعمان وزوجه، وضمها إليه بعد ثلاثة أيام.
ولم يكن هذا الزواج موفقاً فيما يظهر؛ إذ كان فارق السن بين الزوجين كبيرا، فقد كان عدي أكبر من النعمان، وهو قد قومه ورباه، ومعنى هذا أنه كان في سن تجوز له أن يكون أستاذا كاملا جديرا بتهذيب وتقويم أولاد الملوك - ثم كبر النعمان، وتزوج، وأنجب. وبعد هذا كله جاء عدي يخطب إلى العمان أبنته هند، وهي جارية، حين بلغت أو كادت. وجاء يخطبها بطريقة لا تليق بخطبة بنات الملوك، فقد أسكر النعمان حتى أخذ منه الشراب، وحتى أصبح لا يستطيع الاختيار ولا التعرف بمحض رغبته وملء إرادته، ثم طلب إليه أبنته.
وقد كان عدي شبب بهند، وقال فيها الشعر، وأعلن حبه، وعصى الناصحين فيها، فكأن الناس علموا بهذا الحب، فمنهم الناصح، ومنهم اللائم، ومنهم الدساس المتربص.
فكل الظروف التي أحاطت بهذا الزواج لا تهدي إلى التوفيق، فالتشبيب بالفتاة في العرف العربي - والنعمان عربي - سبب يمنع زواجها ممن شبب بها وتغزل فيها، ثم الطريقة لا تسوغ في عرف الملوك ولا غيرهم، ثم فارق السن لا يستهان به وبأثره في الزواج الموفق.
وقد يكون النعمان حين صحا من سكرته بداله غير الذي عقد، وبداله أن الزواج غير متكافئ وغير جائز، ولكنه قد ألزم نفسه بما قطعه عليها من قبول عدي زوجا لابنته هند، وهو قبول خير منه الرفض، وبشاشة خير منها العبوسة والاكتئاب.
وفي مثل هذه الظروف القائمة صحت الفتنة، أو هي تحركت، فقد كانت متيقظة من بعيد، يوم انحاز عدي في ديوان كسرى إلى النعمان، وفضله على سائر أخوته وبخاصة الأسود، وعمل على أن يكون ملك الحيرة بعد المنذر، ونجح فيما أراد وأختار، وأصبح النعمان ملكا، وأصبح هو صديق الملك ورفيقه في التنزه بظهر الحيرة في طريقهما المقابر، غاديين رائحين.
للبحث صلة
محمود عبد العزيز محرم