مجلة الرسالة/العدد 974/المرأة المسلمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 974/المرأة المسلمة

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1952



للأستاذ علي الطنطاوي

أنا أغتاظ وأتألم كلما سمعت الناس يضربون الأمثال بنساء اليهود: بقتالهن في الحروب وعملهن في المعامل والحقول، لأني أجد في ذلك جهالة بتاريخنا، وبسلائقنا، وبما كانت عليه المرأة منا.

إنكم تحسبون أن نساء العرب كن - مذكن - كأكثر من نرى من النساء، جاهلات خاملات، يثرن المشكلات، وينغصن عيش الرجال، أو مترفات مدللات همهن صبغ الوجوه، وتلوين الأظفار، وإنفاق الأموال، فتعالوا أخبركم كيف كانت المرأة على عهد الرسول، صلوات الله عليه، كيف عملت في بناء هذا الصرح العظيم، وشاركت في إقامة الدولة الإسلامية، وكيف سعى نساء من النساء في كل مجال كان يسعى فيه الرجال، في مجال الدين والتقوى، ومجال العلم والأدب، ومجال المعارك والحروب.

وكيف كان منهن (المرأة العاقلة) الحكيمة كخديجة التي وضعت ثاني حجر في صرح الدعوة، وكانت ركنا قويا للإسلام في فجر الإسلام، والتي أخذت بيد النبي صلى الله عليه وأيدته بمالها الكثير، وقلبها الكبير.

و (المرأة العالمة) المعلمة كعائشة التي كانت أستاذة عصرها، وكان فحول العلماء تلاميذ لها، وكانت أعجوبة في سعة روايتها، وحدة تفكيرها، وبلاغة لسانها، وقوة جنانها، حتى دفع بها نشاطها إلى ما ليس من شأنها، فاقتحمت ميدان السياسة وما خلقت له وما خلق لها، لا بالسان والرأي بل بالنار والحديد، فكان من ذلك ما كان.

و (المرأة الأديبة) التي خدمت بالدعاية اللسانية، وبالشعر يوم كان الشعر هو الصحافة وهو الإذاعة وهو سبيل الدعاية لا سبيل غيرها، كصفية، ونعم بنت سعيد، وهند بنت أثاثة.

لما انتهت معركة أحد على غير ما يبغي المسلمون، بمخالفة من خالف منهم الرسول، وقامت هند بنت عتبة على صخرة تقول.

نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر

انبرت لها بنت أثاثة ترد عليها. تقول لها:

خزيت في بدر وبعد بدر ... يا بنت وقاع عظيم الكف صبحك الله غداة الفجر ... ملها شميين الطوال الزهر

و (العاملة في المصالح العامة) كأسماء بنت الصديق، يوم الهجرة، حين كانت تحرس منافذ الأخبار إلى قريش، وتحمل الطعام إلى المهاجرين العظيمين وتصبر على عدوان قريش عليها. ولطم الخاسر أبي جهل خديها لتخبره أين رسول الله، فلا تخبره، وحين قدت نطاقها، فربطت بشقة السفرة وانتطقت بالآخر فدعيت من ذاك بذات النطاقين.

وأنتم تعرفون موقفها العظيم، العظيم، يوم قتل ابنها أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، ذلك الموقف الذي لم يكد يروي التاريخ موقفا مثله لأخرى من بنات حواء.

و (المرأة في الدفاع السلبي) بل الدفاع الحربي، كما صنعت صفية لما كانت في الحصن مع النساء وكان الصبيان والرجال في الجبهة، فرأت يهوديا يطيف بالحصن فخافته على النساء والصبيان أن يؤذيهم أو يدل العدو عليهم، فشدت وسطها ونزلت إليه بالعمود، فضربته حتى قتلته.

كان نسانا يقتلن أبطالا. . فيهود، فصار نساء اليهود، بفضل سلطتنا وأمرائنا. . يقتلن رجالنا!

وكان منهن (الممرضة المواسية) كرفيدة التي جعلت من خيمتها مستشفى سيارا، تداوي فيه الجرحى، وتحبس نفسها على خدمتهم، والترفيه عنهم، ترفيه الحق لا ترفيه الفسوق والفجور. . . ولما أصاب البطل الخالد سعد بن معاذ السهم يوم الخندق قال رسول الله: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب.

وكان النساء يخرجن مع الرسول، وشهد خيبر منهن جماعة أعطاهن من الفيء، لا يخرجن للجهاد بأعراضهن وفتنة المجاهدين بجمالهن، بل للعمل في (الوحدات الصحية) والحراسة والتحميس والاشتراك في القتال أن دعت الضرورة إلى القتال.

والقائمات بمثل أعمال (الكمندس) في هذه الحرب. . .

أغار عيينة بن حصن على لقاح رسول الله صلى الله عليه في (الغابة) فاستاقها، وكان فيها رجلا من بني عقار وامرأته فقتلوا الرجل، وسبوا المرأة، فلم تجزع ولم تفزع، ولم تبك ولم تولول، بل قاومتهم مقاومة اللبؤة حتى أفلتت منهم على ناقة من إبل الرسول فوردت بها عليه، فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحرها إن نجاني الله عليها، فتبسم رسول الله وقال: (ليعلم المسلمين): بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها، ونجاك بها، إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين.

وكان منهن (المرأة الصابرة) على ما يعجز عنه الصبر، ويضيق عن احتماله الصدر. لقد أصبت حمنة بنت جحش يوم أحد بأخيها عبد الله، وخالها حمزة سيد الشهداء، وزوجها مصعب رائد الإسلام، فثبتت كيلا يرى وهنها المشركون، وفي قلبها مثل حز المواسي.

وهذه امرأة من بني دينار، قتل زوجها وأخوها وأبوها في الوقعة، فلما خبت بهم، بلغ بها عظم الإيمان أن سألت: ما حال رسول الله؟ فلما قالوا لها: هو حي، قالت: كل مصيبة بعده هينة.

ومنهن (المرأة المقاتلة) التي تأتي بالبطولات.

هذه أم عمارة - نسيبة المازنية - خرجت لترى ما يصنع الناس، ومعها سقاء ماء لتسقي العطاش من الجند، وكانت الدولة والصولة للمسلمين أول النهار، فلما أنهزم المسلمون، وداخلتهم الدهشة لما كان من هبوط الرماة عن أحد، وكرة فرسان المشركين، كانت هذه المرأة أثبت من الرجال قلبا، وأجر أيدا، فلم تهزم ولم يجرفها التيار، بل أخذت سيفا من ساحة المعركة، وجعلت تدافع مع الرسول، حتى أثخنتها جراحها.

قالت أم سعد رواية الخبر: وكشفت لي (أي أم عمارة) عن عاتقها بعد سنين طويلة، وإذا جرح غائر أجوف، قلت: من أصابك بهذا يا خالة؟ قالت: أبن قمئة أقمأه الله لما ولى الناس، أقبل يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، فاعترضت له.

يا أيها القراء، أرجو أن تقفوا لتتصوروا الموقف: الجيش منهزم، وهذا الفارس يهجم بسلاحه وجبروته كالثور الهائج، والرجال تنتحي عن طريقه، وهذه المرأة العربية المسلمة، تعترض له، وتثب في وجهه تعترض طريقه إلى محمد، فيضربها فلا تزيح بل تضربه بسيفها، فلا ينجيه إلا أنه بدرعين!

قالت: فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته مع ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان!

وهذه أم سليم تثبت في هوازن في الموقف المهول الذي انصدعت فيه أفئدة عشرة آلاف بطل، فانهزموا إلا رسول الله وصحابته الأدنين، فالتفت فرأى أم سليم، مع زوجها أبي طلحة، وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنها لحامل! وتمسك جملها وقد أدخلت يدها في حزامه، قال:

- أم سليم؟

- قالت، نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين يفرون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل.

قال: أو يكفي الله يا أم سليم؟

ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة:

- ما هذا الخنجر معك؟

- قالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به.

قال أبو طلحة، مفتخرا بها، مداعبا إياها:

- ألا تسمع يا رسول الله، ما تقول أم سليم الرميصاء؟ وهي حامل يا ناس! وهي حامل!!

أما معاملته صلى الله عليه النساء، فكانت أروع مثل يضربه السيد المهذب، والبطل النبيل، والأب الحاني، والصديق الوفي، ولا يتصور الوهم أرق منها معاملة ولا عطف ولا أنبل ولا أشرف، ولا أحب أن ألخص لكم هذا النص التاريخي، فاسمعوه بالحرف، من فم فتاة صغيرة من آل غفار، متطوعة في الجيش، قالت:

أتيت رسول الله في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله؛ قد أردنا أن نسير معك إلى وجهك هذا (وكان متوجها إلى خيبر) فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: على بركة الله.

فخرجنا معه، وكنت جارية حدثة (أي صبية صغيرة) ولم يكن لي ما أركبه، فأردفني رسول الله وراءه على حقيبة رحله وإذا بها دم مني، وكانت أول حيضة حضتها، فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى الرسول ما بي ورأى الدم قال:

- مالك؟ لعلك نفست؟

- قلت: نعم

- قال: أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا فاغسلي به ما أصاب الحقيبة، ثم عودي لمركبك.

وأمر رسول الله بعد هوازن بالقبض على مجرم يقال له بجاد من بني سعد بن بكر فساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث فنعفوا عليها في السياق، فقالت:

- تعلموا (أي أعلموا) أني أخت صاحبكم من الرضاع فلم يصدقوها، فلما انتهوا إلى رسول الله قالت:

- يا رسول الله. إني أختك من الرضاع.

قال: ما علامة ذلك؟

- قالت: عضة، عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه، وقال:

- إن أحببت فعندي محبته مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك.

فاختارت الرجوع إلى قومها.

ولعلكم تقولون: كيف كان هذا الاختلاط؟ كان على التصون والحجاب الشرعي، وعلى غض البصر، وامتلاء القلوب بالخوف من الله، وبالغاية التي تشغل عن شهوات النفس، ومع ذلك فإن الله علمهم درسا عظيما في ضرر خلوة رجل بامرأة ليس معهما ثالث، اتهمت فيه أشرف امرأة في الناس، وكاد الناس يصدقون التهمة، حتى أنزل الله براءتها من سبع سماوات.

هكذا كانت المرأة العربية المسلمة، جمعت أطراف الفضائل، وحازت خلال الخير، وكانت للدين والدنيا، للعلم وللأدب، للدار والحياة، كان هديها القرآن، ودليلها الشرع، وغايتها رضا الله، والنجاة في الآخرة.

فأين نساؤنا اليوم؟

علي الطنطاوي