مجلة الرسالة/العدد 972/طريق وحيد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 972/طريق وحيد

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1952


للأستاذ سيد قطب

يوماً بعد يوم يتبين أن هنالك طريقاً معيناً للشعوب الإسلامية كلها في هذه الأرض، يمكن أن يؤدي بها إلى العزة القومية، وإلى العدالة الاجتماعية، وإلى التخلص من عقابيل الاستعمار والطغيان والفساد. . طريقاً وحيداً لا ثاني له، ولا شك فيه، ولا مناص منه. . طريق الإسلام، وطريق التكتل على أساسه.

إن أحداث العالم، وملابسات الظروف، وموقف الشعوب الإسلامية. . كلها تشير إلى هذا الطريق الوحيد، الذي لا تمليه عاطفة دينية، ولا تحتمه نزعة وجدانية. إنما تمليه الحقائق والوقائع، ويمليه الموقف الدولي، ويمليه حب البقاء، وتلتقي عليه العاطفة والمصلحة، ويتصل فيه الماضي بالحاضر، وتشير إليه خطوات الزمن، ومقتضيات الحياة.

لقد أكلنا الاستعمار الغربي فرادى، ومزقنا قطعاً ومزقاً يسهل ازدرادها، وأرث بيننا الأحقاد والمنافسات لحسابه لا لحسابنا، وجعل له في كل بلد إسلامي طابوراً خامساً، ممن ترتبط مصالحهم بمصالحه، وممن يرون أنفسهم أقرب إلى هذا الاستعمار منهم إلى شعوبهم وأوطانهم؛ وأقام أوضاعاً معينة في كل بلد إسلامي تسمح له بالتدخل، وتملي له في البقاء، وتضمن له أنصاراً وأذناباً في كل مكان.

فإلى أين نتجه لنكافح الاستعمار وأذنابه وأوضاعه؟ إن أناساً من المخدوعين والمغرضين، يدعوننا أن نتجه إلى الكتلة الشرقية. الكتلة الشرقية التي تمحو الإسلام والمسلمين محواً منظما ثابتاً في أرضها، منذ أن استقرت فيها الشيوعية، والتي تتخذ مع المسلمين في أرضها من وسائل الإفناء المنظم ما لم يعرفه التتار ولا الصليبيون في أشد عصورهم قسوة وفظاعة.

لقد كان عدد السكان المسلمين في الأرض الروسية اثنين وأربعين مليوناً عند ابتداء الحركة الشيوعية، فتناقص عددهم تحت مطارق الإفناء المنظم، والقتل والتجويع والنفي إلى سيبريا حتى وصلوا في خلال ثلاثين عاماً فقط إلى ستة وعشرين مليوناً. . ستة عشر مليوناً من المسلمين في الأرض الروسية وحدها قد أبيدوا. . أما في الصين الشيوعية فالمأساة تتكرر الآن في تركستان الشرقية، بنفس الوسائل ونفس الشناعة. . وفي يوغوسلافيا تتم حركة التطهير من العنصر الإسلامي. . وفي ألبانيا كذلك. . كل أرض مستها الشيوعية قد نزلت فيها النقمة على رؤوس المسلمين بشكل وحشي يروي الفارون منه أخباره وتفصيلاته، كما تروى أساطير الهمجية الأولى.

ولقد ذاق المسلمون من قبل على يد القيصرية الروسية ما ذاقوا باسم العصبية الدينية. . فأما اليوم فهم يذوقون الويل نفسه، بل أشد وأشنع ولكن باسم العصبية الشيوعية. . وهي في حقيقتها روح واحدة: الروح الصليبية التي لا تنساها أوربا أبداً، مهما تبدلت فيها النظم. . الروح الصليبية التي نطق باسمها المارشال (ألنبي) وهو يدخل بيت المقدس في الحرب العظمى الماضية فيقول: (الآن انتهت الحروب الصليبية) والتي ينطق باسمها الجنرال كاترو في دمشق سنة 1941 فيقول: (نحن أحفاد الصليبين، فمن لم يعجبه حكمنا فليرحل!) وينطق باسمها زميل له في الجزائر سنة 1945 بنفس الألفاظ والمعاني. . إنها هي هي في أوربا كما هي في أمريكا، وكما هي في البلاد الشيوعية. . كلها تنضح من إناء واحد: إناء الحقد على الإسلام، والتعصب الصليبي الذميم. يضاف إليه تعصب الشيوعية ضد الأديان جميعاً. وضد الإسلام على وجه الخصوص.

ويتشدق أقوام هنا بالحرية الدينية في الكتلة الغربية، كما يموه أقوام بالحرية الدينية في الكتلة الشرقية. . وكلهم خادع أو مخدوع، والحوادث والوقائع تنطق بأن المسلمين غير مرحومين عند الغرب أو عند الشرق. . فكلاهما عدو غير راحم! إن الغرب الذي يمتص دماء المسلمين بالاستعمار القذر اللئيم. وإن الشرق لهو الذي يبيدهم إبادة منظمة تتولاها الدولة تحت شتى العناوين!

ويعرض علينا المخدوعون أو الخادعون أحياناً نصوص الدستور السوفييتي، ومادة فيه تنص على حرية الاعتقاد. . نعم لك حرية الاعتقاد في الاتحاد السوفييتي، على ألا تسلم لك بطاقة للتموين - وليس هنالك وسيلة غير هذه البطاقة لتحصل على الطعام والشراب والكساء - ولك أن تعبد الله إذن كما تحب، ولكن ليس لك أن تأكل من مخازن الدولة! وأنت وما تشاء: الموت جوعاً مع الله! أو الحياة الحيوانية مع ستالين!

إنه ليس الطريق أن ننضم إلى كتلة الغرب أو كتلة الشرق كلتاهما لنا عدو، وكلتاهما كارثة على البشرية، وعلى الروح الإنسانية. . لقد تكون الشيوعية في أرضها نعمة على أهلها، ولقد تكون الديمقراطية في أرضها نعمة على أهلها. . ولكن هذه وتلك بلاء ونقمة على الشعوب الإسلامية. الاستعمار بلاء واقع يجب كفاحه وإجلاؤه. والشيوعية بلاء واقع كذلك على ملايين المسلمين الواقعين في براثنه. والوطن الإسلامي كله وحدة، ومن اعتدى على مسلم واحد، فقد اعتدى على المسلمين أجمعين.

إنه ليس الطريق أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة هنا أو هناك؛ فلقد حارب الاستعمار الغربي كل مقوم حقيقي من مقومات الإسلام، وإن تظاهر بالإبقاء على المظاهر المموهة التي لا تقاومه ولا تكافحه. . وحينما اجتمع مؤتمر جميع المبشرين في جبل الزيتون بفلسطين عام 1909 وقف مقرر المؤتمر ليقول: إن جهود التبشير الغربية في خلال مائة عام قد فشلت فشلا ذريعاً في العالم الإسلامي لأنه لم ينتقل من الإسلام إلى المسيحية إلا واحد من اثنين: إما قاصر خضع بوسائل الإغراء بالإكراه، وإما معدم تقطعت به أسباب الرزق فجاءنا مكرهاً ليعيش. وهنا وقف القس زويمر المعروف للمصريين ليقول: كلا! إن هذا الكلام يدل على أن المبشرين لا يعرفون حقيقة مهمتهم في العالم الإسلامي. أنه ليس من مهمتنا أن نخرج المسلمين من الإسلام إلى المسيحية. كلا! إنما كل مهمتنا أن نخرجهم من الإسلام فحسب، وأن نجعلهم ذلولين لتعاليمنا ونفوذنا وأفكارنا. ولقد نجحنا في هذا نجاحا كاملا؛ فكل من تخرج من مدارسنا، لا مدراس الإرساليات فحسب، ولكن المدارس الحكومية والأهلية التي تتبع المناهج التي وضعناها بأيدينا وأيدي من ربيناهم من رجال التعليم. . كل من تخرج في هذه المدارس خرج من الإسلام بالفعل وإن لم يخرج بالاسم. وأصبح عوناً لنا في سياستنا دون أن يشعر، أو أصبح مأموناً علينا ولا خطر علينا منه!. . لقد نجحنا نجاحا منقطع النظير. .

هذا موقف الكتلة الغربية. فأما الكتلة الشرقية، فقد اختارت الإفناء المنظم، والإبادة الوحشية بمعرفة الدولة، وما تزال ماضية في طريقها لمحو الإسلام والمسلمين!

إن طريقنا واضح. طريقنا الوحيد أن نمضي في تكتل إسلامي، هو وحده الذي يضمن لنا البقاء، ويضمن لنا الكرامة، ويضمن لنا الخلاص من الاستعمار وأذنابه وأوضاعه، كما يضمن لنا أن نقف سدا في وجه التيار الشيوعي المهلك المبيد.

والتكتل الإسلامي لا يعني التعصب في أي معنى من معانيه. . إن الإسلام هو الضمانة الوحيدة في هذا العالم اليوم لوقف حركة التعصب ضد المخالفين له في العقيدة. فهو وحده الذي يعترف بحرية العقيدة ويرعاها، في عالم الواقع لا في عالم النصوص. وهو وحده الذي يمكنه أن يضمن السلام للبشرية كلها في ظلاله، سواء من يعتنقونه ومن لا يعتنقونه. . أنه لا يستعمر استعمار الغرب الآثم الفاجر، ولا يبيد مخالفيه إبادة الشيوعية الكافرة الجاحدة. . أنه النظام العالمي الوحيد، الذي تستطيع جميع الأجناس، وجميع العقائد، أن تعيش في ظله في أمن وسلام.

وطريقنا إذن أن نرفض كل ارتباط يشدنا إلى عجلة الاستعمار - تحت أي أسم وأي عنوان - وأن نرفض في الوقت ذاته كل دعاية تدفعنا إلى فكي ذلك الغول الشرقي، الذي يبيد العنصر الإسلامي في أرضه بقسوة وشناعة، لا يقرها الهمج في أحلك عصور التاريخ.

إنه طريق وحيد. طريق الكرامة. وطريق المصلحة. وطريق الدنيا. وطريق الآخرة: أنه الطريق إلى الله في السماء والى الخير في الأرض. والى النصر والعزة والاستعلاء: أنه هو الطريق!

سيد قطب