مجلة الرسالة/العدد 970/عالم الذباب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 970/عالم الذباب

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 02 - 1952


2 - عالم الذباب

بقلم المرحوم الأستاذ معروف الرصافي

يريد الدكتور بهذا الكلام أن الأمر بغمس الذبابة كلها يدل على أن الداء والشفاء موجودان في الجسم كله لا في الجناحين فقط، وإلا لزم أن يأمر بغمس الجناحين فقط، فنقول أن الأمر بغمس الذبابة كلها صحيح، ولكنه لم يأمر بذلك إلا لأجل أن يغمس الجناح الذي فيه الشفاء لأن الجناح الثاني والجسم منغمسان في الشراب وهل من المعقول أن يأمر بغمس المغموس؟

كيف يمكن غمس الأجنحة وحدها حتى يأمر به الرسول؟ أن غمس الجناحين فقط لا يمكن إلا يمكن إلا بصورة واحدة، وهي أن نلقى على ظهرها، ونمسكها بالمنقاش من يدها ورجلها، ثم نضعها وتأن على شراب حتى ينغمس فيه جناحاها فقط دون سائر جسمها، ولا ريب أن هذا متعذر بالنسبة إلى سائر الناس، فكيف يأمر بغمس الأجنحة وحدهما كما يقول الدكتور؟

ويقول في عبارته المتقدمة: (مما يدل على أن الداء والشفاء في الجناحين أمر اعتيادي لا يفيد التخصيص والأمر يغمسها يؤيد ذلك، وهل لأجل تطهير الشراب من الجراثيم وذلك بإدخال البكتريوفاج من جسم الذبابة).

يريد الدكتور بعبارته هذه المضطربة أن يفهمنا أن الجناحين إنما ذكرا في الحديث جريا على العادة، لأن العادة تقضي بوجود الجراثيم المضرة والنافعة في الجناحين أيضاً، توجد في جسم الذبابة؛ فعبارة الحديث لا تفيد تخصيص الجناحين بالجراثيم، بل جاء ذكرهما اعتياديا. هذا هو مراد الدكتور من عبارته هذه فنقول:

قد تقدم ما يفيد بطلان هذا، ولكنا نكرره لمزيد الإيضاح. إن عبارة الحديث تنص على أحد الجناحين بالداء، والآخر بالشفاء. وبيان ذلك أن الحديث أمر أولا بغمس الذبابة كلها ثم بين سبب الغمس وحكمته بقوله أن في أحد الجناحين داء وفي الآخر شفاء، وبين أيضاً أن الذباب عند وقوعه يتقى بالجناح الذي فيه الداء أي يقدم الجناح الذي فيه الداء فيكون منغمسا في الشراب ويبقى الجناح الثاني الذي فبه الشفاء خارجا غير منغمس. فإذا غمس الذبابة كلها، الحاصلة من انغماس الجناح الأول ولولا تخصيص أحد بالشفاء ولآخر بالداء لكان الأمر بغمس الذبابة عبثا لأن جسم الذبابة مع أحد جناحيها قد انغمس في الشراب فلو كان الشقاء في الجسم كله لم تبق حاجة إلى الأمر بالغمس.

إن هذا المعنى في عبارته الحديث واضح جلي يفهمه كل من سمع الحديث ولو كان أعجميا، ولكن الدكتور حفظه الله يقول إن عبارته الحديث لا تفيد التخصيص إنما جاء ذكر الجناحين اعتياديا جريا على العادة التي تقضى بوجود الجراثيم في الجناحين كوجودهما في الجسم، مع أن العادة تقضي خلاف ذلك، لأن الجناحين يكونان بحكم العادة وبحكم الضرورة أبعد أعضاء الذبابة عن الجراثيم لأنهما لا يباشران المواد التي تقع عليها الذبابة بل يكونان في أعلى الذبابة بعيدين عنها.

ولا شك أن أول شيء من الذبابة يباشر المواد التي تقع عليها هو يداها ورجلاها، ثم بطنها وصدرها، ثم سائر جسمها، ثم جناحاها إذا كلت المادة التي تقع عليها من السوائل، ولكن الحديث يقول إن يقدم الجناح الذي فيه الداء فيه الداء ويؤخر الجناح الذي فيه الشفاء، فينغمس الأول ويبقى الآخر غير منغمس، فلذا أمر بغمس الذبابة كلها لكي يغمس الجناح الذي فيه الشفاء أيضاً.

إن عبارة الحديث لا يغرب معناها عن فطانة الدكتور، ولكنه اخذ يتحمل في التوجيه ويتعسف في التفسير لكي يقربها من المعنى الذي يريده هو. إلا أنه رغم هذه التحملات، بقي فلق الخاطر، غير مطمئن الضمير، لأنه يعلم حتى يجعلها مقراً للجراثيم أكثر من سائر الأعضاء؟

والظاهر أنه فكر طويلا حتى وجد طريقا إلى حل هذا المشكل فقال: (وبما أن الذبابة تمسح دائماً رجليها بأجنحتها كانت الأجنحة لذلك مقرا للبكتريايوفاج وللجراثيم أكثر من غيرها من أعضاء الذبابة. فلله دره ما أقدره على قلب الحقيقة بالكلام المجرد. بقول إن الذبابة تمسح رجليها بأجنحتها، إن الباء في هذه العبارة مثلها في قولهم كتبت بالقلم أي هي للاستعانة، فالمسموح الرجل. والماسح الذبابة، والجناح هو لآلة، المسح والظاهر أن المسح يكون بظهر الجناح لا ببطنه، لأن الذبابة إذا خفضت جناحيها وأنزلتها إلى ما تحت رجليها، كان ظهر الجناح الرجل بالطبع، إذ لا تستطيع الذبابة في هذه الحالة أن تقلب جناحيها إلى حيث يكون باطنها إلى الأعلى، وظاهرا إلى الأسفل. ومهما يكن فجناح الذبابة على هذا أصبح منديلا لها تمسح به رجلها.

إن الدكتور قد أثبت للذبابة بهذا القول طبيعة لا يعرفها الناس، ولم يستند في إثباتها إلى قوله علمي من أقوال علماء الحشرات الذين درسوا حياتها وعرفوا طبائعها وأحوالها، وقد تكلم هو في الفصل الخامس من رسالته عن خواص الذباب وطباعه، فلم يذكر فيه شيئا من ذلك.

لا يقال إن في عبارة الدكتور قلبا، و ' ن أصلها هكذا: إن الذباب وهما في اتجاههما إلى الأسفل معقوفتان إلى الأمام، وليس في استطاعتها أن ترفع رجلها إلى ما فوق جناحها فتمسحه بها، ولا أن تخفض جناحيها إلى ما تحت رجلها فتمسحها به إذ ليس ذلك من طبيعة الذبابة، فمن المحال عادة وطبعا أن يمسح الذباب أجنحة بأرجله أو أرجله بأجنحته، وإنما المعروف من طبيعة الذباب من قديم الزمان هو أنه يحك إحدى ذراعيه بالأخرى كما ذكره عنترة في معلقته، ولم يشاهده أحد يحك إحدى رجليه بالأخرى؛ ولا يحك بجناحيه رجليه، وقد شاهدته أنا في بعض الأحيان يمسح وجه بذراعيه ويمر بهما على رأسه. فمن أين اخذ الدكتور هذا القول عن طبيعة الذباب وكيف تكون أجنحته مقر للجراثيم أكثر من الأرجل والأيدي التي هي متصلة مباشرة بالمواد التي يقع عليها الذباب.

والمشهور عن الذباب أنه ينقل الجراثيم بأرجله وبأيديه، لا بأجنحته، والدكتور نفسه قد ذكر ذلك في رسالته فقال الصفحة (44): (وعلاوة على ذلك تنقل الذبابة الجراثيم برجلها ويديها المكسوة بالشعر) ثم قال: (ومما يجدر بيانه هو أن قدمي الذبابة وكيفتها تشبهان خف البعير، عليهما شيء يشبه الشعر أو الوبر، وهذه تفرز إفرازات لزجة فتلتصق الجراثيم عليها وتستطيع الذبابة بهذه المادة اللزجة وبفضل هذا الخف، أن تقف على السقوف والجدران بأي وضع شاءت).

وعليه فإذا كانت أيدي الذبابة وأرجله كما يقول الدكتور تفرز مادة لزجة؛ وعليها شيء يشبه الشعر أو الوبر، كانت بلا ريب مقر للجراثيم أكثر من سائر أعضائها، لذلك، ولأنها أول ما يباشر الأقذار التي عليها الذباب فكيف تكون الأجنحة مقرا للجراثيم أكثر من أيديها وأرجلها؟ سؤالان، هل البكتريافاج موجود في الذباب دائماً وأبدا؟ وهل هو شاف لجميع الأمراض؟ نريد أن نجيب على هذين السؤالين بما علمناه وفهمناه من كلام الدكتور في رسالته لأننا لسنا من أهل هذا الفن، ورحم الله امرأ عرف قدره ولم يتعد طوره، فلذا نرجو من القارئ أن يقرأ أولاً ما كتبه الدكتور في هذا الباب خاصة في الفصل الحادي عشر من رسالته ثم ينظر فيما نقوله هنا، ويحكم بما شاء.

للكلام بقية

معروف الرصافي