مجلة الرسالة/العدد 97/سقراط والعالم الإسلامي
مجلة الرسالة/العدد 97/سقراط والعالم الإسلامي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد لهجت السنة الأثينيين باسم حكيم لا كالحكماء، وفيلسوف لا كالفلاسفة. لا يتفق شكله وزيه مع جلال الحكمة، ولا يتلاءم أصله ونسبه مع عظمة الفلسفة. فقد كان أفطس الأنف، مرسل الشعر في غير انتظام، حافي القدمين، حاسر الرأس مرتديا كساء غليظا. أبوه نقاش وأمه قابلة: مهنتان ليس لهما من الشرف نصيب كبير وهو مع هذا يناقض أهل أثينا ويبين خطأهم، ويسفه أحلامهم دون أن يدعي الإتيان بجديد، أو تعليم الناس ما لم يعرفوه. أجل لم يك هذا الفيلسوف رئيس مدرسة يجتمع فيها الطلاب ولا صاحب نظرية محدودة يتدارسها الأتباع والتلاميذ. بل كان يبعث حكمته في الأسواق والطرقات ويلقى درسه أمام الحوانيت وفي ملعب الشبان. وما كان هذا الدرس وتلك الحكمة إلا إعلانه دائماً إنه لا يعرف شيئاً وترديده لهذه الجملة المأثورة: (أعرف نفسك بنفسك). ذلكم الحكيم الغريب شكله، القبيح منظره، الشاذة تعاليمه وطريقته هو سقراط الذي نهج بالفلسفة نهجاً جديداً، وكان على رأس طوائف فلسفية متعددة ومتباينة
بين فلاسفة الأغريق ثلاث أسماء لا يكاد الإنسان يذكر واحدا منها إلا وحضر بذهنه الآخرون. ومن ذا الذي يلفظ أسم أفلاطون دون أن يخطر بباله أنه كان تلميذا لسقراط وأستاذا لأرسطو؟ أو من ذا الذي يتكلم عن سقراط ولا يلحظ تلميذه أفلاطون وتلميذ تلميذه أرسطو؟ وفي الحق أن هؤلاء الحكماء الثلاثة يكمل بعضهم بعضا: تضافروا على تكوين نظرية مشتركة نشأت بين يدي الأول، وترعرعت لدى الثاني، وأخذت شكلها الكامل عند الأخير. فكلهم أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وعني بالإنسان في تفكيره وسلوكه أكثر من عنايته بالشؤون الطبيعية في نظامها وتقلبها. وكلهم بحث عن الفكرة ' في طريق تكونها وأصل نشأتها ودرجة وجودها وبذا كانوا جميعاً أساتذة (الفلسفة الفكرية) التي لعبت دوراً هاماً في تاريخ الدراسات النظرية والتي لا تزال عماد البحث العقلي إلى اليوم
لم يقف نفوذ سقراط عند الشعبة الأفلاطونية والأرسطوية، بل تعداهما إلى مدارس أخرى كانت من أشد الناس عداءاً لأفلاطون وأرسطو. فالميجاريك تلاميذ أقليد الميجاري والسينيك أتباع أنطستين يصعدون إلى سقراط وان كانوا من أول من خرج عن المنطق، وشكك الناس في الحقيقة وكيفية الوصول إليها. فهم بهذا من أكبر الخصوم (الفلسفة الفكرية) التي تحدثنا عنها. والأخلاق لدى أصحاب الرواق تعتمد على أساس سقراطي واضح؛ فالرواقيون يرون - كما يرى سقراط - أن الحسن ما أملته الإرادة، وما أتفق مع العاطفة الشخصية. وعلى هذا يجب أن تؤسس الأخلاق لديهم جميعا على دعامة من العزيمة والشعور الفردي. وطريقة اللاإداريين في الحوار والمناقشة متأثرة قطعاً بطريقة سقراط ومن قبله من السوفسطائيين
ذلكم هو سقراط في العالم الإغريقي؛ وبودنا أن نعرف على أي صورة وصل إلى العالم العربي هل وجد بين العرب أنصارا وأتباعا مثلما وجد بين الأغريق، وهل عنى المسلمون بشأنه عنايتهم بأفلاطون وأرسطو؟ مما لا شك فيه أن هذين الأخيرين ملكا على العرب الجانب الأعظم من تفكيرهم الفلسفي، وكان موضع شغل الباحثين منهم ولعل ذلك راجع إلى أن قدرا كبيرا من كتبهما ترجم إلى العربية، فساعدا على دراستهما دراسة مستفيضة. أما سقراط فلم ينفذ إلى الفكر الإسلامي إلا بواسطة ما رواه على لسانه أفلاطون وأرسطو وبعض المؤرخين أمثال بلوتارك. بيد أن شيخ أثينا هذا، ورسول (أبولون) وترجمان وحي (دلف) قد أثر في نواحي عربية هامة غامضة؛ وسنحاول الكشف عنها اليوم
في سقراط ظاهرتان هامتان: حياته أن شئت شخصيته الغريبة، وطريقته وتعاليمه؛ وقد يكون ذيوع صوته راجعاً إلى الأولى اكثر من رجوعه إلى الثانية فكثير من الناس يعرف سقراط الزاهد المتقشف الذي أعرض عن ملاذ الدنيا فلم يشرب نبيذا قطاً ولم يتناول طعاماً شهياً؛ وكثير منهم يعرف سقراط القوى العزيمة الذي لا يخضع لإرادة غير إرادة الحق مهما عظم شأنها؛ وكثير منهم يعرف سقراط البطل الذي ضحى بنفسه آمنا مطمئنا في سبيل رايته وعقيدته. كل هؤلاء يعرفون ذلك من سقراط، وان خفيت عليهم آراءه ونظرياته. هذه الظاهرة الهامة في الفيلسوف الأثيني هي التي بهرت المسلمين بوجه خاص، فرعاهم منه شخصه أكثر مما راعهم علمه ودرسه. وإن إذا رجعنا إلى كتب التراجم العربية وجدنا أنها لا تكاد تدرس إلا حياته وقصة موته. فابن النديم الذي ترجم له في اختصار بلغ حد الإخلال اكتفى بأن قال أنه (كان زاهدا خطيبا حكيما قتله اليونانيون لأنه خالفهم)، والقفطي الذي وقف عليه نحو تسع صفحات من القطع الكبيرة بين في تفصيل كيف حوكم هذا المتهم البريء وكيف نفذ فيه حكم الإعدام. وابن أبي أصيبعة يشارك القفطي في ترجمته المطولة ويضم إليها بعض حكم يعزوها إلى سقراط إلا أن هذه التراجم في جملتها تحوي أخطاء يجدر بنا أن نشير إلى بعضها فمثلا يزعم ابن النديم ومن جاء بعده أن سقراط ألف مقالة في السياسة ورسالة في السيرة الجميلة؛ والحق أن هذا الفيلسوف لم يكتب شيئاً قط. ومن الغريب أن ابن أبي أصيبعة قد تنبه إلى هذا ولاحظ أن سقراط (لم يصنف كتاباً، ولا أملي على أحد من تلاميذه ما أثبته في قرطاس وإنما كان يلقنه تلقيناً لا غير)؛ ولكنه عاد فوقع فيما وقع فيه من قبله من الخطأ. ويكاد يجمع أصحاب التراجم هؤلاء على أن سقراط عاش ثمانين سنة أو جاوزها إلى مائة مع أنه توفي عن إحدى وسبعين سنة. ويروي القطفي عن بعضهم أن سقراط كان شآمياً وهذا خطأ واضح فإن هذا الحكيم أثيني في نشأته ونسبه ويمثل أول خطوة في الحركة الفلسفية التي دامت في أثينا نحو قرن أو يزيد. ومهما يكن من شيء فإن إن غضضنا الطرف عن هذه الهفوات الصغيرة وجدنا أن هؤلاء المؤلفين وصفوا حياة سقراط في جزيئاتها الهامة
لم تلفت هذه الحياة العظيمة نظر مؤرخي العرب وحدهم بل كان لها اثر بين كل طائفة من الفلاسفة والعلماء فالكندي بلغ به حبه للفيلسوف الإغريقي وإعجابه به أن كتب فيه عدة مؤلفات منها: رسالة في خبر فضيلة سقراط، رسالة في ألفاظه رسالة في ما جرى بينه وبين الحرانين، رسالة في موته. وهناك تشابه بين سقراط والكندي لن يفوتنا أن ننبه إليه؛ فلئن كان الأول قد مهد (للفلسفة الفكرية) في العالم الإغريقي ووضحها بأمثلة من الأخلاق والحياة الدارجة، فأن الثاني هو أول من أتجه نحو الدراسات الفلسفية في العالم العربي. وإخوان الصفا يصعدون بسقراط إلى درجة النبوة، ويعقدون لموته فصلاً قيماً في رسائلهم؛ وعلهم استقوه مما كتبه الكندي من قبل. ويرى الرازي طبيب الإسلام الأكبر وفيلسوفه الذي لم يدرس بعد الدرس اللائق به إن سقراط هو الفيلسوف الحق، ويعارض به أتباع أرسطو من زملائه ومعاصريه المسلمين. ومعروف ما بين الرازي وإخوان الصفا من صلات في العقيدة والآراء الفلسفية والسياسية. فلسقراط إذن أبناء وتلاميذ في الديار الإسلامية، كما كان له من قبل في البلاد الإغريقية؛ وهؤلاء التلاميذ ألصق بشعبة الإسماعيلية والمتصوفة الذين شاءوا أن ينهجوا نهج حكيم أثينا في زهده وتقشفه وأن يتفانوا تفانيه في نصرة مبادئهم
أما تعاليم سقراط وإن بدت ثانوية في نظر مفكري فإنها لم تكن مجهولة لديهم. وقد أختص الشهرستاني بإيراد أكبر قدر منها في كتابة الملل والنحل. فهو يعرضأولاًآراء سقراط الدينية والميتافيزيقية، مبيناً ما قاله في صفات الباري وذاته ومفيضاً في ذلك بدرجة محسوسة. ثم يجاوز هذا إلى الكلام عن مذهب سقراط في المبادئ والعلل، وفي أزلية النفوس الإنسانية ووجودها السابق لوجود الأبدان. وهذه الآراء المنسوبة إلى سقراط قد جاءت بنصها على لسان أفلاطون؛ على أن العرب أنفسهم لم يستقوها إلا من مؤلفات الأخير. وهنا تعترضنا مشكلة تاريخية مشهورة، ألا وهي أنا إن سلمنا بأن كل ما رواه أفلاطون باسم أستاذه من عمل الثاني لم يبقي للأول شيء وعلى العكس من ذلك إن كانت مؤلفات التلميذ تترجم عن رأيه الخاص فإنا لا نكاد نجد لسقراط نظرية مستقلة؛ وقد كنا نأمل أن نحل هذه العقدة التي حار فيها المؤرخون المعاصرون على ضوء المصادر الإسلامية، فلم نظفر فيها بما ينقع الغلة. وفي رأينا إن سقراط لم يعن بتكوين نظريات فلسفية مفصلة، وكل مهمته أنه أشار إلى أفكار عامة تولاها أفلاطون من بعده بالدرس والتحليل
بيد إن لسقراط عمل آخر شخصياً لا ينكره عليه أحد؛ وهو طريقته الجدلية المبنية على الاستنباط والتشكيك. بهذه الطريقة أشتهر، وبها تمكن من قهر جماعة السوفسطائيين وبواسطتها أصلح كثيراً من الأخطاء الشائعة، ومهد السبيل لتكوين الأفكار العامة. وقد وصلت هذه الطريقة إلى العرب - كما وصلت إلى المحدثين - في ثنايا كتب أرسطو وأفلاطون؛ ولفلاسفة الإسلام في شرحها ومناقشتها أبحاث مختلفة؛ فسقراط المثل الأعلى في التضحية، وسقراط الباحث النظري، وسقراط المناظر القوي الحجة قد وجد في العالم العربي أتباعاً وتلاميذ، بل أنصاراً ومحبذين
إبراهيم بيومي مدكور
دكتوراه في الآداب والفلسفة