مجلة الرسالة/العدد 968/نار. . ودم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 968/نار. . ودم

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1952


للأستاذ سيد قطب

الحمد لله الذي بدل قضية هذا الوادي من قضية محادثات ومفاوضات ذليلة مهينة. . إلى قضية نار ودم وكفاح أبي عزيز. .

الحمد لله الذي بدل هذه القضية عداء صريح جاهر للاستعمار وقراصنة الاستعمار. .

الحمد لله الذي أخرج هذه القضية من أيدي نفر قليل من السياسيين والدبلوماسيين والمستوزرين والرأسماليين. . إلى أبدي الملايين من شعب الوادي أصحاب البلد الحقيقيين.

الحمد لله، الذي سخر روبرتسون وإرسكين وأكسهام، لكي يحرقوا مراكبهم هذا الشعب، ويركبوا رءوسهم على هذا النحو، ويرتكبوا الحماقة التي أخرجتهم من أمريكا، وأخرجتهم من الهند، وستخرجهم بإذن الله قريباً من كل شبر من الأرض، دنسته أقدام القراصنة النجسة. .

اليوم قضى الأمر، وتأرثت الثارات والأحقاد بين هذا الشعب وبين القراصنة، فاللهم لا سلم بعد اليوم مع هؤلاء السفاكين: ولا معاهدة بعد اليوم مع الفجار، ولا تحالف بعد اليوم مع الأعداء. . ولا شيء إلا الكفاح الدامي، وإلا الدماء والنار، بيننا وبين الأوغاد.

اليوم قد قضى الأمر، وقطع الدم المهراق كل قنطرة وكل جسر، يمكن أن تقام عليه صلة ما، بين الوادي وجلاديه. . فاللهم لا همسة ولا نأمة بعد اليوم تتحدث عن الصداقة، أو تتحدث عن التحالف. اللهم لا رجل ولا شبه من أهل هذا الوادي يلوك شدقاء كلمة واحدة عن الجبهة الغربية، إلا أن تكون رصاصة مواجهة إلى معسكر القرصان.

أن الذي يلوك شدقاء بعد المجازر الهمجية التي يقيمها الأوغاد لأهل البلاد. . الذي يلوك شدقاء كلمة واحدة عن أية صلة، من أي نوع، تربطنا بمعسكر الهمج الغربيين، لهو رجل لا غرض له، ورجل لا كرامة له، ورجل لا نخوة له. . وحاشاه أن يستمع هذا الشعب النبيل لمن لا غرض لهم ولا نخوة ولا كرامة.

لقد دارت عجلة الزمن - وإنها لتدور سريعة عنيفة في هذه الأيام - دارت فطوت كل فرصة كانت متاحة لعباد الإنجليز أو لعباد الغرب على العموم. . لقد ذهبت إلى الأبد كل محاولة لربطنا بمعسكر الغرب المتبربر. . لقد انتهى كل شيء، فلا مجال لغير الرصاص والدماء. لا مجال لغير الثأر المقدس، لا مجال لغير الجهاد والكفاح.

أما من شاء أن يرتد إلى عهود المفاوضة والمسألة والمهادنة والمحالفة. . من شاء أن يرتد إلى تلك العهود التي طوتها عجلة الزمن السيارة. وفاتها عجلة الحوادث التي لا تتوقف. . من شاء شيئا من هذا، فليبحث له عن بلد غير هذا البلد، وعن شعب غير هذا الشعب، وعن وطن غير هذا الوطن. . فما عاد من هذا الوادي وأهله، من يملك شدقاه الدوران، ليتحدث عن شيء طواه الزمن وغشاه النسيان!

لا صداقة بعد اليوم للإنجليز. . فليسمع أصدقاء الإنجليز. . ولا مهانة بعد اليوم للاستعمار. . فليسمع من يربطون وجودهم بوجود الاستعمار. . مجرد الحديث عن الهدنة بيننا وبين الإنجليز جريمة. مجرد التفكير في أن يضمنا ويضمهم معسكر واحد خيانة. مجرد المحاولة لإطفاء النار المؤججة بيننا وبينهم طعنة من الخلف للفدائيين والشهداء الأبرار.

فليخرج الإنجليز من بلادنا، وليخرج معهم كل من لا تعجبه هذه الحالة. ليرحل عن هذا الوطن كل من يفكر في عقد صلة بيننا وبين من جديد. . أن الشعب سيسقط اعتبار كل من يرفع رأسه ويحرك شدقه ليقول في هذا كلمة واحدة. أن الشعب سيسحق هذه المخلوقات الشائهة الذليلة، والتي لا يثير نخوتها عرض يهتك، أو دم يهرق، أو جريمة شنعاء، مما يرتكبه القراصنة كل يوم في ضفة القنال.

ولا يحسبن أحد أنه أقوى من هذا الشعب، ولا أكبر من هذا الشعب، ولا أرفع من هذا الشعب، ولا أعلى من هذا الشعب. ولا يحسبن أحد أنه من الدهاء بحيث يخدع هذا الشعب عن أهدافه الواضحة المرسومة، ولا أنه من الحيلة بحيث يصرف هذا الشعب عن ثاراته المقدسة، ولا من القوى بحيث يقف في وجه التيار.

إن الغرور وحد هو الذي يصور لفرد أو عشرات من الأفراد أو مئات. . أنهم قادرون على أن يحولوا الدماء ماء، والنار بردا وسلاما، وعلى أن يصلوا مرة أخرى بين الشعب وجلاديه، وعلى أن ينسوا هذا الشعب دماء أبنائه الأطهار، وقد كاد أن يكون في كل بيت ثأر، وفي كل قلب جرح. . هيهات هيهات! لقد فات الأوان.

لقد سخر الله روبرتسون، وأرسكين، وأكسهام. . ومن إليهم. . سخرهم ليحطموا ما بقى من بناء الإمبراطورية التي حطمتها الشيخوخة. . سخرهم ليوقدوا نار الأحقاد المقدسة في قلوب الشعوب حول ذلك الحطام الفاني. . سخرهم ليخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. ولن يقوم بناء سخر الله أهله ليهدموه. ولن يعمر بيت سلط الله سكانه ليخربوه.

ولقد كان الخوف أن يتروى القراصنة في معسكراتهم على ضفة القنال؛ وأن تهبط حرارة الشعب حين لا تجد لها وقود يغذيها؛ ولكن الله غالب على أمره. وها هي ذي الأحداث تجبرهم إجبارا على الخروج من صياصتهم المحصنة. وها هم أولا يوسعون نطاق القرصنة، ويوسعون دائرة الجريمة. ها هم أولا يصلون إلى التل الكبير. وغدا يسوقهم الله بأقدامهم إلى المجزرة حين ينتشرون في أراضي الشرقية الواسعة، ويقعون في فخاخ الفدائيين على مساحات واسعة. . فاللهم سقهم إلينا بأقدامهم اللهم زدهم حماقة على الحماقة! اللهم هيئ للفخاخ المنصوبة صيد من أعدائك وأعداء الإنسانية، وأعداء هذا الوادي. .!

وبعد فهنالك كلمة أخرى. . ومن كان له أذنان للسمع فليسمع لقد خاض الشعب معركة التحرير وحده حتى اليوم. خاضها بالدماء والأرواح. وإن زهرة أبنائه ليتساقطون في ميدان الشرف غير هيابين. . فما هو دور السادة يا ترى؟ أجل ما هو دور السادة الذين يكدح هذا الشعب كله لهم، وينفق عصارة قلبه ودمه ليخرج لهم من الأرض ذهبا وفضة.

إن الشعب لا يطلب من أولئك المترفين المترهلين السادرين في لذائذهم أن يؤدوا ضريبة الدم لهذا الوادي كما يؤديها الكادحون الذين لا يملكون في هذا الوادي شيئاً! أنه لا يطلب إليهم أن يضحوا بدمائهم الغالية! ولا أن يموتوا كما يموت الشهداء!

كلا! كلا! إن الأمر لأهون من هذا بكثير. إن هذا الشعب الطيب القلب، المتواضع القانع. . لا يطلب إلى السادة إلا ضريبة المال. لا يطلب إلا أن يساهموا بتزويد الفدائيين بالسلاح والمال. لا يطلب إلا قسطا مما ينفق على موائد الخمر وسهرات الليل، وما يراق على أقدامهم الغواني من ثراء!

وما يمكن أن يمضي الشعب في كفاحه، وأن يريق في كل يوم دماءه وأرواحه، وهؤلاء السادة سادرون فيما هم فيه!

إن لكل شيئاً حدا. ومحال أن تسير الأمور على هذا النحو بلا نهاية. . فهي النصيحة المخلصة إذن نزجيها، قبل فوات الأوان!

إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

سيد قطب