مجلة الرسالة/العدد 968/بمناسبة المولد النبوي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 968/بمناسبة المولد النبوي

مجلة الرسالة - العدد 968
بمناسبة المولد النبوي
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1952



تطور البديعيات في مدح الرسول

للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي

كان للقرآن في صدر الإسلام معجزته الكبرى حين نشأت علوم اللغة والأدب لتفسر وجوه إعجازه وتوضح بلاغة آياته وسوره. وبسبب هذه الأجواء العلمية - التي حاكها حولها ونسج خيوطها بين يديه في بلاغته الساخرة وآياته الباهرة - كان الغاية الكبرى التي تنتهي إليها هذه العلوم وتدرس من أجلها هذه الفنون؛ وقد كانت الوسائل القوية والوشائج المتينة التي تصل بالدارس إلى معاني القرآن وفهم أسراره وكشف مقاصده، فاللغة والنحو والصرف والبلاغة وغيرها من علوم الأدب - مضافاً إليها علوم الشريعة وعلوم الحقيقة - وجدت من هذه الغاية الكبرى مبدأ لتكوينها وسبباً قوياً لنشأتها، كما أنها جميعاً وجدت من تطور الدراسات القرآنية خطوطاً أولية تمثل تطور حياتها وترسم طريق مستقبلها.

ولم يكد القرآن ينتهي من أداء هذه الرسالة الإعجازية حتى تضافرت معه قوة جديدة تصور نفسه الغاية هي (المدائح النبوية) فقد كان لهذه الأخيرة صداها منذ القرن الأول حين نظم كعب ابن زهير (26هـ) قصيدة (البردة) بين يدي الرسول الأعظم، فكانت قصيدته أول قصيدة كلاسيكية تقليدية في مدح الرسول. ثم جاءت على إثرها قصائد الشعراء في القرون المتعاقبة.

وفي القرن الثامن اشتقت المدائح النبوية طريقاً خاصاً بها حيث اصطبغت بالصناعة اللفظية وعنى واضعوها بوجوه المحسنات البديعية. ومن هنا حملت المدائح النبوية الرسالة العلمية التي حمل مثلها القرآن في علوم الأدب منذ سبعة قرون مضت. وبينما كانت (رسالة القرآن) رسالة عامة انتفعنا من ورائها في إحياء علوم الدين وعلوم الأدب كانت (رسالة المدائح النبوية) رسالة خاصة انتفعنا بها في تطور علوم البلاغة وفيما أحدثه الشعراء من ضروب البديع التي اصطنعوها في مدائحهم.

في هذه الحقبة من القرن الثامن أخذ القوم يخرجون مدائحهم النبوية في قالب خاص من علوم البديع حتى سميت (البديعيات). وكانت هذه البديعيات أشبه بكتب مفردة سجلت فيها فنون البديع وأنواعه ومصطلحاته، وظلت هذه البديعيات دستور البديع وديوان فنونه وسجل مصطلحاته في سائر القرون التي تلت القرن الثامن حتى وصلت إلى عصرنا هذا.

وأول بديعية وصل إليها تحقيقنا في القرن الثامن هي التي نظمها صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750هـ، شرحها صاحبها في كتاب خاص سماه (النتائج الإلهية في شرح الكافية البديعية). قال ابن حجر العسقلاني: (. . . وبديعيته مشهورة وكذا شرحها، وذكر فيه أنه استمدها من مائة وأربعين كتاباً) وبدأ الحلي بديعيته مستلهماً ما جاء ببردة (البوصيري) من ذكر الأماكن الحجازية كذي سلم وسلع والعلم فقال:

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... واقر السلام على عرب بذي سلم

وذلك تقليد قديم احتذاه الشعراء من قبل صفي الدين الحلي ثم أصبح نظاماً تقليدياً استنه الشعراء لأنفسهم من بعده. وفي هذا البيت يشير الشاعر إلى براعة المطلع والتجنيس المركب والمطلق. ثم ينتقل بك إلى تجنيس التلفيق في البيت الثاني:

فقد ضمنت وجود الدمع من عدم ... لهم ولم أستطيع من ذاك من دم.

ويستمر صفي الدين في هذا النحو حتى ينتهي من بديعيته في مائة وخمسة وأربعين بيتا، يذكر فيها سائر فنون البدع التي عرفت في زمنه: كالمذيل والملاحق، والمتام والمطرف، والمصحف والمحرف، واللفظي والمقلوب، والمعنوي، والطباق، والاستطراد، والتوشيح، والمقابلة، واللف والنشر، والتبديل، والالتفاف، والهزل الذي يراد فيه الجد، وعتاب المرء نفسه، ورد العجز على الصدر. . . وهكذا يسير في بديعيته المشهورة حتى يذكر لنا مائة وخمسة وأربعين فناً من الفنون البديع، فيخص كل بيت منها بفن من هذه الفنون. ويختم بديعيته ببراعة الختام فيقول في البيت الأخير منها:

فإن سعدت فمدحي فيك موجبة ... وإن شقيت فذنبي موجب النقم

ومن ذلك نعلم أن المذابح النبوية خدمت علوم البلاغة فكانت حافزاً على نمائها وتطورها إلى هذا العدد الذي ذكره الحلي في بديعيته. وقد كانت الحلي مدرسة تبعة فيها تلاميذه في تذبيح البديعيات كالصلاح الصفدي (764هـ) وابن جابر الأندلسي (780هـ) الذي وضع بديعيته في مائة وسبعة وسبعين بيتا وعز الدين الموصلي (789هـ) الذي وضع بديعيته في مائة وخمسة وثلاثين بيتاً.

وفي القرن التاسع كان لابن حجة الحموي المتوفى سنة 837هـ من الشأن ما كان لسلفه الحلي في القرن الثامن، فكلاهما كان زعيم حلبة الشعراء الناهلين من بحور البديع، وكلاهما كان ذا خطوة في الأدب واطلاع واسع في فنون البلاغة؛ إلا أن ابن حجة كان كما يحدثنا: ابن العماد الحنبلي والأستاذ بروكلمان - مزريا بغيره من الشعراء، ينظر إلى شعراء عصره كأحد تلامذته. ولقد كان لديوانه (ثمرات الأوراق) شأن كبير. وتسمى بديعيته (بديعية ابن حجة الحموي أو تقديم أبي بكر) سار فيها على طريقة الحلي، وتقع في مائة وعشرين بيتاً. ثم شرحها في كتاب آخر سماه (خزانة الأدب وغاية الأدب).

ونحا هذا النحو شرف الدين ابن المقرئ (837هـ) الذي وضع بديعية أخرى تقع في مائة واثنين وأربعين بيتاً، شرحها في كتاب سماه (شرح الفريدة الجامعة للمعاني الرائعة).

ثم كان من نتيجة دراسة المدائح الدينية في هذه الصورة التي لمسناها خلال القرنين الثامن والتاسع أن تعمق القوم في دراسة البديع في القرن العاشر خطوة تحليلية خاصة. وبذلك كانت دراسة البديع في القرن العاشر خطوة واسعة تمثل تطور البديعيات في ذلك القرن. فظهرت (الطريقة التحليلية) في دراستها في شخصية عظيمة عرفت بالأبحاث الخاصة والمؤلفات المفردة بالفنون المختلفة - هي شخصية جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ.

وقد بدأ السيوطي بديعيته على عادة الشعراء ببراعة الاستهلال فقال:

من العقيق ومن تذكار ذي سلم ... براعة العين في استهلالها بدم

واختتمها بقوله:

واكتب مد الدهر في الدنيا لنا حسنا ... حتى أرى عند موتي حسن مختتمي

هي بديعية رصينة تقع في مائة وثلاثة وثلاثين بيتاً عارض فيها بديعية ابن حجة الحموي المسماة (تقديم أبي بكر) ويلمس قارئها صوراً من طريقته التحليلية. وأنت تحس كثيراً من إعجابه بنفسه حين تقرأ له شرح البيت الأول: (وما أحسن التورية الواقعة في التسمية حيث جعلت براعة العين في استهلالها البكاء بالدم بدل الدمع مع إكثار ذكرت للعقيق وبكائها حتى غلبت الحمرة على الدمع مجانسة للعميق ثم قال: وأنظر بذوقك ما الفرق بينه وبين قول ابن حجة. . .

وجاء بعد السيوطي جماعة كثيرون تأثروا بروحه التحليلية واشربوا طريقته فعكفوا على التأليف وأحيوا صناعة التصنيف في علوم البلاغة. فعائشة الباعونية (923هـ) وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (927هـ) وابن كمال باشا الحنفي (940هـ) يعدون جميعاً في نظر (المنهج العلمي) تلاميذ السيوطي - حكما - وإن لم يحظوا بالجلوس في حلقته والحضور عليه. ولكنهم تأثروا بالأصداء العلمية التي تركها السيوطي في عصره ولمحناها في شخصيته.

وليس أدل على ذلك من أن عائشة الباعونية التي كانت معاصرة للسيوطي سافرت من دمشق إلى القاهرة لتغترف من بحار العلوم والمعارف حتى أجيزت بالإفتاء والتدريس. ووضعت على الطريقة التحليلية التي استنها أستاذها السيوطي بديعيتها التي تسمى) الباعونية (في مائة وثلاثين بيتاً سارت فيها على طريقة السيوطي. كما وضعت أخرى تسمى (الفتح المبين في مدح الأمين) في مائة وسبعة وأربعين بيتاً، منتهجة طريقة السيوطي في الإكثار من البديعيات والعناية بتحليلها وشرحها. وهكذا كان السيوطي وتلاميذه يعنون في بديعياتهم بالتكثر والمقارنة وضرب الشواهد والشرح لكل ما يذكرونه من فنون البديع.

البقية في العدد القادم

حامد حقي داود الجرجاوي