مجلة الرسالة/العدد 968/المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 968/المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية

مجلة الرسالة - العدد 968
المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1952



إلى الأستاذ زكي طليمات

للأستاذ علي متولي صلاح

آفتان خطيرتان من آفات النقد يبدوان في الأغلب الأعم مما يكتب عندنا: أولاهما الانحراف بالنقد إلى الناحية الشخصية والجنوح به نحو التهكم والتجريح. وأخرهما تحميل الكلام ما لا يحمل والذهاب به إلى أبعد مما يقصد الكاتب ثم مؤاخذته على هذا المدى البعيد الذي أنشأه المؤاخذ نفسه من نسج خياله!

هاتان الآفتان ركبهما معي الأستاذ الجليل زكي طليمات في تعقيبه على الكلمة البريئة التي كتبها في العدد الأسبق من (الرسالة) أحدد فيها مدى إسهام مسرحيتي (مسمار جحا) و (دنشواي الحديثة) في خدمة العقيدة الوطنية.

أما ما كتبه الأستاذ عن شخصي وما تفضل به من نقص وهوى وجور وإسقاط وما إلى ذلك فسأسقطه من حسابي فشخصي أهون شيء علي، وللأستاذ الفاضل أن يرعى منه في كلأ مباح!.

وأما ما كتبه في الموضوع مناقشاً به الرأي الذي ذهبت إليه في مدى تعبير هاتين المسرحيتين عن العقيدة الوطنية، وفي مدى قيام مذهب (الفن للفن) , , في حياتنا الراهنة اليوم، فذلك ما سأقصر الحديث عليه في إنجاز:

1 - يأبى الأستاذ إلا أن يقرر أن مذهب (الفن للفن) ما زال موجودا في الحياة، وأن الحرب ما زالت قائمة بينه وبين مذهب (الفن للحياة) ويؤكد أنا الغلبة لم تكتب لأحدها حتى الآن. . . ولا أفهم معنى لهذا التشبث بذلك الرأي وقد انقضى مذهب الفن للفن) بانقضاء القرن التاسع عشر، وصار مفهوماً - كما قلت في كلمتي السابقة - أن الفن (الخالص) مرادف تماماً للفن (الفارغ)! والشواهد قائمة من حولنا في كل ما يكتب الكتاب المعاصرون فقد أوغلوا في الحياة يتناولون مشكلاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من كافة نواحيها، وانتهى تماماً عهد الأدب الذي لا يقوم إلا على الزينة اللفظية والمواكب البلاغية، وصارت هذه الأشياء بمثابة المحفوظات التي نراها في المتاحف ودور الآثار! ونزل السادة الأدباء من أبراجهم العاجية وانهارت هذه الأبراج وغشوا الأسواق وجابوا الطرقات يلتمسون الإنسان في صورته العادية النابضة بالحياة. ولا أدري أين هم الكتاب (الذين ما برحوا يعالجون الآداب من أبراجهم العاجية) كما يقول الأستاذ الجليل؟ أين هم؟ وما آثارهم تلك؟ إننا - وفوق كل ذي علم عليم - لا نعرف واحد فردا له احترامه أو مكانته في عالم الأدب اليوم من هذا النوع العاجي الذي لم يهبط الأرض ولم يمس ثراها بقدميه الناعمتين! ويذهب الأستاذ الجليل إلى أن هذين المذهبين يعالجان (أسلوبين من أساليب التعبير في جوهره) والذي أعلمه أن الفرق بين هذين المذهبين ليس في الأسلوب والتعبير، وأن كلا منهما لا يقوم على طريقة على طريقه خاصة في الكتابة، بل أنه لا علاقة لهما بتاتاً بالأسلوب والتعبير ولكنهما يقومان على طريقة في التفكير والموضوع: فأولهما يقوم على فكرة أن الفن لا علاقة له بالأخلاق وأنه لا يجوز أن يوضع الفن في خدمة المجتمع لأن الفن في ذاته غاية لا وسيلة، وأن واجب الفنان (هو البحث عن الجمال وحبس هذا الجمال في إطار) كما يقول أوسكار وايلد.

وثانيهما يقوم على أن الفن وسيلة كبرى من وسائل إصلاح الحياة وعلى أن رجال الفن والأدب مسئولون عن كل ما في الحياة من نقص وظلم وفساد، وأن عليهم تقع - أول ما تقع - تبعة ذلك جميعه وأن الفن الذي لا يعالج أدران الحياة هو فن فارغ لا معنى له ولا نفع فيه.

فأين الأسلوب والتعبير من هذا؟

2 - ولا أدري لماذا لا يختار الأستاذ في حديثه عن (الوجودية) إلا ما قاله أشد الناس عداوة لها؟ ولماذا يرميها بأنها (نظريات فلسفية قاتمة ولفتت اجتماعية لا تخلو من الشذوذ لأنها قامت على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية الأوربية بتأثير الحرب الكبرى الماضية). . . وهي ليست من كل ذلك في شيء؟ لماذا يقف منها الموقف وهو العليم بعناصرها الطيبة الكريمة وبقواعدها السليمة الصحيحة؟ أيكون ذلك من الأستاذ الجليل لمجرد أن يكون لسانه عليها وقلبه معها! إن الأستاذ يعلم دون شك أن الوجودية تقوم على الحرية العريضة لبني البشر، وتحميل الإنسان - ما دامت له هذه الحرية - المسئولية كاملة غير منقوصة، وأنها تقوم على الرجولة والصراحة ونبذ النفاق والضعف. . . وإن زعيمها (جان بول سارتر) ليسعى جاهداً لتكون الفلسفة والأدب (خير معين أبني البشر على رسم صورة العالم الذي يسعدون بالعيش فيه. . . وعلى توجيه نشاطهم وتسديد خطاهم نحو نوع الحياة التي يرضاها لهم ويرضونها لأنفسهم).

ليست (الوجودية) شذوذنا وانحرافاً كما يرميها بذلك أعداؤنا الألداء الذين أعيذ الأستاذ الكبير أن يكون منهم؛

وإن شرح ما في هذا المذهب من المزايا الجليلة يطول. ولو تفضل الأستاذ فقرأ كلمتين كتبتهما عن هذا المذهب في العدديين 939، 943 من (الرسالة) لعدل من رأيه كثيراً ولآمن بأنه مذهب ينبغي الالتفات إليه ودراسته.

ثم إن (الوجودية) لم تقم (على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية بعد الحرب الكبرى الماضية) ولعل الأستاذ يقصد (السريالية) لا (الوجودية) فهي التي قامت على أنقاض هذه الحرب الكبرى منذ سنة 1918 إلى سنة 1939م تقريباً. . . قامت على أنقاضها وبسببها وفي ذلك يقول (أندريه بريتون) وهو من زعمائها الأولين (قامت الحركة السريالية على فكرة تبغيض الحرب وتثبيط همم الرجال عن القيام بها إن دفع بهم المجتمع يوماً إلى خوض غمارها).

3 - أما ما قرره الأستاذ الجليل من أن كلامي (ينصب ظاهرة على المسرح المصري عامة ويهدف باطنة إلى النيل من فرقة المسرح الحديث) فالحق أن هذه تهمة خطيرة كنت ود أن يقف الأستاذ طويلا قبل أن يرميني بها هكذا في يسر وسهولة استجابة منه لوشاية حقيرة صغيرة. ولو أني كنت ذا هوى لكان هواي هذه الفرقة لا عليها، فلي من الصلات ما يعلم أمره الأستاذ الجليل، وما أراني إلا عضوا في أسرتها، ولبنة في صراحتها الذي أرجو أن يسمق ويطول.

وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد

وليعلم الأستاذ الجليل أنني لست ممن تشتري نفوسهم وأقلامهم، ولست من الذين إن أعطوا منها رضوا وأن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون!.

ولعل كاتباً لم يكتب في الإشادة الفرقة مثل الذي كتب عنها. وليس أقطع في ذلك من أن أحيل الأستاذ الجليل على ما كتب في (الرسالة) بعددها الرقيم 938 الصادر في 25 يونيوا الماضي عند مسرحية (حورية من المريخ) فقد قلت محييا هذه الفرقة ما نصه: - (تحية طيبة نبعث بها إلى الفرقة الناشئة الشابة المتوثبة من فوق منبر (الرسالة) ونعني بها فرقة (المسرح الحديث) التي ظهرت خلال هذا الموسم كما تظهر بواكير الندى وكما تتفتح براعم الورود فتجلوا كامن الحسن وخفي الجمال.

أخذ الناس إشفاق على تلك الفرقة يوم رأوها تنظم عصافير ناعمة بضة حسبوها تزقزق على خشبة المسرح فلا تبين، وتهتز الخشبة من تحتها فلا تثبت، وقالوا من أين لزغب القطا أن تقوي على ما تنبهر أمامه أنفاس النسور، ومن أين للظبي الأغن أن ينهض بما يعيا به الأسد الهصور.

ولكن هؤلاء المشفقين انقلبوا مشدوهين معجبين عندنا رأوا هذه الفرقة تنهض بالروائع لكبار المؤلفين من أمثال: موليير وتشيخوف وتيمور. وتنهض بها نهضة يرى الناس فيها بحق أن الأمر لو كان بالسن لكان في الأمة من هو أحق أمير المؤمنين بمجلسة كما قال الغلام العربي القديم.

وتنهض بها نهضة يبدوا فيها - أظهر وأبين ما يبدوا - معنى التضامن وفناء الفرد في سبيل المجموع ومعنى نكران الذات، فما رأينا واحدا منهم حاول في موقف له أن يسطع على حساب زملائه أو أن يسلب أخاه مجدا يراه حقا له. ولعل مرد ذلك فيهم إلى ما لقنوه من ثقافة ومعرفة حرمتها الكثير من رجال المسرح الأقدمين.

فهل من الأنصاف أن يقال عن رجل يصدر عنه هذا الكلام أنه يريد النيل من هذه الفرقة؟

على أن الأستاذ الجليل يستطرد فيتهكم بي ويغمرني غمرة يحسبها تنال مني إذ يقول (إن هذه أول مرة يطالع لي كلاما عن المسرح)! وليس عجيبا ألا يقرأ الأستاذ شيئا مما أكتب من فصول في الأدب والنقد والشعر منذ سنوات بعيدة، ولكن العجب كل العجب ألا يقرأ - على الأقل - هذا الكلام الذي قدمت وهو يمسه فرقته مسا مباشر.

ولولا أني أمقت أن أتحدث عن نفسي لدللت الأستاذ على مئات ومئات من الكلمات التي كتبت هنا وهناك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ولكن هذا انحدار بقدري لا أرضاه لنفسي.

ويزيد الأستاذ فيأخذ على أنني لم أحاسب الفرقة الأخرى التي لم تقدم شيئاً يتجاوب مع ما يستبد بنفوس الجمهور، وهو يعني بها فرقة الأستاذ يوسف وهبي وهذا كلام له خبيئ! فأرجو أن يعلم الأستاذ أنني لا تربطني بواحد فرد من أعضاء هذه الفرقة أقل رابطة، ولو أن هذه الفرقة ادعت أنها قامت بشيء في سبيل خدمة العقيدة الوطنية لكان حسابنا لها عسيرا، ولكنها لم تفعل، وليس في وسعنا أن نأخذ الناس بغير ما يأخذون به أنفسهم. على أنها في ذلك مقصرة مسرفة في التقصير دون شك.

4 - ونعود بع هذا إلى موضوع المسرحيتين اللتين يذكر الأستاذ عنهما إنهما (من أقلام مصرية حاذقة أحست النبض الذي يدق في قلب كل مصري فجاءت كل مسرحية منهما تعكس في مشاهدها صورا ورؤى مما يعمر رؤوسنا في هذه الفترة العصبية من حياة مصر) ولست أعيد هنا ما قلته في كلمتي الأولى من أن كلتيهما لا تعبر تعبيرا صادقا تاما عن هذه المعاني؛ ولكني أزيد فأقرر بأنني عندما أعلنت رأيي هذا للصديق الكريم مؤلف (مسمار جحا) ذكر لي أنه لم يؤلف مسرحيته في هذه الأيام ولكنه ألفها منذ عام، وأنها بين يدي الفرقة منذ ألفها، وأنه لم يكن يقدر عند تأليفها أن الأمور ستجري في مصر على هذا النحو الذي جرت عليه من إلغاء المعاهدة وما تبعه، بل أنه لآسف أن يقع تمثيلها بعد إلغاء المعاهدة وهو إنما أراد بها أن تمثل قبل إلغائها! وتفضل فاستمع لرأي هذا في قبول حسن. فهل حقا كانت بين يدي الفرقة في هذا الوقت الذي يقرر مؤلفها الفاضل أم أنه أراد بها أن يعكس ما يعمر رءوسنا في هذه الفترة العصبية؟

وأما الثانية فقد أخبرني مؤلفها الفاضل بأنها ليست جديدة ولكنها كانت تمثيلية إذاعية، فطلب إليه الأستاذ الجليل زكي طليمات أن يجعلها مسرحية للتمثيل وحدد لها مدى لا يعدوه وجعله خمسة عشر يوما فقط! وذكر لي الأستاذ المؤلف عندما تفضل فدعاني لشهودها في (اللوج) الخاص به في أول ليلة قدمت فيها، قال لي على ملأ الناس ما يكاد يكون نصه: إنك ماض الليلة لتراني في أسوأ حالاتي! فهل كنت متجنبا ظالماً في هذا الرأي الهادئ الذي أعلنته عن المسرحيتين في لطف وعدم إسراف؟.

ولم أشأ أن أقول يا سيدي الأستاذ عن هذه المسرحية - مثلا - إنها تصور المرأة تصويرا سيئا إذ تجعلها تكف ولدها عن النضال وتمنعه من الاشتراك في كتائب التحرير وتصرخ وتولول عندما يأذن له أبوه بذلك!.

لم أشأ أن أقول هذه أو غيره وهو كثير أشار إلى بعضه صديقنا الأستاذ عبد الفتاح البارودي، ولكن الأستاذ الجليل زكي طليمات يرميني بأنني أعتسف النقد أعتسافاً وذلك في الحق منه تجن كبير، اللهم إلا إذا صح ما يقول البعض من أن الأستاذ قد أجرى فيها من التعديل والتغيير ما جعله يحس - بينه وبين نفسه - أن تأليفها معزو إليه، فهو إذن يدافع عن نفسه لا عن المؤلف الذي يعرف الناس انهاله.

ومعاذ الحق أن نجمع بين هاتين الروايتين إلا في المعنى الذي قدمت، أما دون ذلك فبينهما فرق بعيد.

فالأولى. . . وأعني بها مسمار جحا - فن وأصالة وأناة.

والثانية - وأعني دنشواى الحديثة - عرض وسرد وحكاية وزجل لطيف ونقل (فوتوغرافي) كما وصفها بحق صديقنا البارودي.

وأغلب الظن أن المؤلف الثانية انتفع كثيرا بالأولى في بعض الحوادث والأشخاص، فالباحث المدقق يلمح ذلك جيدا وللأستاذ عذره في هذا فقد ألزم زمنا غير فسيح.

يا سيدي الأستاذ الجليل:

أرجو أن أخلص من هذه الكلمة وقد استقر لديك أنني لا أنطوي إلا على الحب لك، وأنني أصلب عودا من أن أستتر وأستخفي وأهرب من تبعة ما أقول، وأنني لست من هؤلاء الذين يستذلهم الغض فيكتبون بعين وينظرون بالعين الأخرى إلى بريق الوهاج.

والسلام عليكم ورحمة الله.

علي متولي صلاح