مجلة الرسالة/العدد 967/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 967/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 01 - 1952



قانصوه الخوري

سلطان مصر الشهيد

حادثة وجزاء

للأستاذ محمود رزق سليم

جلس الشاعر (شهاب الدين) في إحدى الليالي القريبة يقص على اصدقائه تفاصيل حادثة (المشالي) وأسرارها، فقال:

يا لها من حادثة! كانت خافية مستورة، فأصبحت بلعاء مشهورة، وكانت فردية شخصية، فأضحت مسألة اجتماعية. . .! حادثة أتحد على وقوعها، عقلة ضاربة، وحب جارف، وخيانة دنيئة، وغيره قاتلة. وخوف مستقر، وصداقة عمياء. . ولم يستطع العلم - أو قل العلماء - أن يشخصوا لعلاجها دواء شافيا، حتى تقدمت القوة، فحسمت داءها وعجلت شفاءها. . . حادثة يتضح منها ان جلالا وكبرياء قد يستخذيان حينا، ويخور عزمها حينما ينكشف ما يدخران في أطوائهما من سيئ الأخلاق وأن الرذيلة إذا تحكمت في النفوس فلن يجتث جذورها حرمه علم أو رفعه منزلة. . .

تلك هي حادثة (المشالي) التي ارتج لها ضمير السلطان الغوري، واضطرب لها علماء الدولة، وسخرت منها القوة، وعزل بسببها قضاة الشرع الأربعة، وحرمت البلاد قضاءها فعطلت الحكام بضعة أيام.

تعلمون أنه منذ عهد الملك الظاهر بيبرس، رسم بأن يكون للبلاد أربعة قضاة شرعيين، لكل مذهب قاض، وهو يعين من قبله قضاة ينوبون عنه في الحكم. وكان (نور الدين على المشالي) أحد نواب الشافعية - وكان يسكن إحدى نواحي القاهرة. وله صديق من نواب الحنفية يدعى (غرس الدين خليلا) جمعت بينهما جامعة العلم، وربطت قلبيهما رابطة الزمالة. وعقدت بينهما أواصر الصداقة.

كانا يتزاوران بغير ريبة. ويتسامران في جو من الثقة والطمأنينة. . وفي هذا الجو وقعت الحادثة: كان لغرس الدين زوجة حسناء فاتنة. معتزة بمالها من جمال ومحاسن، مدلة بمالها من رقة ومفاتن. . وكانت حينما تغادر منزلها تتبرج وتزدان، وتبالغ في التطرية، فتلفت بذلك النظار وتسترعي العيون وتثير الرغبات فتمشي وتخلف في كل قلب لوعة، وفي كل فؤاد جذوة.

وكان أشد الناس ولها بها والتفاتا غليها ومراقبة لها واجتراء عليها، شاب يدعى (شميسا) وهو ابن أخت القاضي نور الدين الدمياطي. وكان (شميس) قاطنا على مقربة من دارها، فكان يرقب أحوالها ويتفقد أعمالها بدافع من حبه لها ورغبته فيها وغيرته عليها، فعرض لها مرارا، وتودد إليها تكرارا، فتأبت عليه، وصعرت له خدها، ومشت في طريقها من دونه مرحا. والدال ملء إهابها، والزهو في جلبابها. . .

والتهبت نفس (شميس) حنقا عليها، وثارت سعيا في سبيل الانتقام منها. وأيقن بغريزته أن امرأة لعوبا على غرارها، لا تصفو لزوجها، وبخاصة لأن زوجها فيه طيبة قلب يأباها الرجل اليقظ. . . ولابد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها. ولابد أن يكون لها خليل ملك عليها قلبها وأسر لبها واختصته بصادق حبها.

ورأى أن (المشالي) أكثر الزوار ورودا إلى دارها، وأنه حينما يفد إلى الدار تتبدى بها حركة غير عادية. كأنما هو ضيف لا كالضيوف، وزائر لا كالزوار. . فوقع في نفس (شميس) أنه لابد من وجود صلة لا تطيب لها النفس الكريمة، ولا تطمئن إليها الضمائر الحية. فشدد عليها في الرقابة حتى صدق حدسه، وحانت له فيهما فرصة. .

وفي يوم صفت جواؤه وتكشف سماؤه، عنت (لغرس الدين خليل) زوج هذه الحسناء، حاجة، اضطر في سبيلها إلى أن يخرج من القاهرة إلى جهة الإمام الليث - رضى الله عنه - فامتطى دابة وأخبر امرأته أنه سيقضي ليلته هناك. ويبدو أن شميسا قد علم بخروج غرس الدين وبالناحية التي خرج إليها. فأثارته الغيرة إلى أن يقعد للعاشقين بالمرصاد.

أرسلت الحسناء خلف عشيقها فأسرع إلى اللقاء، ومعه ما لذ وطاب من طعام وشراب. وجاء وفي حركته توجس وفي وجههه خيفة، وفي تلفته ريب، ويكاد يقول: خذوني. . . وأندفع إلى الدار وغلق من خلفه أبوابها. .

اعتلى شميس من فوره، راحلة عجل بها إلى مكان الزوج، واعلمه الخبر، فصعق وامتقع لونه، وعاد إلى داره في وحي وعجلة فرأى الجريمة رأى العين.

خار الرجل واضطرب وحار بين زوجة عابثة وصديق غادر. وثار ثورة الانتقام، وتنبهت في نفسه حينذاك قسوة جارفة كادت تقضي على المجرمين. . . لولا مسكة من طيبة، وبقية من ضعف. فرأى أن يسلمها لولاة الأمور ليعاقباهما العقاب المشروع.

خجل (المشالي) من صديقه، وأكب على قدميه يقبلهما، ويسأله العفو والمغفرة، وعرض عليه بعض المال يشتري به رضاه وينقذ نفسه من عقوبة لا ريب فيها، وفضيحة لا فرار منها. . . وتقدمت المرأة بنفس محتالة ودموع سيالة وألفاظ ختالة وضعف يستدر العطف، إلى زوجها تستجديه أن يسترها. . ووهبت له جميع ما في البيت من المتاع. فأبت نفسه أن تلين لزلتهما. وأشهد عليهما، وأقفل الباب وذهب إلى حاجب الحجاب. .

كان هناك رجل يكاد يطفر قلبه ويثب شماتة وأشتفاء. ذلك هو (شميس) كان يرقب القصة وفصولها عن كثب. فلما ذهب الزوج. حرس هو الباب ومعه عصابة من إخوانه، حتى وفدت جنود الحاجب فساقوا الجانبين إلى داره. وهناك أمام الحاجب لم يجدا مفرا من الإقرار بجريمتهما. وأستقدم الحاجب القاضي (شمس الدين بن وحيش) أحد نواب الشافعية ومن زملاء (نور الدين) فسمع إقرار زميله على نفسه، وكتب بذلك محضرا موقعا عليه منه.

أخذت النخوة حاجب الحجاب، ورأى أن يعاقب الجاني المعترف، عقابا ما، فنزع عنه ثيابه وضربه ضربا مبرحا حتى كاد يهلك. أما المرأة فقد حملت على أكتاف المشاعلية وضربت ضربا موجعا حتى كادت تموت. ثم أركب كل منهما حمارا، ركوبا معكوسا. وطيف بهما في شوارع القاهرة وأزقة الصليبية وحارات قناطر السباع. فملاء فضيحتهما أفواه الناس. وأصبحا عبرة للمعتين ثم أعيدا إلى سجن حاجب الحجاب.

إلى هنا كاد الستار يسدل على هذه القصة، لولا أن حاجب الحجاب فرض على المرأة غرما ماليا مقداره مائة جنيه ليطلق سراحها، فأنكرت أنها لا تملك مالا. فطلب الغرم من (غرس الدين) فأبى أن يدفعه. فاقتيدا إلى السجن حتى تؤدي الغرامة وهنا بدأ الستار يرتفع للمرة الثانية. .

كان لخليل - الزوج - ولد صغير يقرأ بأبواب السلطان في الدهيشة، وهو من الصغار المقربين إلى السلطان. . . فهاله أن يقبض على أبيه بغير جريرة، فأنهى الخبر إلى السلطان في سذاجة. .

هنا أتسع الخرق على الراقع، وخرجت المسألة إلى نطاقها الواسع. وضخم أمر الجرم في نظر السلطان، وهاله الأمر، وحز في نفسه أن يجترئ أحد نواب الحكم على اقتراف هذا الجرم. .

جمع السلطان قضاة الشرع الأربعة، وقرعهم تقريعا جارحا وهو يقول: هنيئا لكم يا قضاة الشرع، تعاليتم في البناء وأغرتكم زخارف الدنيا. وأصبحتم وديدنكم الزهو والفخار. ونوابكم منهم من يشرب الخمر، ومن يقترف الزنا، ومن يبيع الوقف، ولا يخشى الله. .

ثم عرض المحضر الذي كتبه القاضي (شمس الدين بن وحيش) وطلب إلى هذا القاضي إبداء رأيه في الموضوع. فحكم بالرجم. . . فوقع هذا الحكم من نفس السلطان موقع الرضا والقبول. وطلب من (ابن وحيش) أن يصدق على هذا الحكم حتى يأمر بتنفيذه. فتوقف (ابن وحيش) عن التصديق، منتظرا أن يجيزه به قاضي قضاة الشافعية. فأجازه القاضي - وهو كمال الدين ابن الطويل - وهيئ الحكم للتنفيذ.

شغل السلطان بعد ذلك بأمر الحجاج وخروج المحمل، فأمر بايداع المجرمين في السجن حتى يتفرغ لهما، ويعذبهما بجرمهما عذابا يكتب في تاريخ عدالته. . هنا بدأ الفصل الثالث من فصول هذه الرواية.

كان (للمشالي) صديق حميم وخل وفي كريم، ومن نواب الشافعية، دفعته الصداقة ومقتضياتها، والزمالة ودواعيها إلى إنقاذ زميله من موت محقق وعقاب منكر، وأخذ يستجدي ذكاءه وحيلته، حتى ابتكر مخرجا شرعيا بارعا، يرجم به هذا الأثيم. . ذلك الصديق هو القاضي شمس الدين الزنكلوني.

ذلك أن الزاني المعترف على نفسه بجد ويرحم. فإذا رجع عن اعترافه قبل الرجم، لا يرجم لقيام شبهة في الجريمة وهى جريمة زنا، والحدود تدرأ بالشبهات.

أوعز (الزنكلوني) إلىصديقة (المشالي) أن يرجع عن اعترافه، فرجع. . . وسطر الزنكلوني سولاً بهذا المعنى يستفتى فيه العلماء في حق الزاني في الرجوع عن اعترافه، وسقوط حده تبعاً لذلك ودار بهذا السؤال على أبوابهم، فأفتى له برهان الدين أبي شريفالمقدسي - وهو قاضي قضاة الشافعية السابق - بجواز ذلك. ثم أفتى له جماعة من العلماء آخرون.

وبلغ أمر الفتوى مسامع السلطان، فاهتاج وركبة الغيظ والحنق، وثار مرجل غضبه، وجمع توا مجلساً علمياً حاشداً، فيه قضاة الشرع الأربعة والقضاة المنفصلون من القضاة، وعدد من جلة علماء العصر وبينهم القاضي الأجل الشيخ زكريا الأنصاري، والقاضي أبن أبي شريف.

عرض السلطان عليهم تفاصيل المسألة. وأنكر عليهم إنكاراً شديداً أن يضبط نائب من نوابهم في فراش زميله ثم يعترف ويقر بالجريمة، ويكتب اعترافه بخطه وبحكم عليه، ثم يقال بعد ذلك إن له حق الرجوع عن الاعتراف. . . فلا يحد. وقال: هذا أمر عجيب وحكم وسبه لا يرضاها رجل عادل.

فقال له برهان الدين أبن أبي شريف. (إن هذا حكم الله وشرعه. وإليك يا مولانا ما قاله السلف في هذا الموضوع. وطفق يطلعه على المراجع والنقول. فلم يلتفت إليه السلطان، وقال له: أنا ولي الأمر، ولي النظر العام في ذلك. . . وأكيف المسألة حسبما أراه مطابقاً للعدل، فقال أبن أبي شريف: نعم! ولكن بم يوافق الشرع الشريف. وإن قتلها تلزمك ديتان عنهما. فحنق السلطان وكاد يبطش به.

ثم التفت إلىالشيخ الأنصاري وهو رأس الشافعية في ذلك الوقت، فقال له: ما تقول في هذه المسألة؟ فقال الشيخ زكريا: له حق الرجوع بعد الاعتراف. وإذا رجع سقط عنه الحد. فقال له السلطان وهو مغيظ: أتتحمل جريرة هذه الفتوى؟ فرد عليه قائلاً: ومن أنا حتى أتحملها، فليتحملها الإمام الشافعي صاحب المذهب. فقال له السلطان: إنك رجل قد كبرت وشاخ عقلك، وأصبحت لا تصلح للفتوى.

ثم التفت السلطان إلىالشيخ نور الدين المحلي يسأله عن رأيه فرد عليه قائلاً: إن ما يقوله لك يا مولنا مشايخ الإسلام، هو نص ما قاله الأمام الشافعي وغيره من علماء الأمة.

فقال السلطان نرجو أن ترزأ بمثل هذه الحادثة في بيتك. . فوجم الشيخ وقال: عافانا الله من ذلك.

وأخذا السلطان يتفرس وجوه قضاته وعلمائه وأحداً واحداً، لعله يجد في وجه واحد منهم من الإشارات ما يريحه ويرضيه. . ولكنه وجدهم جميعاً على قلب رجل واحد؛ فصاح فيهم حانقاً، وتنور غيظه يفور، وطردهم من مجلسه شر طردة؛ وهنا يبدأ الدور الرابع من هذه الرواية.

لم يستجيب السلطان الغوري لغير ضميره، وغير صوت العدالة التي رآها. فبدأ بعزل الدميري قاضي قضاة المالكية. وحرم أبن أبي شريف من مشيخة مدرسة السلطان ونفاه إلى القدس. أما قاضي قضاة الحنفية عبد البر بن الشحنة، الذي كان من السلطان بمنزلة جعفر البرمكي من هارون الرشيد، فقد كاد يبطش به، ولفظه من صحبته. . . ثم أقال القضاة جميعاً من مناصبهم. وقبض على القاضي شمس الدين الزنكلوني، مبتدع الفتوى، وقال له: (فليبطل حكمي، وليقض بحكمه) وأمر ببطحه بين يديه أرضاً فضرب نحو ألف عصا. وضرب ولداه كذلك نحو ستمائة عصا، إذ كانا يسعيان فيما يسعى إليه أبوهما. ونفاهم السلطان، فخرجوا هائمين على دوابهم، والدماء تسيل من أبدانهم. . . ثم أشيع أن الزنكلوني مات من هول ما أصيب به.

وأشتد حنق السلطان على الفقهاء، حتى أمر والي القاهرة بأن يقبض على كل من رآه منهم سكران، ورصد له خلعة معنية وفرساً مسرجاً جائزة له إذا قبض على واحد منهم. وحرم على المباشرين المتعممين أن يدخلوا عليه فكانوا يحتالون على ذلك، بلبس تخافيف الجراكسة.

أما المذنبان فقد أمر السلطان بشنقهما على باب بيت القاضي أبن أبي شريف مبالغة في النكاية به. فلما نصبت المشنقة على بابه - وكان منفياً - ظن أبناؤه وأسرته أنه هو الذي سيشنق فأعولوا وأشتد بكاؤهم عليه.

أجتمع الناس في ذلك الصباح الباكر، وجيء بالرجل والمرأة ووضعا مما لوجه، وشنقا بحبل واحد. . . وأرخى الستار

انتهى شهاب الدين الشاعر من قصته، وإخوانه بين معجب به ومعجب بالسلطان، وبين ناقم عليه أو متحير في أمره. وكانت هذه القصة محوراً لأحاديث طريفة دارت كئوسها بينهم حواراً وجدلاً، حتى أتموا سمرهم، وحان موعد انصرافهم، فانصرفوا - كعادتهم - على ميعاد.

محمود رزق سليم