مجلة الرسالة/العدد 966/إلى السلاح. . يا عرب
مجلة الرسالة/العدد 966/إلى السلاح. . يا عرب
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أيها القراء! إني ما جئت أصب في أعصابكم قوة ليست فيها، ولكن جئت أثير القوة التي نامت في أعصابكم وما جئت لأجعلكم خيرا مما أنتم عليه، ولكن جئت لأفهمكم أنكم خير مما أنتم عليه. جئت أضرم جمرة الحماسة التي غطاها في نفوسكم رماد الكسل. فأعينوني على نفوسكم من رماد الكسل.
فأعينوني على نفوسكم استعادة الثقة بها، وبسلائق العروبة التي ورثتها، وبعزة الإسلام التي كانت لها. واعلموا أنكم إن فقدتم عزتكم، وأضعتم سلائقكم، لم تكونوا جديرين بمحمد، ولم يكن لكم الحق في الاحتفال بمولد محمد!
يا سادة! إن الأمم كالأفراد: ألا يكون الرجل منكم رائحا من عمله، خائر الجسم، وإني العزم، كل أمانيه أن يصل إلى الدار فيلقى بنفسه على أول مقعد يلقاه، قبل أن يستنفذ الجهد قواه، فيجد في الدار بشارة بأنه رفع درجة، أو نال جائزة، أو هبط عليه إرث ضخم، من قريب منسي، فيحس بأنه انتفض كما ينتفض العصفور بلله القطر، وانتعش كما ينتعش النبات أرواه الماء، ونشط كما ينشط الجمل أطلق من عقال؟
ألا يكون أحدكم مرخي الأعصاب، خامل الجسد، قد خدره النعاس حتى ما يقدر أن يفتح عينيه، فيعدو عليه عاد، أو يطرقه لص، أو يحقره إنسان، فيشعل الغضب في دمه نارا، ويشد من أعصابه أوتارا، فيثب ويريد أن يقتحم الجدار، أو يخوض النار؟
ألا يكون أحدكم تعبان كسلان، يجر قدميه من الونى جرا، يظن أنه سيسقط من كلاله على الأرض، فيلحقه عدو فاجر، أو يطارده وحش كاسر، فإذا هو ينطلق انطلاق القذيفة من فم المدفع، ويعدو عدو الغزال المروع؟
هذه أيها الناس القوة المدخرة في أعصاب الإنسان، يظهرها الأمل، ويبيدها الغضب، ويبعثها الخوف. وفي الأمم قوة كهذه القوة. وما الأمة إلا الأفراد. الأمة أنا وأنت وهو وهم وهن، أفلا تحس أن غضبت أو فرحت أو جزعت أن نبضك يسرع، وقلبك يخفق، ووجهك يصفر أو يحمر، وجسدك كله يتبدل ويتغير؟ فكذلك الأمم، تكون نائمة آمنة، قد غلب عليها الخمول، وشملها الارتخاء؛ فما هي إلا أن يبعث الله لها القائد العبقري، يصرخ فيها ينذره الخطرا، أو يحذرها عدوا، أو يعدها نصرا مؤزرا، حتى تثب كما يثب الجندي المستريح إلى سلاحه، فتعمل العجائب، وتصنع المعجزات، وتدع التاريخ حائرا من فعلها مشدوها
هذه هي الأمثلة تملأ العصور، وتترع صفحات التاريخ، الأمثلة من الشرق والغرب، من القديم والحديث، حيثما تلتقي وجدتم مثالا
هذه مصر! كانت على عهد المماليك، بلد الجهل والافتراق والضعف والتخاذل، فما هي إلا أن بعث الله لها محمدا عليا، حتى نهضت نهضة الأسد، فكانت لها المدارس والصحف والصروح والمصانع ومعامل السلاح، وكان لها الجيش الذي فتح الشام، وقهر الأتراك سادة الجحافل، وأبطال الميادين، وكاد (لولا مكر إنكلترا وغدرها) يهد عرش آل عثمان. وكان لها الأسطول الضخم الذي كاد (لولا تلك الجريمة التي لم يحاسب عليها بعد مجرموها) يعيد البحر المتوسط، بحر العرب، كما كان أيام عز العرب
وهذه جماعة الأتراك من آل عثمان! كانت قبيلة بدوية تسكن القفار، وترعى الأبقار، ليست في عير ولا نفير؛ فلما بعث الله لها عثمان وشرفه بالإسلام، صارت به وبخلفائه الأولين؛ ومراد والفاتح وسليم وسليمان، صاحبة القسطنطينية، ومالكة ما بين خراسان وأسوار فينا، وصار البحر المتوسط بحيرة في أملاكها
وهذه فرنسا! ماذا كانت فرنسا في أعقاب ثورتها؟ أمة الفوضى والانحلال، والحيرة والضلال، والتبدل من حال إلى حال؛ فما هي ألا أن جاءها نابليون حتى ملكت تحت لوائه أوربة كلها، وصارت أمة الأمم
وهذه روسيا! كانت بلاد أدنى إلى الهمجية والجهالة، فما هي إلا أن جاءها بطرس حتى غدت به بلدا أوربيا من بلاد المدينة والعمران
بل هذا هو المثل الأغر المحجل، الذي لا تادنيه الأمثلة، ولا تضارعه في سموه النهضات
هذه القرية التي كانت ممتدة وراء الرمال، نائمة في ظلمات من الجهل والفقر والجدب فوق الظلمات، لا تدري بها المدن الكبار، ولم يسمع بها التاريخ، هزها بيمينه سيد العبقريين، وأعظم العظماء، من كان في الأرض سفير السماء، وكان إمام الرسل وأفضل الأنبياء: محمدهزها، فإذا هذه الرمال المحرقة التي لا تعيش فيها الحياة، تنبت السهول الخصاب، والرياض والجنات! وإذا هذه القرية الضائعة تلد المدن العظام: الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والقيروان! وإذا هذه القبائل المتفرقة تخرج الجيش الذي فتح الشرق والغرب، وملك ثلثي العالم المتمدن في ثلث قرن! وإذ هذه الأمة الجاهلية تنجب الأساتذة الذين علموا الدنيا، وأرشدوا أهلها، وأقاموا أعظم حضارة عرفها البشر، حضارة خير وحق وجمال، ليست حضارة قتل وتدمير، ومصائب وإنكليز، ويهود وبارود، وقنبلة ذرية. . .
وأمامكم من هذه الأمثلة مئات
بل إننا نستطيع اليوم في كل قطر عربي أن نضرب من أنفسنا الأمثال
إنه لا ينقصنا لنعز ونسود، ونسير على سنن الجدود، إلا حرب تنبه، أو زعيم عبقري يقود. إننا لا نريد إلا أن يتحمس العرب، أو يغضب العرب، أو يخاف العرب، فتوقظهم الحماسة، أو يثيرهم الغضب، أو يحركهم الخوف، فيرجعوا إلى مكان الصدارة بين الأمم
إن سوريا الصغيرة تستطيع أن تكون من الدول الأوائل على وجه الأرض حضارة وعلما وقوة ومالا
لا. لا تقولوا نحن قليل، فاليهود أقل منا.
لا تقولوا: نحن قليل، فإن أرق دول أوربة رقيا، وأفضلها حضارة، هي أقلها ناسا، وأضيقها رقعة: سويسرا وهولندا ودول الشمال. ونحن أحسن من بعضها موقعا من الأرض، وبلادنا أوسع، وخيراتها أكثر، ونحن أسرع سيرا في طريق النجاح
ألا ترون ما صنعنا من (يوم الجلاء) إلى اليوم؟
أما عملنا في خمس سنين ما لم نعمل مثله في خمسين سنة؟
أما صار لنا جيش؟ أما غدت لنا جامعة؟ أما أقيمت في بلدنا (معامل الشركة الخماسية) التي شهد كل من رآها بأن الحضارة لم توجد اليوم أعظم منها؟ أما استبدلنا بالمحاريث التي كانت تجرها البقر أضخم الآلات فزادت زراعتنا أضعافا؟
هل لأمة مثل ما لنا من الحزم والعزم، وركوب الفوات، واقتحام اللجج، والضرب في الأرض؟ هل على ظهر هذه الكرة بلد ليس فيه رجال منا، نزلوه فقراء فصاروا فيه من كبار الأغنياء؟ أليس في الأمريكتين وفي أوربة كلها وفي السنغال وفي الكونغو وفي الكاب وفي شنغهاي وفي اليابان رجال من الشام يجاهدون للمال، ويعملون للغنى، ويدهشون أهل كل بلد نزلوه، بتلك الهمم وهاتيك العزائم؟ هل نزل اليهود بلدا فلم يكونوا أرباب المال فيه، إلا الشام، فما كان اليهودي في الشام إلا متجرا بعتيق الثياب، يدور بها على الأبواب، أو منظفا لمجاري الكنف تحت الأرض؟ ذلك لأن أهل الشام أبصر بالعمل، وأعرف بطرق جمع المال من اليهود
وهذه والله فخر لهم، وإن عدة ناس طعنا عليهم
أفيعيينا (معشر العرب) ولنا هذه السجايا، أن نتقلد السلاح، ونرجع أمجاد الأجداد؟ أتعجزنا حرب إسرائيل؟
أهؤلاء الزعانف أو شاب الأمم، أم دول أوربا رمتنا عن قوس واحدة أيام الصليبيين؟
أهؤلاء أم سيول التتر، لما قادهم إلينا هولاكو فحطوا علينا حط الجراد؟
أهذه (الدويلة. .) بنت ثلاث سنين. . أم دول الصليبيين التي شاخت في أرضنا إذ عاشت فيها أكثر من مئة سنة؟
أهذه الدويلة. . . ونحن بالجيش والسلاح، ولنا الاستقلال، ومعنا المال، أم فرنسا ذات الحول والطول، لما حاربها رجال منا بأيديهم، لا يملكون إلا السلاح الذي أخذوه من جنود فرنسا؟ فوقفت فرنسا بدباباتها ومدافعها عند جسر تورا سنتين لا تستطيع أن تجتازه، وما عرض النهر إلا خمسة أمتار، وما يحميه إلا عشرات من الثوار.
أما نصرنا الله في أيام أشد من هذه الأيام؟
أضاعت ثقتنا بالله ثم بأنفسنا وبماضينا وبأمجادنا؟
ألا ترونها تتلظى في العروق الدماء، وتتفجر في الرؤوس الحماسة؟ أما ترون شباب مصر، وطلاب الجامعة، وتلاميذ المدارس، وعمال المصانع، يزلزلون الأرض، لا يطلبون إلا أن يفتح لهم الطريق، ليمشوا إلى حرب إنكلترا؟
إنهم لا يحفلون جندها، ولا يبالون سلاحها، ولا يخشون حديدها ونارها. ولو فتح الطريق لنساء مصر، لمشت إلى حرب إنكلترا نساء مصر!
إن ها هنا شعبنا يريد أن يموت ليحيا وطنه، فهل تستطيع إنكلترا أن تبيد الشعب كله؟
فيا أيها الحاكمون في بلاد العرب، لا تطفئوا هذه الحماسة. لا تزهقوا هذه الروح.
يا أيها الحاكمون، أجعلوا كل ميدان في البلد ساحة تدريب، وكل قادر على الحركة جنديا. دربوهم وخلوا طريقهم، فإنكم لا تدرون متى تحتاجون إليهم. (جندوا) كل يافع وكل كهل وكل عجوز، لا أقول ألبسوهم جميعا بزة القتال، وسوقوهم إلى المعركة، لا، فليس الجيش هو الذي يحارب فقط، ولكن أقول سوقوهم إلى الأسواق وإلى المصانع وإلى الحقول، حتى لا يبقى في البلاد كلها عاطل ولا خامل ولا سائل، ولا يبقى في البلاد كلها شبر واحد مقفر أو خال. أقلوا عدد الموظفين، وزهدوا التلاميذ في (الوظائف)، وربوهم على حب العمل، وكراهية الكسل، وأقيموا النهضة على أساس شامل كامل، واجعلوا للبلاد دستورا اقتصاديا مبنيا على أساس العلم ودواعي الحاجة، وعدلوا أسلوب الموازنة، وقوانين الضرائب، فإنه لا يجوز في شرعة العصر أن يدفع تسعة أعشار الضرائب الفقراء، ويفلت منها كبار الأغنياء. واستفيدوا من خيرات الأرض وبركات الوطن؛ فإن هذا البترول العربي لو أنفق ثمنه في أسباب القوة، وفي سبيل الإصلاح، ولم ينفق على الإثم والفسوق ومعصية الرسول، لكانت به كل مدينة عربية، مدينة أمريكية!
ثم استنهضوا همم الرجال، واستثيروا بذل الأغنياء، وحرموا إنفاق المال في وجوه السرف، وألوان الترف، وأنفقوا كل ما اجتمع لكم من مال في السلاح والعتاد. دربوا الناس على القتال، واجعلوا من الشباب جنودا مستعدين ليوم الكريهة، وانشروا في الشعب علم النجاة من الغارات والهجمات، وسخروا الصحف والإذاعات لبث القوة والرجولة في صدور الرجال.
إلى السلاح - يا عرب!
إلى السلاح - فنحن في حرب ما بقى في فلسطين يهودي واحد.
إلى السلاح - فنجن في حرب ما بقى في القناة إنكليزي واحد.
إلى السلاح - فنحن في حرب ما بقى في تونس أو مراكش أو أي قطر عربي أجنبي واحد.
إلى السلاح - يا عرب.
علي الطنطاوي
قاضي دمشق