مجلة الرسالة/العدد 964/معركة الذباب!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 964/معركة الذباب!

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 12 - 1951



للأستاذ محمود أبو رية

قامت في الشهور الأخيرة معركة حامية بين مجلتي لواء الإسلام والدكتور حول حديث الذباب فالأولى تتمسك بهذا الحديث وتصر على إثباته ليأخذ الناس به ويصدقوا بمدلوله مرتكنة على أن كتب الحديث قد أوردته ومنها البخاري. وأما الثانية فتدفع هذا الحديث وتستبعد صدوره عن النبي الذي لا ينطق عن الهوى؛ وحجتها ما أثبته العلم وحققته التجربة من ضرر الذباب وأنه ناقل للعدوى في أمراض كثيرة.

وإن المرء ليأسى أن يقوم إنسان في هذا العصر الذي زخرت فيه بحار العلم وأخرجت من درر المخترعات والمستكشفات ما يدهش العقول، وتسابق أهلوه في مضمار العلم ما استطاعوا للانتفاع بما خلق الله لهم وسخره لعلومهم في السماوات والأرض متخذين في ذلك كل سبب من أسباب العلم والتجربة - فيشغل الناس بهذه الأبحاث العقيمة التي لا تنفع ولا تفيد بل هي إلى إساءة الدين أدنى وإلى ضرر الناس أقرب

ولقد كان جديرا بمجلة لواء الإسلام التي نرى بين محرريها علماء فضلاء أمثال الأستاذين عبد الوهاب خلاف بك وعبد الوهاب حموده بك أن تسود صفحاتها بسطور مثل هذا البحث العقيم الذي يفتح ولا ريب على الدين شبهة يستغلها أعداؤه ويتوارى منها أولياؤه. وأن تدع الأمر في مثل هذا الحديث إلى العلم وما وصل إليه بأبحاثه الدقيقة وتجاربه الصحيحة التي لا يمكن نقضها ولا يرد حكمها!

وماذا يضر الدين إذا أثبت العلم ما يخالف حديثا من الأحاديث التي جاءت من طريق الآحاد، وبخاصة إذا كان هذا الحديث في أمر من أمور الدنيا التي ترك النبي صلوات الله عليه أمرها إلى علم الناس. وهل أوجب علينا الدين أن نأخذ بكل حديث حملته كتب السنة أخذ تسليم وإذعان! وفرض علينا أن نصدقها ونعتقد بها اعتقادا جازما!

إن الأخذ بكل ما جاء في كتب الحديث أخذ تسليم وإذعان إفراط في الثقة لم يأمر العلم ومخالف لما وضعه العلماء من قواعد لعلم الحديث. ذلك بأن الذي يجب التصديق به واعتقاده إنما هو الخبر (المتواتر) فحسب؛ وليس عندنا كتاب يجب اعتقاد كل ما جاء به اعتقادا جازما يبعث اليقين إلى القلب غير القرآن الكريم الذي جاء من طريق (التواتر) والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

أما الأخبار التي جاءت من طريق الآحاد وحملتها كتب الحديث فإنها لا تعطى اليقين وإنما تعطى (الظن) والظن لا يغني من الحق شيئا. وللمسلم أن يأخذ بها ويصدقها إذا أطمئن قلبه بها وله أن يدعها إذا حاك في صدره شيء منها. وهذا أمر معروف عند النظار من علماء الكلام والأصول والفقه ولم يعارض فيه إلا (زوامل الأسفار) من الحشوية الذين لا يقام لهم وزن.

وإذا نحن أخذنا حديث الذباب على إطلاقه ولم نسلط عليه أشعة النقد فأنا نجده من أحاديث الآحاد وهي التي تفيد الظن - وإذا لم يسعنا ذلك في رده بعد أن أثبت العلم بطلانه فليسعنا ما وضعه العلماء من قواعد عامة - ومن هذه القواعد (أنه ليس كل ما صح سنده يكون منته صحيحا، ولا كل ما لم يصح سنده يكون منته غير صحيح - بل قالوا - إن الموضوع من حيث الرواية قد يكون صحيحا في الواقع، وأن صحيح السند قد يكون موضوعا في الواقع. ومن القواعد المشهورة: أن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.

وإذا قيل إن هذا الحديث قد رواه البخاري وهو لا يروي إلا ما كان صحيحا، فأنا نرد على ذلك بأن البخاري قد روى في كتابه ما اعتبره هو صحيحا عملا بظاهر الإسناد لا ما ثبت في الواقع أنه صحيح. ومن أجل ذلك لا يلزم غيره بما اعتبره هو. وإذا قالوا حديث (متفق عليه) فليس معنى ذلك أن الأمة كلها قد أنفقت على صحته، وإنما معنى ذلك أن البخاري ومسلم قد اتفقا على روايته.

قال الزين العراقي في شرح ألفيته (وحيث قال أهل الحديث: هذا حديث صحيح فمرادهم فيما ظهر لنا عملا بظاهر الإسناد لا أنه مقطوع بصحته في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان على الثقة. هذا هو الصحيح عند أهل العلم المحققين.

ولهذه القواعد وغيرها مما عرف من تاريخ الحديث قال عبد الرحمن بن مهدي (لا يكون إماما في الحديث من تتبع شواذ الحديث أو حدث بكل ما يسمع أو حدث عن كل أحد)

وقال أبن أبي ليلى (لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع)

وقال الأستاذ الإمام محمد عبده (لا أومن بحديث تعرض لي شبهة في صحته. وليست الشبهة في النبي وقوله، ولكنها فيمن روى عن النبي. ولذلك قال الإمام أبو حنيفة في سبب رده لبعض الأحاديث (ردي على كل رجل يحدث عن النبي بخلاف القرآن ليس ردا على النبي ولا تكذيبا له ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله. وكل شيء تكلم به النبي فعلى الرأس والعين قد آمنا به وشهدنا أنه كما قال. . .)

على أننا إذا سلمنا كما قلنا بأن النبي صلوات الله عليه قد نطق بهذا الحديث ثم أثبت العلم ضرر الذباب فليس علينا من بأس في الرجوع عنه وعدم الأخذ به لأنه من أمور الدنيا. ولنا في ذلك أسوة حسنة بما فعل النبي صلوات الله عليه حينما رأى أهل المدينة يؤبرون النخل فأشار عليهم بأن لا يؤبروه. ولما ثبت بعد ذلك ضرر عدم التأبير وخرج الثمر شيصا قال لهم النبي حديثه المشهور (إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن؛ ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به. وفي رواية (إذا أمرتكم بشيء في دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) ثم ختم حديثه بهذه القاعدة الجليلة العامة التي يصح أن تكون دستورا للمسلمين على مر العصور كلها، والتي ثبت بحق أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وأنه صديق العلم وعدو الجهل وهذه القاعدة هي (أنتم أعلم بأمر دنياكم)

أما راوي هذا الحديث وهو أبو هريرة فقد ردوا له أحاديث كثيرة في حياته وبعد مماته حتى من التي صرح بأنه سمعها بأذنه من النبي مثل حديث (خلق الله التربة يوم السبت) الذي رواه عنه مسلم في صحيحه فقد قال البخاري وغيره إن أبا هريرة تلقاه من كعب الأحبار اليهودي

وأنا نكتفي بهذه الكلمة الصغيرة اليوم ونشكر لحضرة النطاسي البارع الدكتور سالم محمد الذي أثار هنا البحث النافع وندعوه وسائر زملائه الأطباء ثم رجال العلم جميعا من مهندسين وفلكيين وجغرافيين وغيرهم أن يستمروا في أبحاثهم العلمية النافعة بوسائلهم الصحيحة التي دعا إليها الإسلام ولا يخشوا أحدا في ذلك (فأنتم أعلم بأمر دنياكم)

المنصورة

محمود أبو رية