مجلة الرسالة/العدد 963/من وحي مولد الرسول:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 963/من وحي مولد الرسول:

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1951


القوة الكامنة في الإسلام

للأستاذ سيد قطب

حينما وقف جلاد ستون في مجلس العموم البريطاني، وبيده المصحف؛ وقال قولته المشهورة: (ما دام هذا الكتاب في أيدي المسلمين فإنكم لن تسيطروا عليهم، ولن يلين لكم قيادهم). . . كأني أعرف بقوة الإسلام الكامنة من الكثيرين ممن يسمون أنفسهم مسلمين. لقد كان يدرك أن في هذا الدين من روح الاستعلاء، ومن قوة المقاومة، ومن عناصر الوحدة، ما يقف للرجل الأبيض بالمرصاد، وما يقاوم أسلحته ودسائسه وحضارته كلها جميعا.

ولكن المسلمين، أو من يقولون عن أنفسهم إنهم مسلمون، لم يدركوا ما أدركه الإنجليز المستعمر، فراحوا يبعثرون في سفه هذا الرصيد المكنون، ويستهينون في بلاهة بتلك القوة الكامنة، ويحسبون الذين رجعية، والعقيدة جهالة، والإيمان سذاجة، وأنهم لا يكونون مثقفين، ولا يكونون متحضرين، ولا يكونون قطعة من أوربا، حتى يتعروا من مقدساتهم، ويتخلوا عن عقيدتهم، ويتندروا بمن يحدثهم عن الإسلام كما لو كان يحدثهم عن الخرافات والأساطير.

ومن هذا الطريق تغلغل الاستعمار. ومن هذا الطريق طوقهم المستعمرون. ومن هذا الطريق ذابت دولهم وشخصياتهم ومقوما تهم واستقلالهم. ومن هذا الطريق طردوا إلى ذيل القافلة، وقد كانوا من قبل مأخذ الزمام.

ومكر الاستعمار، ومكر أذناب الاستعمار، بكل أثر للعقيدة، وبكل محاولة لاستنبات بذورها في الأرواح والضمائر. . في عالم القانون والقضاء نبذت شريعة الله، واستبدلت بها قوانين نابليون. . وفي عالم الوظائف والدواوين، نبذ أصحاب الثقافة الدينية، وأصبحت مراكز الحكم، ومراكز التوجيه كلها في الأيدي التي آمنت بالحضارة الغربية وكفرت بالدين. . وفي برامج التعليم ونظمه، أصبح الدين درسا إضافيا ميتا خارج الجدول، وحتى حين أدخل في الجدول، أدخل ميتا عقيما، والتاريخ الإسلامي انزوى في صفحات مشوهة ممزقة خبيثة.

في كل ميدان، وفي كل حقل حورب هذا الإسلام. حورب في المجتمع، وحورب في الدولة، وحورب في المدرسة. وحورب في الضمير. . حورب حربا لئيمة متصلة واعية تملك كل وسائل التأثير والتدمير. . حورب بقوة السلاح، حين حاولت أوربا الصليبية أن تحطم دول الإسلام في ميادين القتال. وحورب بقوة العلم، في عالم التأليف، وفي دنيا التعليم. وحورب بقوة الفساد الذي كان عملاء الاستعمار ينشرونه في كل مكان تطؤه أقدامهم، ويحطمون به العقيدة وحدها، ولكن الضمير الذي تكمن فيه العقيدة.

لم تبق وسيلة، ولم تبق حيلة، لم يستخدمها الاستعمار الأوربى، ولم تستخدمها الصليبية الغربية في محاربة الإسلام. . . ولكن هذا الإسلام بقى بعد ذلك كله، ورغم ذلك كله، قوة كامنة في أرض الإسلام، وفي أهل الإسلام.

لقد خيل إلى الكثيرين في وقت ما أن هذه القوة قد ماتت إلى الأبد، وأن الدعوات التي ترتفع بين الحين والحين إن هي إلا سكرات الموت، أو هذيان الحمى في اللحظات الأخيرة. . ولكن هذا الإسلام قد أخذ يبدد هذه الظنون. إنه قوة حية. إنها انتفاضة الحياة لا سكرة الموت. إنه هتاف الحياة لا هذيان الحمى. إنها الحقيقة الواقعة الملموسة التي تجبر المستعمرين أنفسهم أن يتحدثوا عن (العالم الإسلامي)!

ذكرت كل هذه المعاني وأنا أحضر حفلا لجمعية العلماء في الجزائر، وأنا ألقى الزعيم الجزائري (مصالي الحاج). . . لقد كانت الجزائر هي آخر أرض إسلامية بتخيل متخيل أن تثب فيها روح الإسلام، بعد كل ما قاسته من كبت وخنق، ومن عذاب ونكال، تحت ضغط الحكم الفرنسي أشنع أنواع الاستعمار الصليبي المتعصب. وبعد كل هذه الجهود المتصلة خلال أجيال كثيرة. جهود المستعمرين، وجهود المبشرين، التي لم تكف عنها فرنسا لحظة واحدة في هذه الحقبة الطويلة.

الجزائر التي جرم فيها تدريس اللغة العربية والدين بالمدارس. والتي صبت الويلات على علمائها ورجال الدين فيها، والتي انتهكت حرماتها وأعراضها لإفساد الدم العربي، وتضييع النخوة العربية، وخلط الأنساب والدماء بالقوة كي تضيع معالم العروبة والإسلام، لا في الأفكار والضمائر فحسب، بل في الدماء والأجسام.

ولكن الإسلام كان أقوى من ذلك كله. كان قوة كامنة عميقة لا تجتث جذورها قوة السلاح، ولا قوة العلم، ولا قوة الدسيسة: كان قوة السماء لا تملك لها قوة الأرض دفعا.

والآن لقد انبعثت هذه القوة من جديد. لقد انبعثت في مشارق الأرض ومغاربها. لقد انبثقت ينابيعها في كل مكان. لقد كانت من قبل كامنة وراء كل حركة من حركات التحرير التي ظهرت في العالم الإسلامي. أما اليوم فقد أستعلنت وأعلنت عن نفسها. لقد أعلنت عن نفسها في الباكستان، وإندونيسيا. وإيران. وأعلنت عن نفسها في مراكش، وفي تونس، وفي الجزائر. وإنها لتهيأ وتتوثب في الملايو، وفي عدن، وفي بورما. . وإنها لتتجمع في مصر والعراق وباقي الأمة العربية. وإنها لتتنادى في مشارق الأرض ومغاربها إلى (كتلة ثالثة). . إلى (عالم إسلامي) وإن الغرب المستعمر ليسمع هذا التنادي، ويرى هذا البعث، ويشهد هذه المعجزة تتم من جديد. وإنه ليحاول أن يستميل إليه هذه القوة الناهضة بعد أن يئس أو كاد من محاولة القضاء عليها.

لقد أدرك الغرب - وهو أسرع إدراكا للحقائق الواقعة - أن العالم الإسلامي لو كان مقدرا له أن يموت لمات. وإذا كان كل هذا السم لم يقتله، فإنه إذن سيزيده قوة، كما تنطق بذلك حكمة أحد شعرائهم (جيته) الألماني!

ولم يبق كافرا بهذا العالم الإسلامي، شاكاً في وجوده وفي قوته، إلا ذلك الفتات الآدمي الذي خلفه الاستعمار الغربي، ممن يسمونهم (المثقفين). ذلك الحطام الذي استعمر الغرب ضميره وروحه وتفكيره. تلك المخلوقات المضحكة التي لا تؤمن بشيء لم يكتب عليه: (صنع في أوربا)!

عما قليل سيرد لهذه المخلوقات المضحكة شيء (صنع في أوربا) يقول لهم: إن العالم الإسلامي حقيقة (مادية) واقعة. . عندئذ سيؤمنون بوجود العالم الإسلامي. وعندئذ سيتحمسون لإقناع الآخرين بهذه الحقيقة (المادية) الواقعة. . ومن يدري. فلعلهم يومئذ سيحاولون إقناعنا نحن أيضا بهذه الحقيقة!

سيد قطب