انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 963/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 963/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1951



من قيد إلى قيد

للشاعر الفيلسوف رابندرانات طاغور

(سرقة من خزانة الملك!)

ذهبت هذه الصيحة تطوي المدينة طيا. لابد أن يقبض على السارق حتى لا يصيب قائد الحرس أذى.

وكان فاجارسن قد هبط إلى الثغر غريبا عن أهله ليبيع جياداً في المدينة؛ فسقط عليه عصبة من اللصوص سلبته كل ما كسب، وألجأته إلى أطلال معبد خارج أسوار البلدة. فألقوا عليه التهمة، واقتادوه مغللا إلى السجن مجتازين به شوارع المدينة.

وكانت (شياما) المتجبرة ذات الجمال الفتان جالسة في شرفها تطل في تراخ على الجمع المار. فإذا هي ترتعد فجأة وتصيح بوصيفتها: (وا أسفا! من ذلك الشاب ذو الوجه النبيل والجمال النوراني؟ ذلك الذي يرسف في الأغلال كأنه لص؟ سلي رئيس الجند بأسمي يأت به إلى).

وجاء رئيس الحراس بالسجين وقال لشياما:

ليس في الوقت متسع لإجابتك يا سيدتي إلى ما ترغبين؛ فعلى أن أهرع إلى الملك إطاعة لأمره).

ورفع (فاجارسن) - سريعا - رأسه، وصاح:

(من أغراك يا امرأة بأن تأتى بي من الطريق لتسخري منى بفضولك العجيب؟

فقالت شياما:

(أسخر منك! إنه لحبيب إلى أن أنزع حلى فأضع مكانها أغلالك!)

ثم التفتت إلى رئيس الجند وقالت:

(إليك كل ما ملكت بيميني وأطلقه حرا)

فانحنى الرجل وقال:

(ليس الأمر في وسعى. لابد من ضحية نطفئ بها غضب الملك)

فتوسلت إليه شياما قائلة: (أنني لا أطلب للسجين غير مهلة يومين)

فابتسم رئيس الجند ووافق.

وفي نهاية الليلة الثانية من اعتقال فاجارسن رتل السجين صلواته، وجلس في اللحظة الأخيرة يكتب وإذا بالباب يفتح وبالمرأة تدخل حاملة في يدها مصباحاً. ثم أشارت فحل الحارس وثاق السجين، فقال الشاب:

(لقد جئت إلى بهذا المصباح - أيتها المرأة الرحيمة - كما يطلع الفجر بنجمة الصبح بعد ليلة حمى وهذيان)

وصاحت شياما:

(رحيمة حقا!) وانفجرت ضاحكة حتى سالت من عينيها الدموع، وصرخت قائلة:

(ليس بين أحجار هذا السجن ما هو أصلب من قلب هذه المرأة وأقسى.) وأمسكت بيد السجين فاقتادته خارج الأبواب.

أشرقت الشمس على ضفاف الفارونا، وكان زورق على المرسى، قالت شياما:

(تعال معي في هذا الزورق أيها الشاب النازح، وحسبك أن تعلم أنى قطعت كل أعلالك، وأنى معك في هذا القارب)

وانزلق القارب. في هينة ولين، وغردت الطيور في مرح وحبور، وقال فاجارسن

(خبريني يا غرامي! بأي ثروة اشتريت حريتي؟) فقالت شياما:

(هيه!. . . ليس الآن. . .)

تكبدت الشمس وعادت نساء القرية إلى دورهن وثيابهن تنز بعد الاستحمام، وجرارهن ممتلئة بالماء، وانفضت السوق فالتمتع بالشمس طريق القرية الخالي. . .

وهبت نفحات الظهر الدافئة فأزاحت النصيف عن وجه شياما، فهمس فاجارسن في أذنيها:

لقد أخرجتني من غل يزول إلى غل يدوم مدى الحياة. ذريني أعرف كيف فعلت؟

فأسبلت المرأة النصيف على وجهها وقالت: ليس الآن يا حبيبي. . .

وأعطش الليل، وراح النسيم الوانى، والتمع الهلال الليل على حواشي الماء ذي السواد الحديدي.

وجلست شياما في الظلام، وأراحت يدها على كتف الشاب، ونام شموها بين ذراعيه وهمست في خفوت!

لقد أتيت من أجلك أيها الحبيب أمرا إذا؛ بيد أن أخبارك به أشد وأقسى. لأكشفنه لك في كلمات قصار: لقد حمل عنك أغلالك بوتيجا، وهو فتى شفه الحب وأضناه الهوى؛ وادعى الجريمة وأهدى إلى حياته. . . في سبيل حبك اقترفت ما اجترمت يا أعز حبيب!

كانت تتكلم والهلال الشاحب يضوي ويزول، والطيور تأوي إلى أوكارها فتسلم الغابة لسكون عميق.

وانسل ذراع الشاب في هدوء من حول خصر المرأة وتصلد الصمت من حولها واستحجر في الآذان. .

وجثت المرأة فجأة عند أقدامه، وتعلقت بركبتيه صائحة: غفرانك أيها الحبيب غفرانك! دع العقاب لله؛ هو يجزيني على ما قدمت يداي!

وانتزع فاجارسن ساقيه بعيدا، وصاح في صوت أبح:

تشترين حياتي بثمن الخطيئة! لعنة الله على كل نفس من أنفاس حياتي!

وهب واقفا؛ وقفز إلى الشط من القارب، وغاص في ظلام الغابة، وظل يسير ويسير حتى انقطع به الطريق، واستوقفته الأدغال المتكاثفة والأشجار الملتفة.

وجلس على الأرض متعبا. . ولكن من هذا الذي تبعه في صمت طوال الطريق المظلم، والذي يقف الآن كالشبح وراءه!

وصاح فاجارسن: (هلا تركتني!)

وهوت عليه المرأة في لحظة، وأغرقته بدلها، وغطته بشعرها المتهدل، وأثوابها الجرارة، وأنفاسها المترددة، وصاحت في صوت خنقه العبرات المحتبسة:

لا. لا. لقد اجترمت لأجلك فاقتلني إذا شئت؛ دعني أموت بيديك!

وارتعش ظلام الغابة الراسخ لحظه؛ وسرى الرعب في جذور الأشجار المتغلغلة في جوف الأرض وارتفعت تحت جناح الليل آهة مكتومة، وأنفاس مضطربة، وسقط على الأوراق الذاوية جسد.

توهجت شمس الصباح على مسلة المعبد البعيد، وبرز فاجارسن من الغاب، وظل النهار بطوله يهيم بجوار النهر صاليا بحرارة الشمس لا يفتر لحظة.

وفي الليل ارتد إلى القارب على غير هدى، فوجد على الفراش سوارا، فقبض عليه إلى قلبه حتى أدماه، وانبطح على الوشاح الأزرق المتكوم في الزاوية فأخفى وجهه بين طياته وأراد أن يجتر من نعومة جريره، وشذا عبيره ذكرى جسد حي حبيب. . .

وترنح الليل في صمت ثقيل راجف، واختفى القمر وراء الأشجار، ووقف فاجارسن مادا ذراعيه إلى الغاب مناديا: (تعالى إلى غرامي! تعالى إلى!)

وانبعثت من الظلام فجأة شبح وقف على شفير الماء. (تعالى إلى يا غرامي! تعالى إلى!)

(لقد جئت يا حبيبي، ولم تستطيع يداك العزيزتان إزهاق روحي، قدر على أن أعيش)

وجاءت شياما. . . ووقفت بازاء الشاب فنظر في وجهها، وتقدم خطوة ليضمها بين ذراعيه. ثم قذفها بكلتا يديه وصاح

(لماذا؟ آه! لماذا عدت؟)

وأغمض عينيه، وأشاح بوجهه، وقال

(أذهبي. . . أذهبي. . . دعيني)

ووقفت المرأة لحظة، ثم ركعت عند قدميه وانحنت كثيراً. وهبت ويممت نحو الشط وغابت في ظلام الغاب كحلم انبعث من نوم. وجلسفاجارسن في القارب صامتاً وحده، وقلبه يدمى

ش. ع