مجلة الرسالة/العدد 963/الثورة المصرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 963/الثورة المصرية

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1951


8 - الثورة المصرية1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

كتلة إسلامية:

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها 1945 حتى انقسم العالم إلى كتلتين: إحداهما شرقية وتتزعمها روسيا، والثانية غربية وتتزعمها أمريكا وإنجلترا. وقد ثار نضال وجدل: إلى آي الكتلتين تنضم مصر؟ أتنضم إلى الكتلة الشرقية أم الكتلة الغربية أم تقف على الحياد؟ وقد رد على هذه الأسئلة ردا صريحا واضحا فضيلة المرحوم الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين قائلا: إن مصر أن تنضم إلى الكتلة الغربية ولا إلى الكتلة الشرقية وإنما يجب أن تقدم كتلة ثالثة هي الكتلة الإسلامية وتضم الباكستان وإيران وأفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والمملكة العربية السعودية واليمن ومصر وليبيا وتونس والجزائر ومراكش.

وقد شهد يوم 23 نوفمبر 1951 مولد هذه الكتلة، فقد زار دولة الدكتور محمد مصدق رئيس وزراء إيران مصر. وفي يوم الخميس 22 نوفمبر 1951 أقام معالي الدكتور طه حسين باشا حفلة أهدت فيها جامعة فؤاد الدكتوراه الفخرية للزائر العظيم، وقد حياه ذلك: (إن شخص الدكتور مصدق يمثل الجهاد في أروع صوره) وذكر جهوده في تحصيل العلم بفرنسا وسويسرا وجهاده في سبيل تحرير وطنه وتقدير هذا الوطن له وإكباره لجهاده مما يشرف أسرة جامعة فؤاد الأول أن ينضم إليها، ثم ذكر الدكتور طه باشا أن الدكتور مصدق يجمع إلى جانب المجد السياسي المجد العلمي ونوره بمآثر مصدق العلمية.

وقد تحدث الدكتور مصدق في نهاية الحفل إلى المحتفلين به فقال: (أسأل الله سبحانه وتعالى أن يدعم الرابطة والأخوة بين مصر العزيزة وإيران أبدا. نحن مصممون على أن نحارب الاستعمار في السودان وفي عبدان مشتركين. إن الداء الذي تشكو منه إيران تشكو منه مصر والبلاد الإسلامية، داء واحد وداء مشترك.

فنحن نعرف العلة الأساسية لهذا المرض ونعرف أن الداء لهذا المرض هو الكفاح المشترك الذي يجب أن تقوم به البلاد الإسلامية جمعاء. .)

وهكذا بدأ قيام الكتلة الإسلامية. وفي نفس اليوم أعلن بيان مشترك وقعه رئيسا الوز المصرية والوزارة الإيرانية جاء فيه أن الرئيسين قد استقر رأيهما على ما يأتي.

أولا: الدخول في أقرب وقت في مفاوضات لتوسيع نطاق معاهدة الصداقة والإقامة المعقودة بين إيران ومصر والموقعة في طهران في 28 نوفمبر 1928

ثانيا: إبرام معاهدات بين البلدان في الشؤون الاقتصادية والثقافية وشئون التجارة والملاحة وكذلك معاهدة للتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية. ومن المفهوم أن هذه المعاهدات سوف تكون أساسا لاتفاقات متعددة الأطراف على مدى أشمل بحيث تسمح بانضمام البلاد العربية وبلاد الشرقين الأدنى والأوسط التي تربطها بإيران وبمصر في الوقت الحاضر علاقات ودية.)

هذا في مصر. أما في باريس فقد كان وراء الدول العربية يواصلون اجتماعاتهم للبحث في مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط وفي القضية المصرية وقد أجمعوا على تأييد القرارات التي اتخذتها الحكومة المصرية من إلغاء المعاهدة إلى رفض المقترحات الرباعية للدفاع عن الشرق الأوسط.

من 23 - 29 نوفمبر 1951:

ما تزال الحالة حرجة في منطقة القناة وما يزال الإنجليز يمنعون في إجرامهم. صحيح إن عدوانهم لم يبلغ ما وصل إليه في مجزرة الإسماعيلية في 17، 18 نوفمبر ولكنه عدوان وحتى لا يستطيع إنسان أن يبرره. أنظر إلى الجرائم التالية وتبين مدى وحشيتها:

1: كان الشيخ محمد بركات وهو في السبعين من عمره يؤدي الصلاة في منزله بعزبة أبو عسر في الصباح الباكر عندما اقتحمت المنزل قوة بريطانية مسلحة فتصدى لها نجله عبد الله مستفسرا عن سبب دخولها فزعم الجنود أنهم يبحثون عن الأسلحة.

وكان الشيخ قد ختم صلاته فجلس ممسكا بسبحته وراح يتلو الدعوات فاقترب منه الجنود وأمروه بالوقوف فلوح بسبحته للابتعاد عنه وهو يقول (الله اكبر. . الله اكبر)، واشتد حنق الإنجليز فأطلق أحدهم عليه رصاصة وطعنه الآخر بسونكي بندقيته في صدره ويده طعنه أطاحت بأحد أصابعه. وما لبثت روحه أن فاضت إلى بارئها تلعن الإنجليز وتضرع إلى الله أن ينقذ البلاد والعالم منهم!!

2: وفي يوم الثلاثاء 27 منه قام الإنجليز بمظاهرة عسكرية في مدينة السويس وألقت إحدى سياراتهم قنبلة يدوية شديدة الانفجار أصيب بشظاياها أربعة من الأهالي.

3: في يوم الأربعاء 28 منه قام البريطانيون بحملة إرهابية واسعة في منطقة الإسماعيلية وكان الأهلون هدفا لعدوانهم الوحشي فقد أطلقت قوة بريطانية النيران على أربعة من أهالي القصاصين وهم يسيرون في طريق العاهدة فاستشهد ثلاثة منهم. وأما الرابع فقد ألقى بنفسه في ترعة الإسماعيلية ونجا.

وكان خمسة من العمال عائدين إلى منازلهم في الإسماعيلية فأطلق الإنجليز عليهم نيرانهم فسقطوا مضرجين بدمائهم.

أيها الإنجليز: إن دماءنا لن تذهب عبثا واعلموا أنكم لن تثبتوا أقدامكم بآثامكم.

أما الفدائيون المصريون فقد وصلوا نشاطهم مشكورين مأجورين ولكن الذي يؤلم هو هذا الموقف الصامت الذي اتخذته حكومة مصر فإنها لم تحرك ساكنا ولم تهج طائرا!!

وفي يوم الاثنين 26 نوفمبر وصل وزير الحربية البريطانية إلى القنال واجتمع بالقواد الإنجليز وبالسفير البريطاني ثلاث ساعات متوالية لبحث الموقف.

وفي خلال هذه الفترة رحلت كثير من العائلات البريطانية من الإسماعيلية، وكان الإنجليز قد أعلنوا أنهم سيجلون عنها بمجرد جلاء العائلات الإنجليزية ولكنهم عادوا يتلكئون في تنفيذ وعدهم.

ثورة مصر بأثرها:

بدأت الثورة المصرية في 9 مارس 1919 في مدينة القاهرة وانتشر نبأها في سائر أنحاء مصر فهبت مصر بأجمعها من الإسكندرية إلى أسوان مدنا وقرى تستجيب لنداء الثورة:

ففي يوم الأربعاء 12 مارس ثارت الإسكندرية وقامت فيها مظاهرات كبيرة تضم طلبة المدارس والمعاهد الدينية وسارت من مسجد أبى العباس إلى دار المحافظة القديمة بشارع رأس التين، وقد حاول رجال الشرطة وعلى رأسهم الحكمدار جارفس بك تشتيت المتظاهرين ولكنه لم يستطع. وكان المتظاهرون يهتفون بالحرية والاستقلال.

وتجددت المظاهرات في الأيام التالية وفي 17 مارس سلط الإنجليز نيران مدافعهم على المتظاهرين فسقط منهم ستة عشر قتيلا، وأربعة وعشرون جريحا.

وفي 21 مارس ثارت بور سعيد وقتل الإنجليز سبعة شهداء وثارت دمنهور في 17 مارس وأهان إبراهيم حليم باشا مدير الإقليم المتظاهرين إذ تحداهم أن يكون بينهم رجل فضربوه بالنعال. وقد شتت الجند المتظاهرين وقتلوا منهم 12 شخصا.

وفي طنطا قامت مظاهرة كبيرة في 12 مارس وسار المتظاهرون في أنحاء المدينة حتى إذا وصلوا محطة السكة الحديدية، انهال عليهم الجند البريطانيون بنيران مدافعهم فسقط ستة عشر قتيلا.

وفي 16 مارس قتل أحد المارة بسبع طلقات من مدفع رشاش بريطاني وقتل الإنجليز غلاما ضربا بالسنج. وما أشبه الليلة بالبارحة!

وثارت شبين الكوم وكفر الشيخ وسمنود والمحلة والمنصورة وميت غمر والزقازيق. وعلى الجملة انتشرت الثورة في سائر أنحاء الوجه البحري مدنه وقراه.

ولم يكن الوجه القبلي أقل استجابة لنداء الوطن من الوجه البحري بل كانت الثورة أشد في الوجه القبلي؛ فقد قامت المظاهرات في الفيوم والمينا وأسيوط وقنا وأسوان وجرجا، وكان طابع الثورة العنف، وسقط في هذه المظاهرات كثير من الشهداء الأبرار. وقد بلغ عدد شهداء مصر حتى 15 مايو 1919 ألفا، وقد ذكر هذا الإحصاء المستر هار مسورث وكيل وزارة الخارجية البريطانية وعلق عليه قائل (إن هذا شيء فظيع هائل)!

ومع هذا لم تضعف مصر بل ظلت تقاوم وتبذل دماء أبنائها كريمة في سبيل حريتها واستقلالها.

قطع المواصلات:

كان أول ما اتجه إليه تفكير المتظاهرين الثائرين هو قطع طرق المواصلات حتى لا تستطيع القيادة البريطانية أن تبعث بقواتها إلى سائر أنحاء القطر للتنكيل بالأبرياء.

وكانت أول حادثة من هذا النوع هي قطع الطريق الحديدي بين تلا وطنطا وكان ذلك في 12 مارس وما لبثت الفكرة أن انتقلت إلى سائر أنحاء القطر فقطعت الخطوط الحديدية الرئيسية التي تربط القاهرة بالوجه القبلي وبالإسكندرية وبور سعيد. ولم يقتصر التخريب على السكك الحديدية ولكنه امتد إلى أسلاك البرق والتلفون. وفي 14 مارس أصدرت القيادة البريطانية الأمر التالي:

(جناب القائد العام للقوات في القطر المصري يحذر الجمهور أن كل من يتلف مواصلات سكك الحديد أو التلغراف أو التلفون أو يلحق بها آي عطل أو يعبث بها بأي وجه من الوجوه أو يحاول عمل أي شيء من هذه الأعمال يعرض نفسه للإعدام رميا بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية)

وكانت السلطة تعتقد أن مثل هذا الإنذار كفيل بقمع الفكرة وبالقضاء على الثورة ولكن المصريين كانوا قد أصبحوا لا تؤثر فيهم الإنذارات ولا التهديدات فانطلقوا يدمرون طرق المواصلات حتى يشلوا حركة المغتصب الأجنبي.

ففي 14 مارس وصل قطار الصعيد إلى الرقة بمديرية الجيزة ولم يستطع مواصلة السفر لقطع الخط في أكثر من موضع واضطر أن يعود إلى القاهرة وقد حطمت أكثر عرباته. وهكذا عزل الموظفون الإنجليز في الصعيد.

وفي قليوب خرب محطة السكة الحديدية وقطعوا الخط الحديدي وبذلك انقطعت مواصلات الوجه البحري.

وهكذا ثارت مصر بأسرها ريفا ومدنا وثغورا وموانئ رجالا وسيدات شيبا وشبانا وأصبحت مصر بأسرها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب قطرا ثائرا لحريته واستقلاله يبذل في سبيل ذلك دمه وماله.

زفتي تعلن الاستقلال:

ثارت زفتي كما ثارت باقي مدن مصر وقراها وتألفت بها لجنة للثورة كان رئيسها المرحوم الأستاذ يوسف الجندي ولم تلبث أن أعلنت اللجنة الاستقلال. وكان مأمور زفتي إذ ذاك المرحوم إسماعيل بك حمد وكان رجلا وطنيا فتعاون مع اللجنة، ولكن السلطة العسكرية أرسلت قوة من الأستراليين لقمع الثورة فقام الأهالي وحفروا الخنادق حول المدينة وخلعوا قضبان السكك الحديدية فاستعدت القوة لمواجهة المدينة وصوبت إليها المدافع ولكن إسماعيل بك توسط بين الأهليين وبين القوة ونصح الأهالي بالكف عن المقاومة إبقاء على المدينة فقبلوا نصيحته ودخل الجند وحاول الإنجليز معرفة أعضاء اللجنة ولكنهم لم يستطيعوا لأنهم لم يجدوا مرشدا ولا دليلا.

مذبحة ميت القرشي: في 23 مارس قامت مظاهرة سلمية في ميت القرشي. وبينما كان المتظاهرون يسيرون في طريقهم وصل قطار حربي فوقف القطار ونزل منه الجند وتعقبوا المتظاهرين وفرقوا شملهم وتعقبوهم وقتلوا منهم أكثر من مائة شهيد!

مظاهرة القاهرة الكبرى:

في 17 مارس 1919 وبتصريح من السلطة العسكرية قامت هذه المظاهرة وبدأت سيرها من الأزهر وانتظم فيها ألوف من المصريين على اختلاف هيئاتهم فسار العلماء والقضاة والمعلمين والمحامون والتجار وأرباب الأعمال والطلبة والعمال وسارت في أكمل نظام تهتف بالحرية والاستقلال وانقضت في سلام بعد طواف دام ثماني ساعات.

ولكن يبدو أن هذا لم يرض الإنجليز فعمدوا - وهذا طبعهم - إلى استخدام القوة وسقط كثير من الضحايا في القاهرة وفي الأقاليم برصاصهم.

وفي 19 مارس قابل شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي (بك) قائد القوات البريطانية واحتجا على استخدام القوة الغاشمة في قمع المظاهرات السلمية، فلم يلق إلى احتجاجهم إذنا واعية، واستمر الجند في عدوانهم، واستمر المصريون في كفاحهم، وقد اضطر القائد العام في مارس إلى إصدار إنذار عام بلغ فيه التعسف غايته.

إنذار عام:

(كل حادث جديد من حوادث تدمير محطات السكك الحديدية والمهمات الحديدية يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من سواها من مكان التدمير. وهذا آخر إنذار.)

وفي نفس اليوم جمع القائد العام الوزراء والكبراء والأعيان وطلب إليهم أن (يعملوا كل ما في وسعهم لتسكين الأهالي ومنعهم من إحداث القلاقل وإلا فأنى منفذ خطتي) (حرق القرى وتدمير القصور والعمائر وإحراق الدماء البريئة).

وأخذ القائد العام يرسل قواته إلى جهات القطر المختلفة بالطائرات وبالسفن فارتكبت في مصر أشنع الإثم واقترفت أفظع الجرائم.

وجدير بالذكر أن نقول إن المصريين مسلمين وأقباطا سالت دماؤهم معا فتآخى الجميع في الدم واتخذوا علما في وسطه هلال أبدت نجومه بصلبان، وكان القسيس يخطب فوق منبر المسجد والشيخ يخطب أمام مذبح الكنيسة: وكنت ترى في مقدمة المظاهرات شيخا وبيده قسيس، وقسيسا يعانق شيخا. وهكذا قضى على الفتنة التي حاول الإنجليز إثارتها ووقفت مصر يدا واحدة تطلب استقلالها وتؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع.

أبو الفتوح عطيفة