مجلة الرسالة/العدد 96/قصيدة شوقي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 96/قصيدة شوقي

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1935



في جلالة الملك فيصل

بقلم الأستاذ حسين الظريفي

لما اعتزم مغني مصر الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب السفر إلى العراق عام 1932، رأى المغفور له شاعر الضاد وأمير الشعراء أحمد شوقي بك، ألا يدع الفرصة تفوت دون أن يملأها بما يريد، فألف قصيدته الخالدة التي أثنى فيها الثناء الجم على أمة العراق وملكه ساكن الجنان فيصل الأول

وقد انشد الأستاذ القصيدة على مسرح المعرض الذي أقيم في بغداد في السنة المذكورة، وانشدها أمام الملك في قصره في حضور رجال الدولة وكبار الساسة وأعيان البلد وجمهور المستمعين من شتى الطبقات. ثم رأينا مكروفون المذياع وأبواق الحاكي تعيد لنا ما أبدع به محمد عبد الوهاب على مسرح المعرض حتى شاعت القصيدة وذاعت على الأفواه. والذي نريد إثباته في هذه الفرصة هو أن مطلع القصيدة وبيتا أخر قد كثر حولهما كلام الناس في بغداد. وأنتقدهما غير واحد من الشعراء، وكان اكثر هؤلاء المنتقدين - على ما اعتقد - يجهلون معنى البيت جهلا تاما، وبهذا الجهل انحدروا إلى التهجم على شاعرية شوقي، وهو الشاعر الفرد الذي أضاف إلى لغة الضاد مادة جديدة من معانيه المبتكرة. وأنتقل بالشعر في بعض مواقفه من عالم الطبيعة إلى ما وراءها، حيث تجتمع الفلسفة والشعر الرفيع في نقطة واحدة

ولذلك أحببت أن اعرض رأيي الخاص فيما يجب أن يحمل عليه البيتان. وأولهما هو مطلع القصيدة:

يا شراعاً وراء دجلة يجري ... في دموعي، تجنبتك العوادي

وقد رأى كثير من الشعراء والأدباء، أن المخاطب بهذا البيت هو جلالة الملك فيصل، والحقيقة أن الخطاب إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب، لعدم امكان حمله على غيره، ولدلالة الأبيات التي تلي هذا البيت، وهي:

سر على الماء كالمسيح رويداً ... واجر في اليم كالشعاع الهادي

وائت قاعا كرفرف الخلد طيبا ... أو كفردوسه بشاشة وا وقد شبه الشاعر - محمداً - بالشراع لما شاع وذاع من أمر غنائه في البلاد، وهو تشبيه يمت بصلة قوية إلى التشبيه بالعلم بمعنى الجبل كقول الخنساء في أخيها صخر - كأنه علم في رأسه نار - وأراد بقوله وراء دجلة - بقصد دجلة. وذلك عند اعتزام المغني السفر إلى العراق

ولما كان محمد عبد الوهاب دائم التغريد بما يؤلف له شوقي بك من قطع الشعر والقصائد، وكانت أكثرية هذه القصائد تعج بلواعج الهوى بحيث تحمل دموع الشاعر الغزيرة من أثر الحب فيه، جعل الشراع جاريا في هذه الدموع، بإنشاد المغني قصائد الشاعر. فكأن شوقي يقول: يا من اعتزم السفر إلى العراق وهو كأنه الشراع في الشهرة، مرتلا قصائدي التي هي كالدموع في الهوى، وهو يجري فيها كالشراع - تجنبتك العوادي - وحفظك الله من كل مكروه

وهذا البيت ولا ريب من انبغ الشعر، وهو ابن العبقرية التي اصبح فيها لشوقي الخلود، وللغة الضاد التيه والفخر

وأما البيت الثاني فقوله:

قف تمهل، وخذ أماناً لقلبي ... من عيون المها وراء السواد

والمخاطب فيه محمد عبد الوهاب أيضا، والسواد هو العراق من قولهم - أرض السواد - ولا يمكن أن يحمل المعنى على أن الظباء كائنة وراء العراق، إذ لا يمكن أن يكون هذا قصد الشاعر، وإلا فسد عليه المعنى، ولأن سائر أبيات القصيدة إنما تبحث عن العراق وملكه وساكنيه، وقد ذهب إلى هذا التفسير الباطل كثير من الشعراء والأدباء، اغترارا بظاهر اللفظ مع أن الواقع خلاف ما يدعون. وزعم قوم أن المراد بالسواد هنا - سواد العيون - وبهذا التفسير يختل معنى البيت ويبقى مهملا لا يشير إلى شيء

وادعى آخرون أن معنى البيت فاسد من اصله، وقالوا في تعليل الفساد أن لفظ البيت يؤدي إلى وصف الظباء خارج العراق، وذكر ذلك لا مكان له في القصيدة، مع أن هذا غير مقصود من الشاعر كما سبق ذكره، وبالنظر لروحية القصيدة ولظروف وضعها ولخواطرها المتسلسلة

وذهب غيرهم إلى حمل البيت على إرادة الحجاب بالسواد، كأن أعين الحساد تستطيع التأثير على قلوب الناس، وهي متحجبات من وراء النقاب. وهذه مبالغة لم نر لها مثيلا في شعر شوقي، وقد يتجاوز هذا المفهوم حدود المبالغة إلى تكذيب الواقع له والذي أراه في هذا البيت، هو أن القادم إلى العراق إنما يرى منه السواد قبل كل شيء فيه، بالنظر لكثرة ما فيه من خمائل ومزارع ونخيل حتى عرف في التاريخ بهذا الاسم، وبذلك تكون الظباء وراء السواد بالنظر إلى القادم إليه، وهي في أثنائه في حقيقة الأمر الواقع. وهذا البيت ولاشك من وحي العبقرية أيضا، وفيه ابلغ ما تصل إليه رقة الشاعر في شعره

وإننا نجد المبرز في الشعر قد يرتفع في كل قصيدة من قصائده بالبيت أو البيتين أو الثلاثة أو ببضعة أبيات. ولكنه مع ارتفاعه هذا لا يغيب بشعره عن أعين القراء. غير أن شوقي قد شب في الشعر عن الطوق، وبذ زملائه الشعراء في كل بيت يرتفع فيه عن مستوى الشعر حتى يتواري فيه عن الأبصار. فلا تكاد تقع عليه إلا بعد الجهد الجهيد، ولا تنظر إليه إلا من بعيد كما ظهر لقراء الضاد في هذين البيتين، ونحن لا نشك في إن فهمهما يحتاج إلى مجهود عقلي كبير، وتلك ميزة النابغ من الشعر، تفرد بها شوقي عن شعراء جيله، وبها فضل الجميع

وهنا أود أن اذكر ملاحظة العالم النفسي الدكتور ناجي بك الأصيل حول شاعرية أحمد شوقي بك، قال الدكتور: على الجيل الحاضر أن يحدد شاعرية شوقي بك في المدى الذي بلغت إليه، وإلا فإن الأجيال القادمة سوف تخطئ في تقديره. وعلل هذه الفكرة بأن هناك من الشعر لشوقي ما قاله وهو فيما وراء الشعور، ومع ما في هذه الفكرة من العلو والنضوج فإنها لا تأتلف والحقيقة. لان مثل هذه الأبيات التي يشير إليها الدكتور هي من وحي الإلهام، وقد قالها شوقي وهو في غيبوبة العبقرية وبها أستحق كل هذا التقدير من أبناء الضاد واصبح له فيها الخلود، ولا يمكن أن تحمل على أن شوقي قال ما لم يدر، أو أن شاعريته اقل من شعره، لان في ذلك المنطق المغلوط. ولعل الدكتور ينحرف في فكرته قليلا إلى القول بوجوب تحليل أبيات شوقي التي قالها في غيبوبة العبقرية، لئلا تفوت الأجيال القادمة بعض الدقائق النفسية التي يعرفها الجيل

هذا ما عنّ لي ذكره في هذين البيتين اللذين كثر حولهما القيل والقال ومن كان له فيهما شيء يقال فليأت بما عنده، إذ الحقيقة بنت البحث بغداد

حسين الظريفي

المحامي