مجلة الرسالة/العدد 96/فتح العرب للأندلس
مجلة الرسالة/العدد 96/فتح العرب للأندلس
بقلم فريد مصطفى عز الدين
في مدة قصيرة لا تتجاوز عقدين من السنين، ولا تساوي في حياة الأمم فترة من حياة الأفراد تمكن العرب من تدويخ إمبراطوريتين كانتا أعظم دول ذلك العهد. فاكتسحوا الإمبراطورية الفارسية وثلوا عرش أكاسرتها، وسودوا دينهم ولغتهم على سكانها، وكانوا في الوقت ذاته ينتزعون من الإمبراطورية البيزنطية ولاياتها الشرقية الواحدة تلو الأخرى. فدخلت سورية الكبرى ومصر، وطرابلس الغرب، وتونس والجزائر والمغرب الأقصى في دولتهم الفتية، وانضوى سكانها تحت راية القرآن والدين الحنيف
وكأني بالفاتحين وقد جثموا على الشاطئ الأفريقي، ورأوا قبالتهم الشاطئ الأوربي لا تفصلهم عنه إلا شقة ضيقة من الماء أخذتهم نشوة النصر والظفر، ووطنوا العزم الأكيد على تدويخه وان يمثلوا مع الأسبان الدور الذي مثلوه قبلا مع الفرس والرومان
كانت إسبانيا قبل الفتح العربي في حالة اضطراب وفوضى، تتنازعها الثورات والفتن. والعامل الأكبر في هذا التقلقل والاضطراب راجع إلى النظام الاجتماعي الفاسد الذي كان سائدا عندئذ في البلاد. فقد كان سكانها يقسمون إلى أربع طبقات هي:
1) الأشراف - 2) سكان المدن - 3) الفلاحون - 4) العبيد
أما الأشراف فكانوا أصحاب النفوذ والسيادة، غير أنهم انصرفوا في أخر عهدهم عن أمور الدولة إلى اللهو والبذخ والمجون.
وكان سكان المدن - ومعظمهم يهود - يتحملون معظم الضرائب التي كانت عبئا ثقيلا على عاتقهم جعلتهم تواقين للخلاص من حالتهم الحاضرة. أما الفلاحون فكانوا وسطا بين الأحرار والعبيد، إذ أن التملك كان محرما عليهم إلا بإذن الشريف الذي يقعون في دائرة نفوذه، ولذا كان القليل النادر منهم ملاكا
وكان العبيد وهم اكثر السكان عددا يباعون كالسلع ويسامون من العذاب أشكالا وألواناً. فليس غريبا إذا أن يهربوا في بعض الأحايين من نير أسيادهم إلى الجبال والقفار، فيعتصموا بها وينعموا بالحرية المفقودة، ويعيشوا في البلاد فسادا انتقاما لحريتهم المسلوبة. وكانت هذه الحالة السيئة كافية لإزاحة الحكم الروماني عن هذه البلاد والتمهيد للقبائ البربرية الغازية.
كانت القبائل التي اكتسحت إسبانيا عديدة، منها (الفندال) و (الزواف) و (القوط). ولم يمض وقت طويل على تدفق البرابرة في إسبانيا، حتى ترك القوط القبائل الأخرى من البلاد، واستأثروا بالسلطة المطلقة. ثم بدأوا يأخذون بأساليب الحضارة المسيحية، وتمكنت الكنيسة الكاثوليكية من ضمهم إلى حظيرتها سنة 587، فاكتسب الكهنة مكانا ساميا في الدولة لا يقل خطرا عن مكان الأشراف، غير أنهم استثمروه لمنفعتهم الذاتية، فاقتنوا الضياع وبنوا القصور العظيمة ولم يلتفتوا إلى الطبقات الأخرى التي كانت تعاني أمر العيش وأبشعه مذاقا فيصلحوا أحوالها، بل اندفعوا في سبيل مآربهم الدنيوية، فاصبحوا عاملا أخر في زيادة الفساد والاضطراب
وقد خلق أيضا وجود اليهود في البلاد فسادا في الحكم، لأنهم كانوا في إسبانيا كما كانوا في غيرها طبقة مضطهدة مهيضة الجناح تنوء تحت عبء الذل والاحتقار، فكانوا صابرين في مضض على حالتهم السيئة، منتظرين بذاهب الصبر تغير الحال وزوال حكم القوط عن كواهلهم
حدث الفتح أثناء ولاية موسى بين نصير على أفريقية. وكان العرب يعنون بأفريقية تونس الخضراء والجزائر ومراكش، وتمكن موسى من فتح طنجة وهي من أعظم فرض المغرب وولي عليها طارق بن زياد ثم قفل راجعا إلى مدينة القيروان - التي بناها الفاتح العربي الكبير عقبة بن نافع في عهد معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي الأول - تاركاً سبتة وهي المدينة الوحيدة التي لم تخضع لسلطان المسلمين في أفريقية
وكانت الفوضى - كالعادة - ضاربة إطنابها في إسبانيا. فإن أحد الأشراف ويدعي لذريق اغتصب الملك وطرد أبناء الملك غيطشة المتوفى من البلاد، فعبر هؤلاء البوغاز إلى الشاطئ الأفريقي وحاولوا الاستعانة بالعرب عن طريق يوليان حاكم سبتة، الذي كان على وداد مع العرب. فأجابهم يوليان إلى طلبهم وأخذ يحبب إلى العرب حرب لذريق. أما السبب الذي حدا يوليان إلى استنفار العرب على لذريق فشخصي محض، وذلك أنه أرسل ابنته - وكانت آية في الجمال - جريا على عادة أشراف القوط إلى القصر الملكي في إسبانيا لتتأدب، فرآها لذريق واستهواه جمالها الفتان، وما زال بها حتى أوقعها في حبائله وعبث بها. فلما علم والدها بالأمر استشاط غيظا وغضبا، وعز عليه أن ينتهك عرضه وشرفه على هذه الصورة القذرة، فاقسم على الانتقام من هاتك عرضه وملصق العار بجبينه، وأخذ يشوق العرب إلى فتح الأندلس
ولكن بعض المؤرخين يشكون في صحة هذه الرواية ويقولون إن السبب في قيام يوليان علي لذريق أن غيطشة ملك القوط المتوفى ساعده مرة على العرب فحفظ له يوليان هذا الجميل، ورأى من الواجب أن يساعده أبناء ولي نعمته على مغتصب ملك أبيهم، فطلب مساعدة العرب ظانا أنهم بعد أن يفتحوا البلاد ويوطدوا ملك أبناء غيطشة فيها يرجعون إلى أفريقية
كانت الغزوة الأولى غزوة استكشافية محضة غرضها درس حالة البلاد عن كثب، وذلك لان موسى بن نصير كتب إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك - الخليفة الأموي السادس - يستشيره في أمر هذا الفتح، فأرسل إليه الخليفة العظيم أن يتريث ويستكشف الأحوال قبل الإقدام على أية مغامرة. فأمر موسى طارقا بإرسال قوة صغيرة إلى الأندلس لمعرفة أحوالها الحقيقية، فأنفذ طارق فصيلة مؤلفة من 400 مقاتل بقيادة مولاه طريف فنزلت في جنوبي الأندلس - الجزيرة - فكتب الله لها النجاح في مسعاها الدنيوي الديني، فشجع هذا النجاح موسى ابن نصير وعول على فتح الأندلس وسرعان ما حقق غايته
فأرسل قوة كبيرة بقيادة البطل الفاتح طارق بن زياد مؤلفة من البربر والموالي وقليل من العرب، فعبروا مضيق جبل طارق وفتحوا الجزيرة ثم زحفوا شمالا نحو قرطبة، وكان لذريق عندئذ في الشمال يقاوم حملة من الإفرنج غزت حدود بلاده الشمالية ولكنه أسرع - حالما علم بقدوم المسلمين - وعاد إلى الجنوب على رأس جيش لجب عدده مائة الف مقاتل لصد تيار الفاتحين
فطلب طارق من موسى إمداده بالنجدات فأمده بخمسة آلاف مقاتل. وهناك في مكان جنوبي إشبيلية على نهر غواديلاثا التقى الجيشان فكان النصر حليف العرب، وذلك إن فرقة من الجيش القوطي موالية لأبناء غيطشة انسحبت من ميدان القتال فتضعضعت معنويات جيش القوط وتراخت عزائمهم فظفر بهم العرب وكان نصرهم نصرا مبينا. وتقول بعض الروايات العربية إن لذريق غرق في النهر، غير إن روايات أخرى تقول أنه بقي حيا إلى أن جاء موسى بن نصير الأندلس فهزمه في معركة فاصلة أودت بحياته
ثم قسم طارق جيشه إلى أربعة أقسام: قسم سار بقيادته إلى طليطلة، وقسم سار إلى قرطبة، وأخر سار إلى غرناطة، ورابع زحف إلى مالقا؛ وكان النصر حليفهم فاستولى كل قسم منهم على البلد الذي زحف عليه، وكانت الطبقات المضطهدة تساعد الجيش الزاحف وتمده بمعلومات قيمة عن جيوش العدو وترشده إلى أسهل الطرق وأقربها، وكان طارق يكافئ أعيان البلاد بتعيينهم حكاما على المناطق المفتوحة، ورأى الإسبانيون عندئذ أن غزوة العرب لم تكن مؤقتة يرجع العرب بعدها إلى أفريقية بل كانت دائمة لأنهم ذهبوا إلى إسبانيا ليبقوا فيها
وكان كثير من الأشراف قد فزعوا إلى الجبال بعد الانتصارات التي أحرزها العرب، فخاف طارق العاقبة وأرسل إلى موسى يستنجده. فعبأ موسى قوة عظيمة وعبر إلى الأندلس سنة 712 بعد ذهاب طارق إليها بسنة، واتبع خطة منظمة في الاستيلاء على البلاد. فكان ينظم كل مدينة يحتلها ويعدها لحكم عربي دائم. فاستولى على قرمونا وإشبيلية وسار توا إلى طليطلة فالتقى بطارق - وكان لقاؤهما جافا - ووحدا جبهتهما وانتصرا على جيش أسباني لجب، يقال إن لذريق كان يقوده، انتصارا حاسما، وافتتحا طليطلة مرة ثانية. وكانت آخرة لذريق في بطون أسماك نهر التاج
وفي سنة 713 سك موسى نقودا عربية في الأندلس، وظل يتوغل في هذه البلاد وينتقل من نصر إلى نصر إلى أن جاءه رسول الوليد يستدعيه إلى دمشق - عاصمة الإمبراطورية العربية - فغادر موسى الأندلس أسيفاً لأنه كان قد عزم على التوغل في بلاد الفرنجة حتى يصل إلى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية فيفتتحها ويسير منها إلى دمشق بعد أن يكون قد دوخ أوربا وأخضعها للخلافة الإسلامية وسطر أسمه في سجل الخالدين
ثم أستخلف موسى على الأندلس ابنه العزيز وعلى سبتة ابنه الثاني عبد الملك، وعلى أفريقية ثالث أبنائه عبد الله، وسار إلى العاصمة الأموية يصحبه طارق مثقلا بالغنائم، فوصلها بعد وفاة الوليد بن عبد الملك وقيام سليمان. وبالرغم مما قدمه لسليمان ابن عبد الملك من الغنائم لم يلق في عيني الخليفة حظوة، لان أخبار الأندلس وصلت إلى دار الخلافة مغالى فيها. فوجد سليمان إن ما جاء به موسى قليل رغم كثرته فاضطهده وسجنه. ولم يكن حظ طارق بأسعد من حظ زميله فناله بعض سخط أمير المؤمنين
وبقي موسى بن نصير في محبسه مدة قصيرة. ثم أطلق سراحه بعد أن شفع له القائد الكبير يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فسار إلى مكة المكرمة يحج البيت، غير أن المنية عاجلته وهو في طريقه إلى الديار المقدسة
أما ابنه الأكبر عبد العزيز فقد عمل على توطيد الحكم العربي في الأندلس بتزوجه من أرملة لذريق واستمالة القوط، ولكن مؤامرة دبرت لاغتياله بعد سنتين من ولايته؛ ويتهم بعض المؤرخين سليمان بتدبير المؤامرة، وتحريض أصحابها على الفتك بابن مدوخ الأندلسي. وهكذا كانت نهاية فاتحي الأندلس قتلاً وسجناً وتشريداً
فريد مصطفى عز الدين