مجلة الرسالة/العدد 958/الثورة المصرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 958/الثورة المصرية

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 11 - 1951


3 - الثورة المصرية 1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

بين الماضي والحاضر:

في زحام هذه العواطف الوطنية المتأججة في وادي النيل من منبعه إلى مصبه. أكتب إليك أيها الأخ الكريم وأحاول أن أربط بين ماض مجيد وحاضر ليس أقل منه مجدا. ومما هو جدير بالتسجيل ذلك الوعي الكامل الذي يبديه شعب وادي النيل لقضيته وإيمانه بها وضبطه لأعصابه رغم ما تتفجر به نفس كل فرد من أفراده من العواطف الملتهبة. . وذلك إرضاء لحكومته وطوعا لمشيئتها.

وأحب أن أسجل أيضاً أن القوات البريطانية ما زالت مستمرة في عدوانها الوحشي على سكان منطقة القنال العزل، ففي كل يوم قتيل وشهيد وسلب ونهب واعتداء على الحريات واحتلال للأماكن والبلاد وتحكيم للقوة وعسف وظلم وجور؛ فليستمر البريطانيون في عدوانهم فإن ذلك كسب لمصر، وليعلموا أن كل دم يراق إنما يغذي شجرة الحرية في وادي النيل، وليعلموا تماما أن مقامهم في وادي النيل قد أصبح ضربا من المحال.

وقد انضمت فرنسا الفاجرة وأمريكا الآثمة إلى بريطانيا فأبدتا سياستها ووافقتا عليها فانتصرتا للاثم والعدوان، وهكذا أثبتت الدولتان ما لم يكن خافيا علينا نحن الشرقيين من أن هذه الدول لا تريد بنا خيراً، وإنما تريد علينا سيطرة واستعمار. إن هذه الأمم تدعى أنها نصيرة الحرية، ومع هذا تطعن الحرية في مصر والشرق كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً. فليعلم هؤلاء الطغاة أن نهايتهم أقرب مما يتصورون

وقد وقفت الأقطار العربية الشقيقة بجانب شقيقتهم الكبرى مصر مما هز أركان الاستعمار الإنجليزي وزلزل دعائم الاقتصاد الأمريكي

وفي يوم الثلاثاء 23 من أكتوبر 1951 وقفت مصر تحيي ذكرى شهدائها الذين أراق الطغاة دماءهم في يوم الثلاثاء 16 منه فقامت المظاهرات الوطنية في القاهرة والإسكندرية وشتى المدن والبلاد، وأضرب الطلاب عن تلقي دروسهم وأغلق التجار متاجرهم وامتنع المحامون عن مزاولة أعمالهم في جميع المحاكم، ولم يخل شبر في أرض الوطن العزيز من صوت يتقطع في صدر صاحبه. . هو صوت الحزن على ما أريق من دماء الشهداء.

وقد تجلى في هذه المظاهرات جلال الوطنية وجلال الذكرى وإجماع الأمة وتأييدها لحكومتها

وفي السودان قامت المظاهرات تطالب بالحرية وتطرد المحتل الأجنبي والمستعمر الظالم حتى اضطر الحاكم العام الإنجليزي أن يطلب من قائد عام القوات المصرية التدخل لحفظ الأمن وإقرار النظام

لابد مما ليس منه بد:

لقد حاولت مصر أن تقيم علاقتها مع الدول الغربية على أساس الحرية والاحترام المتبادل، ولكن هذه الدول أمعنت في غيها، فلما طالت المفاوضات اضطرت مصر إلى إلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 التي تربطها ببريطانيا وبدأت معركة التحرير

وقد وقفت فرنسا وأمريكا بجانب إنجلترا، وهنا تقربت روسيا من مصر وطالبت أن تعقد اتفاقا تجاريا واسع النطاق معها على أن تكون لها الأولوية في شراء قطن مصر وعلى أن تعامل معاملة الدول الأكثر رعاية في مقابل أن تصدر إلى مصر ما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر وأخشاب وورق وقمح وبترول إلخ

وقد ذعرت أمريكا، فإن الاستعمار الأمريكي استعمار اقتصادي وتهتم أمريكا بفتح أسواق لتجارتها، ولعلنا جميعا نعلم مدى اهتمام أمريكا بمنطقة الشرق الأوسط إن ذلك يرجع إلى عاملين: أولا هذه المنطقة أغنى مناطق العالم بالبترول - ثانيا. هذه المناطق يمكن أن تصبح أسواقا هامة للتجارة الأمريكية

ولما كانت عداوة أمريكا وإنجلترا لمصر ستؤدي إلى انتشار التجارة الروسية في مصر والشرق الأوسط. فقد اضطرت أمريكا إلى أن تحاول القضاء على الفكرة، وعرضت على مصر وساطتها في حل الخلاف القائم بينها وبين إنجلترا في 24 أكتوبر 1951. ولسنا ندري كيف ينتهي أمر هذه الوساطة

الحماية والمعاهدة:

في سنة 1914 أعلنت إنجلترا الحماية على مصر ولم تكن مصر قد طلبت هذه الحماية، ولذا كانت الحماية باطلة من وقت إعلانها، ومنعا لثورة مصر في وقت كانت بريطانيا في حالة حرجة - إذ كانت الحرب قد قامت بينها وبين ألمانيا - أعلنت بريطانيا أن الحماية ضرورة حربية تنتهي بانتهاء الحرب. فلما انتهت الحرب وانتصرت طلب المصريون إنهاء الحماية وإعلان استقلال مصر، ولكن بريطانيا رفضت فثارت مصر تطلب استقلالها وحريتها ولم ترهب قوة إنجلترا التي خرجت ظافرة من الحروب العالمية الأولى، وانطلقت بريطانيا تعتدي على المصرين فأسالت دماء الأبرياء ونفت الزعماء، ولكن لم تضعف مصر بل صمدت وانتصرت في النهاية وستحقق جميع أمانيها إن شاء الله.

كانت الحماية إذن سبب ثورة 1919 الرئيسي، ويحاول المؤرخون أن يكثروا من أسباب الثورات. صحيح كانت هناك عدة أسباب أخرى أهمها المظالم التي عاناها الشعب من السلطة العسكرية ومن الأحكام العرفية، فمن استيلاء على الأقوات، ومن دفع المصريين قسرا إلى ميادين القتال باسم التطوع وتجنيد أكثر من مليون عامل وموت كثيرين منهم بعيدا عن الوطن، وإصابِة الآخرين بأمراض وعاهات إلى حجر على الحريات ورقابة على الصحف وحل الجمعية التشريعية ونفي الوطنيين الأحرار واعتقال المخلصين والزج بهم في السجون والمعتقلات، الخ

ويضاف إلى هذا الوعي القومي الذي أوضح للمصريين حقيقة نوايا بريطانيا، وذلك يرجع من غير شك إلى جهود الوطني الأول مصطفى كامل باشا وخليفته محمد فريد بك، وكذلك ما ارتكبته إنجلترا من فظائع في وادي النيل كان أشهرها من غير شك حادثة دنشواى 1906

وهنا أحب أن أذكر أن إنجلترا حين احتلت مصر قد لجأت إلى الحيلة والخداع: خدعت مصر إذ أعلنت منذ احتلالها مصر 1882 عزمها على الجلاء وأنها لن تقيم بمصر، وخدعت العرب جميعا حين ألبتهم على تركيا في أثناء الحرب الكبرى الأولى إذ وعدتهم بتحقيق استقلالهم إذا عاونوها، فثار العرب ضد الأتراك حلفاء الألمان، وكان لمصر وللعرب فضل كبير في كسب إنجلترا للحرب الأولى وكذلك انتصرت في الحرب العالمية الثانية بفضل مؤازرة مصر لها؛ ومع هذا لم تلق مصر والبلاد العربية إلا شر الجزاء من الإنجليز، فهم الذين مكنوا للصهيونيين من احتلال فلسطين وتشريد العرب وهم أصحاب البلاد الأصليين منذ آلاف السنين؛ وها هي ذي بريطانيا تسفك دماء المصريين ظلما وعدوانا وترفض الجلاء عن مصر وتقف عقبة أمام وحدة الوادي، وهي بهذا لا تبغي خيرا لنفسها ولا لمصر ولا للسودان ألا ساء ما تفعل!! ولو أن بريطانيا أعلنت حقيقة نياتها منذ الاحتلال وعزمها على البقاء والإقامة في وادي النيل للقيت عنتا شديدا وإرهاقا فظيعا

وقد عبر عن هذا المعنى معالي الدكتور محمد صلاح الدين

باشا في كلمته التي ألقاها في مؤتمر الميثاق الوطني الذي عقد

بالقاهرة في 24101951 أجمل تعبير حيث قال: (إننا خدعنا

طويلا، وجاء علينا الدور لنخدع من خدعنا، ونخضع من

أخضعنا، وأن تكون كلمتنا هي العليا.)

كانت الحماية إذن هي السبب الرئيس لقيام ثورة 1919، وقد أعلن زعماء مصر أنهم يطلبون استقلال بلادهم منذ الساعة الأولى. أعلنوه حين قابلوا المعتمد البريطاني في 13 نوفمبر 1918، وأعلنوه في النداء الذي وجهوه إلى معتمدي الدول الأجنبية في ديسمبر 1918 والذي جاء فيه:

(باسم الوفد المصري أعلن إلى كل أجنبي في مصر من ذوي المصالح أن هذا الوفد الذي يسعى بذمة أهل البلاد يقرن بسعيه للاستقلال احترام المصريين لحقوق الأجانب كل الاحترام)

وأتبع ذلك ببيان في 10 يناير 919 جاء فيه:

1: إن مصر تطلب استقلالها:

أ: لأن الاستقلال حق طبيعي للأمم.

ب: لأن مصر لم تهمل قط أمر المطالبة بهذا الاستقلال، بل هي قد سفكت في سبيله دماء أبنائها

ج: لأن مصر تعتبر نفسها الآن خالصة من آخر رباط كان يربطها بتركيا وهو رباط السيادة الاسمية

د: لأن مصر ترى أن الوقت قد حان لأن تعلن استقلالها التام الذي يؤيده مركزها الجغرافي وأحوالها المادية والأدبية

2 - تريد مصر أن تكون حكومتها دستورية

وفي 7 فبراير 1919 أعلن سعد زغلول باشا في خطبة له في دار جمعية الاقتصاد والتشريع بطلان الحماية قانونا حيث قال:

(إن بلادنا لها استقلال ذاتي ضمنته معاهدة لندن 1840 واعترفت به جميع المعاهدات الدولية الأخرى. . إنكم تعلمون أيها السادة وكل علماء القانون الدولي يقررون أن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين، تطلب إحداهما أن تكون تحت رعاية الأخرى، وتقبل الأخرى تحمل أعباء هذه الحماية، فهي نتيجة عقد ذي طرفين موجب وقابل، ولم يحصل من مصر ولن يحصل منها أصلا

في 1914 أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها بدون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية، فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا. بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها ولا يمكن أن تعيش بعد الحرب دقيقة واحدة.)

وهكذا كانت الحماية العامل الرئيسي في قيام ثورة 1919 وقد نجحت مصر في إلغائها 1922 وإعلان استقلالها ثم انتهى الأمر بقيام معاهدة 1936 بين مصر وإنجلترا. ربما كانت هناك ضرورات أدت إلى توقيع هذه المعاهدة 1936 ولكن الواقع أن هذه المعاهدة كانت كارثة على مصر فإنها لم تحقق للنيل وحدته بل أكثر من هذا أنها اعترفت بشرعية الاحتلال. وقد وقفت مصر بجانب بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية وانتهى الأمر بانتصار بريطانيا فعملت مصر على مفاوضة بريطانيا لتعديل هذه المعاهدة على أساس تحقيق أهداف مصر وهي الجلاء الناجز عن الوادي وتوحيد مصر والسودان تحت تاج واحد، ولكن ذهبت جهود المفاوضين المصريين عبثا، واضطرت مصر إلى إلغاء هذه المعاهدة وإلغاء اتفاقيتي السودان 1899 ثم وضع نظام دستوري لحكم السودان وقيام دولة اتحادية من مصر والسودان وأصبح جلالة الملك فاروق ملكا لهذه الدولة وأصبح لقبه ملك مصر والسودان

ومما يجدر ذكره أنه كما كانت الحماية باطلة قانونا فإن معاهدة 1936 بدورها باطلة قانونا، وقد سجل ذلك المستر أوبنهايم أستاذ القانون الدولي بجامعة كامبردج في مؤلفه العالمي عن ميثاق هيئة الأمم المتحدة فذكر أن معاهدة 1936 لا تتفق في شيء ما مع هذا الميثاق فهي باطلة من أساسها، إذ تنص المادة 103 من الميثاق على أنه: (إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقا لإحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المرتبة على هذا الميثاق)

قويسنا

للكلام بقية

أبو الفتوح عطيفة