مجلة الرسالة/العدد 956/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 956/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 10 - 1951



للأستاذ أنور المعداوي

إلى الدكتور زكي نجيب محمود:

عندما فرغت من قراءة مقالك الثائر على كتابي الثائر، ذلك المقال الذي طلعت به على الناس منذ قريب على صفحات (الثقافة) ارتسمت على شفتي ابتسامة عابرة. . . أول معانيها أنني أحب أن أنصف الحقيقة مهما كان طعمها مر المذاق بالنسبة إلى الآخرين، وسأنصفك دائماً سواء لقيتك بالرفق والهوادة أم لقيتك بالعنف الذي لا يلين! وأرجو أن يتسع صدرك لثورتي كما اتسع صدري لثورتك، لأن المشكلة الكبرى التي تقوم بيننا ويجب أن ينفذ إلى أغوارها القراء، هي أن يعرفوا على التحقيق أي ثائر أنا وأي ثائر أنت!

أنت يا صديقي ثائر علي، وثائر على نفسك، وثائر على غيري وغيرك من شيوخ الأدب وشبابه، لا تكاد تعترف بأن لنا جميعاً في محيط الأدب والفن ذرة من الأصالة الخالقة. . ترى هل أنت هنا ثائر أصيل؟ لا أظن! بل إن ثورتك هذه لتجعلني أعبر الآماد والأبعاد، وأطوي السنين والأيام، وأرتد على جناح الخيال إلى ذلك الماضي البعيد، الماضي الذي يذكرني بطفولتي الثائرة. . لقد كنت في ذلك الحين طفلاً ساخطاً على كل أمر من الأمور، ساخطاً على كل وضع من الأوضاع، لا أكاد أرضى عن شيء، ولا أكاد أقبل على طعام، ولا أكاد أترك طفلاً من الأطفال بغير اعتداء! يقدمون إلي أبهى الثياب فأقول لهم ليس عندكم ما يلبس، ويعرضون علي أشهى الأطعمة فأقول لهم ليس عندكم ما يؤكل، ويقبل علي الأصدقاء الصغار فأصفع هذا وأركل ذاك، ومنطق التبرير لهذا العدوان العجيب أنهم (جميعاً) لا يستحقون مني أي اعتراف بالجميل. . كنت أفعل هذا كله وما هو أكثر منه فإذا اعترض علي معترض من الأهل ضربت الأرض بقدمي، ولوحت في الهواء بيدي، وبدأت عملية التحطيم في أرجاء البيت لا تبقي ولا تذر: كل ما في طريقي يجب أن يزول، وكل ما في طريقي يجب أن يدمر، ولا فرق في ثورة الطفولة مثلاً بين لوحة فنية وبين آنية زجاجية، لأن منطق الطفولة لا يعترف بقيم الأشياء، فهي في محيط إدراكه القاصر وأمام ناظريه سواء!! ودارت عجلة الزمن وأصبح الطفل شاباً. . شاباً ثائراً أيضاً! ولكن ثورة اليوم قد تغيرت عن ثورة الأمس: غيرها طول التجربة، واتساع الأفق، واكتمال الوعي، سواء في شؤون الأدب أو في أمور الحياة. . ويتذكر الشاب الثار طفولته الثائرة فلا يستطيع أن يمنع ابتسامة عابرة من أن ترتسم على شفتيه: أحقاً لم يكن في بيته ما يستحق أن يؤكل، ولا عند أهله ما يستحق أن يلبس، ولا بين أصدقائه الصغار من يستحق عطفه وحبه ورضاه؟! ويقتنع الشاب الثائر أن ثورة طفولته كانت عمياء لا تبصر، وغافلة لا تعي، وذاهلة لا تفرق. لقد كان في فوره غضبه يحطم (كل) الأشياء وكان (بعضها) يستحق البقاء، وكان في وقدا سخطه يعمد إلى تكدير (الجميع) وكان (بعضهم) يستحق التقدير، وقل مثل ذلك عن موقفه من أنواع الثياب وألوان الطعام!

وبمثل هذا الإدراك السليم نظر الشاب الثائر إلى أدبنا المصري وثار عليه. . ثار عليه في (أكثر) حالاته ولم يثر عليه في (كل) حالاته، لأنه أراد لثورته أن تكون عادلة لا ظالمة، ومنصفة لا مجحفة، ورزينة متأنية لا يفسد من رزانتها تهور ولا يشوه من أناتها اندفاع؛ حين آمن بعد طول التجربة واتساع الأفق واكتمال الوعي، أن هناك فارقاً كبيراً بين ثورة الرجولة وثورة الطفولة!!

إنك يا صديقي - وأرجو مرة أخرى أن يتسع لي صدرك - لا تزال تمثل تلك الثورة الطفلة التي عرفتها أنا في ذلك الماضي البعيد. . وإذا كان هناك فارق بيني وبينك، فهو أنني قد ودعت ذلك العهد الغابر وأنك لا تزال تعيش فيه، على الرغم من أنني قد تخطيت اليوم حدود الثلاثين وأنك قد تخطيت بالأمس حدود الأربعين. . إنني لا أريد أن أنال منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح، وإنما أريد صادقاً أن أقدم ثورتي وثورتك على حقيقتهما إلى الناس، ليعرفوا كما قلت لك أي ثائر أنا وأي ثائر أنت!

لقد قلت في مقدمة كتابي الثائر الذي تفضلت مشكوراً فكتبت عنه: (لقد نظرت إلى أدبنا فوجدته في أكثر حالاته أدب المحاكاة الناقلة لا أدب الأصالة الخالقة، أدب الترديد والتقليد لا أدب الإبداع والتجديد؛ ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان. . إنني أتحدث هنا عن أدبنا المصري في نطاق الدراسة الأدبية والنقدية؛ الدراسة التي تضع تحت المجهر نظرية في الأدب أو مشكلة في الفن، أو شخصية كان لها في محيط الفكر الإنساني مكان ملحوظ)!

ولقد قلت أنت في مقالك الثائر معقباً على هذه الكلمات: (وهو يقول هذا الكلام الجميل مقصوراً على الأدب، وأقوله أنا مطلقاً بغير قيد؛ فليس في حياتنا الفكرية كلها ذرة من الأصالة الخالقة، فلا العالم يكشف كشفاً جديداً ولا الأديب يخلق خلقاً جديداً، وإني لأنظر إلى تاريخنا وأعجب كيف استحالت الرءوس عندنا إلى جماجم خاوية، تنفذ إلى أجوافها أصداء غامضة مما يقوله سوانا، فتتردد الأصداء في جنبات الجماجم لتخرج على الألسنة والأقلام هشيماً هو أقرب إلى فضلات النفاية)!

بماذا يخرج القراء من كلماتي وكلماتك؟ إنهم يخرجون من كلمات الثائر الأول بأنه لا يريد أن يحطم في طريقه كل شيء، ويخرجون من كلمات الثائر الآخر بأنه يريد أن يحطم في طريقه كل شيء، وشتان ما بين الثورتين من فروق. . عندي أنا أن في الأدب المصري أشياء (قليلة) يجب أن تبقى لأني أضن بها على التحطيم والتضمير، وعندك أنت أن هذا الأدب (كله) لا يستحق نعمة البقاء لأنه يفتقر إلى عنصر الخلق والتجديد. إن ثورتي تريد أن تفرق بين ما يجب أن نحتفظ به في أيدينا وما يجب أن يلقى به إلى عرض الطريق، ولكن ثورتك لا تريد أن تفرق بين هذا وذاك، وسيان في منطقها الساخط المتذمر إنتاج يشع منه النبض والحقوق، وإنتاج يشيع فيه الهمود والجمود. . أنت ثائر على أدب الشيوخ وأنا والله أكثر منك ثورة، ولكنني لا أحب لثورتك أن تذكرني بطفولتي الثائرة، يوم أن كنت أضرب الأرض بقدمي وألوح في الهواء بيدي، وأملأ أرجاء البيت صراخاً وأقول لأهله: ليس عندكم يا من تجهلون فنون الطهي شيء يؤكل على الإطلاق. . لا يا سيدي إنني إذا ثرت على أدب الشيوخ فلن أستطيع أن أقول لهم ليس عندكم ما يقرأ في مجال الخلق والتجديد سواءاً أكان الخلق متصلاً بفكرة من الأفكار أو بشخصية من الشخصيات، أم كان التجديد ممثلاً في منهج من مناهج البحث أو طريقة من طرائق الدراسة، لأن عند العقاد كتاب (ابن الرومي) في محيط الدراسة الأدبية والنقدية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رجل كتوفيق الحكيم، لأن عنده (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) و (سليمان الحكيم) في محيط أدب القصة والمسرحية، وأستطيع أن أذكر هنا (الأيام) لطه حسين، وفي معرض أدب المقالة والبحث (أصول الأدب) للزيات، و (فن القول) لأمين الخولي في مجال البلاغة التجديدية، و (حياتي) لأحمد أمين في ميدان أدب التراجم الذاتية، و (صقر قريش) لعلي أدهم في نطاق الدراسة التي تمزج بين الأدب والتاريخ. . هذا عن الأحياء، أما عن الذاهبين فأستطيع أيضاً أن أذكر (إبراهيم الكاتب) للمازني، وأن أخفض قلمي لأحمد شوقي في كثير من أعماله الفنية!

وأنت ساخط على أدب الشباب وأنا والله أشد منك سخطاً، ولكن في أدب الشباب أشياء لا أستطيع (على قلتها) أن ألغيها كما ألغيتها أنت، خضوعاً لمنطق السخط العام أو لمبدأ الثورة العاصفة التي يطيب لها الهجوم وهي معصوبة العينين. . ترى هل قرأت في مجال الدراسة الأدبية والنقدية (نماذج فنية) لأنور المعداوي، و (التصوير الفني في القرآن) لسيد قطب، وفي مجال القصة الطويلة والقصيرة (بداية ونهاية) لنجيب محفوظ و (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي، وفي مجال الشعر الفني (أين المفر) لمحمود حسن إسماعيل، وفي المجال نفسه من إنتاج الذاهبين (الملاح التائه) و (الشوق العائد) و (أرواح وأشباح) لعلي محمود طه؟ أشك في أنك قد قرأت لهؤلاء، ولقد بدأت القائمة باسمي لغرض خاص. . هو أن أجعل كل قارئ يغرق في الضحك ويخبط كفاً بكف، حين أقول له إنك لم تقرأ كتابي مع أنك قد كتبت عنه افتتاحية (الثقافة)! ومرة ثالثة أو رابعة أرجو أن يتسع صدرك لثورتي كما اتسع صدري لثورتك، وأن تثق كل الثقة من أنني لا أقصد إلى النيل منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح!!

لقد أكدت لقرائك أنك قرأت كتابي حرفاً حرفاً، وأنا أؤكد لهم أنك لم تقرأ منه غير المقدمة ثم أعقبتها بمقال أو مقالين، ثم أكملت القراءة في (الفهرس) كما يفعل الكثيرون في هذه الأيام. . أتريد مني دليلاً على صدق ما أقول؟ إن الدليلالذي لا يدفع هو أنك لم تناقش فصوله نقاشاً (موضوعياً) كما كنت أنتظر من أستاذ في الجامعة! كل ما فعلته هو أنك هاجمت الكتاب وصاحبه هجوماً عنيفاً ختمته بهذه الكلمات: (لا، لا تصدقوا الأستاذ المعداوي في ثورته، إنه ليس بالثائر كما رجونا لشبابه الفتي الطموح أن يكون، إنه لا يزال يسير على النهج الذي لابد من الثورة الحقيقية على أسسه وأوضاعه؛ إنه لا (يخلق) جديداً على نحو ما يخلق الأدباء الفجول؛ إنه لا يزال - مثلنا - عبداً من العبيد الذين يقنعون بما يملى عليهم من خارج نفوسهم)!

لقد كنت أنتظر منك يا صديقي - وأنت الأستاذ الجامعي - أن تناقشني نقاشاً (موضوعياً) حتى يستقيم لك منطق النتائج في ضوء المقدمات. . كنت أنتظر منك مثلاً أن تقول لي: تعال يا أخي، لقد كتبت عن مشكلة الفن والقيود، وعن مشكلة الفن والحياة، وعن مشكلة الأداء النفسي في الشعر، وعن نشأة العقيدة الإلهية، وعن موقف العرب من التراجيديا الإغريقية، وعن الفن الإنساني، وعن أدب الاعترافات، وعن العبقرية والحرمان، وعن انحراف المواهب، وعن الواقعية في القصة؛ وعن أدب التراجم الذاتية، وعن برناردشو، ولورد بايرون، ولن بوتانج، وبلزاك، ودستويفسكي، ومرجريت ميتشل، وبيكاسو، وأبي العلاء، وتوفيق الحكيم، وعلي محمود طه، والمازني، وغير ذلك من المشكلات الفنية والشخصيات الأدبية. . فأين هو الجديد الذي أتيت به، وأين هو الخلق الذي انتهيت إليه، وأين هو خط الاتجاه الفكري الذي قلت لنا عنه إنه ينبذ الترديد والتقليد؟!

لقد كنت أنتظر منك أن تلقاني بمثل هذا التكذيب، وأن تواجهني بالدليل بعد الدليل، على أنني كنت في هذا كله ببغاء تردد؛ أو بوقاً ينقل، أو فكراً يعتمد في تحليقاته على أقوال الآخرين. . لم تستطع أن تقدم على مثل هذا الأمر الذي يخرج عن حدود طاقتك الفكرية والجدلية، وإنما استطعت أن تضرب الأرض بقدميك، وأن تلوح في الهواء بيديك، وأن تملأ صفحات (الثقافة) صراخاً لتقول لي: (اسمح لي يا صديقي أن أكذبك فيما تزعمه لنفسك من خلق ينبذ الترديد والتقليد؛ لأنني استعرضت فصول الكتاب بعد أن زال عني سحر أسلوبها، لأجدها - في أغلبها - تعليقاً على رجل أو كتاب، وهذا هو ما أسميه بفتات الموائد التي قنعنا بها قناعة الأذلاء)!

عيبك يا صديقي زكي، عيبك الخطير، هو أنك لا تؤمن بنفسك. . والرجل الذي لا يؤمن بنفسه لا يستطيع أن يؤمن بغيره، لأنه يضع منظاره (العاجز) على عينيه، ثم ينظر من وراء ضبابه إلى الآخرين، ثم لا يراهم إلا صوراً مكررة من شخصيته. . ولهذا، تشعر دائماً أنك عبد وأن كل من تراهم عبيد، وأنك ذليل وأن كل من تعرفهم أذلاء؛ ثم تثور عليهم جميعاً وتثور على نفسك، ثم تبدأ عملية التحطيم التي حدثتك عنها في طفولتي الثائرة! صدقني أنني مشفق عليك من هذه الثورة العاجزة التي ينقصها الإيمان بالنفس في كثير من الأحيان. . إنك تهاجم الشيوخ، وتتنكر لهم، ولا تكاد تعترف بوجودهم، ومع ذلك فما أكثر ما واجهت الجمهور القارئ مستنداً إلى ذراع أحدهم لتستطيع في ميدان الأدب أن تقف على قدميك، حتى لقد كنت تحرص كل الحرص على أن تضع اسمه على كتبك متبوعاً باسمك، لتضمن لتلك الكتب شيئاً من الذيوع والانتشار. . لو كنت ثائراً قادراً لواجهت جمهورك القارئ دائماً وعلى فمك هذه العبارة: هاأنذا وحدي! ولكنك كنت الثائر العاجز الذي طالما واجهت الجمهور قائلاً له: هاأنذا. . مع أحمد أمين! آه من هذه العبودية التي تسري في دمك وتتخيل أنها من صفات غيرك، وآه من تلك الذلة التي ترسب في أعماقك وتتوهم أنه من سمات الآخرين!

إنني يا صديقي لست مثلك عبداً من العبيد، لأنني أومن بنفسي إلى أبعد حدود الإيمان. وإن الحرية لتلهب مني دماء القلب وعصارة الفكر ومداد القلم! أومن بنفسي إلى الحد الذي أشعر معه بأن كل كلمة أكتبها ستشق طريقها إلى النفوس والعقول، وستأخذ نصيبها من رضا الأقلام وثقة القراء. . ولست من طرازك حين تقول لأحد قرائك في العدد (667) من الثقافة. (أما أنك لم تكن قد سمعت صوتي بعد، فذلك ما لا أعجب له، لأني لم أكتب سطراً واحداً منذ بدأت الكتابة وأنا على يقين من أنه سيلتقي بعيني قارئ، فإن صرير قلمي - كما قلت في مقدمة كتابي أدب المقالة - لا يكاد يبلغ سمع صاحبه)!

إنني لا أطيق أن أواجه قرائي بمثل هذه الكلمات، لأنني أشعر شعوراً عميقاً أن الإيمان بالنفس - ذلك الإيمان الذي لا يبلغ حد الغرور - هو أول دعامة من دعائم النجاح. . كيف تصفني يا صديقي بعد ذلك بأنني مثلكم جميعاً عبد من العبيد، أولئك الذين يقنعون بفتات الموائد قناعة الأذلاء؟! إنني لأتحداك أن تذكر لي اسماً واحداً من أسماء الشيوخ قد أخذ بيدي في دنيا الأدب أو قدمني يوماً إلى القراء، وإن كتابي ليتحداك أن تثبت للناس أن فصلاً من فصوله الباحثة أو الناقدة قد كتب دون أن يحمل بين طياته رأياً جديداً، أو فكرة مبتكرة، أو تصحيحاً لوضع من الأوضاع الزائفة في محيط الأدب والنقد هنا وهناك، أو أنه يقتفي خطوات غيره في منهج التفكير وطريقة التعبير. . وعليك أن تقبل التحدي إذا كنت جاداً في ذلك (الكلام) الذي طالعت به الناس على صفحات (الثقافة)، ومعذرة إذا قلت (الكلام) ولم أقل (النقد)، لأن بين النقد والكلام فروقاً يعرفها الأدباء!! ثم تقول عن كتابي إنه مجموعة مقالات، وإن المقالة في الأعم الأغلب حيلة العاجز، حيلة من لا يسعفه الخيال القوي والخلق البديع؟! صدقني إن الكلمات لا تستطيع أن تعبر عن أسفي حين أنظر إلى فهم الأستاذ (الجامعي) لحقيقة الأدب وجوهر الفن، فأراه وقد انتهى إلى مثل هذا الرأي العجيب! من قال لك إن الأدب الحق يقاس بالكم وإن الفن الأصيل يوزن بعدد الصفحات؟ أتريد أن تنكر أدب المقالة لأن الحيز الذي تشغله صغير، وألا تعترف بغير أدب البحث لأن الحيز الذي يشغله كبير؟ ما أحوجنا إذن إلى موازين التجار لنزن الأدب والفن بالرطل والقنطار. . إن المسألة يا سيدي ليست مسألة مقالة ولا مسألة كتاب، وإنما هي مسألة الفكرة المبتكرة التي تغير وضعاً من أوضاع الأدب أو تقيم الدراسة على أساس جديد، سواء أكانت تلك الفكرة موزعة على ثلاث صفحات تنتج المقالة، أم كانت موزعة على مائتي صفحة تنتج الكتاب، وزدها إلى الألف إذا شئت فلن تقدم أو تؤخر في حقيقة هذا التقدير!!

وتسألني ماذا كنت أكتب لو لم يخلق الله برناردشو، ولورد بايرون، ومدام ريكامبيه، وتوفيق الحكيم، والمازني، ولن بوتانج، وبيكاسو، وأوسكار وايلد؟! اسمح لي أن أقول لك إن هذا السؤال مضحك ومقلق. . ترى هل نسيت أن وظيفتي الفنية هي النقد، وأنني مسئول بحكم هذه الوظيفة أن أكتب عن هؤلاء؟ لقد بقي عليك أن تسأل الفلاح ماذا كان يفعل لو لم يخلق الله الأرض؟ فإذا أجابك بأنه سيعمل بحاراً سألته مرة أخرى وماذا كان يفعل لو لم يخلق الله البحر؟! نعم وهذا هو المنطق. . المنطق الذي يطالعنا به صاحب (المنطق الوضعي) في ثقة واطمئنان!!

إنني أخشى أن أقول لمنطقك في معرض الجواب: لو لم يخلق الله هؤلاء لقدمت إليك (مذهب الأداء النفسي) في نقد الفنون عامة ونقد الشعر على الأخص، وهو المذهب الذي سأسجل به أول محاولة مذهبية في الأدب المصري، في كتابي المقبل الذي سيكون (بحثاً) لا مجموعة مقالات. . أخشى أن أقول لمنطقك هذا فيقول لي منطقك: وماذا كنت تكتب لو لم يخلق الله الشعر وبقية الفنون؟!

صدقني مرة رابعة أو خامسة أنني لا أريد أن أنال منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح، وإنما أردت أن أقول للقراء إن سؤالك هذا مضحك ومقلق. . مضحك لأنه أقرب إلى الهزل منه إلى الجد، ومقلق لأنني أخشى على هؤلاء (المساكين) الذين يتلقون عنك دروس المنطق في الجامعة، أخشى عليهم أن يواجهوا الحياة والناس بمثل هذا المنطق (السليم)!

أما أنك تخشى على القراء من كتابي لأنه على حد تعبيرك (سيشدهم في فهم الأدب إلى الوراء)، فأحب أن أطمئنك إلى أن عقول القراء بخير. . والدليل على ذلك أنهم قد قرأوا أكثر فصول هذا الكتاب من قبل على صفحات (الرسالة)، ومع ذلك فقد أقبلوا عليه إقبالاً أخجل القلم في يدي، القلم الذي ظلمهم يوماً حين نعتهم بأنهم لا يقرأون! إن كتابي لا يعلم (الإنشاء) لتلاميذ المدارس، ولكنه يفتح الآفاق للدارسين وينير الطريق للسالكين. . وحسبك أنني سأهدي إليك في الغد القريب نسخة أخرى من طبعته الثانية!!

أنور المعداوي