مجلة الرسالة/العدد 955/في الأدب المفارق:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 955/في الأدب المفارق:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1951



الرديف في الشعر الشرقي

للأستاذ عطا الله ترزي باشا

إن الأشعار الشرقية في جمالها وجوهرها تتشابه إلى حد عظيم، وقد حصل هذا التشابه نتيجة بعض العوامل التي أثرت في كل من الأشعار. فقد اصطبغ الأدب الشرقي بوجود هذه العوامل، وهي كثيرة، بلون خاص يميزه في أساسه عن الأدب الغربي تمييزا بينا. وينبغي أن نجعل رابطة الدين في مقدمة تلك العوامل.

لقد كان أثر الإسلام عظيما في الحياة الأدبية عند العرب. ونجد أن هذا الأثر قد امتد كذلك إلى الآداب الشرقية الأخرى. فأصبحت الآداب متأثر بعضها ببعض؛ فقد تأثر الأدب الفارسي بالأدب العربي وبالعكس، كما أن الأدب التركي تأثر بهما، حتى لأصبح الشاعر التركي في وقت من الأوقات يجيد اللغتين العربية والفارسية بقدر ما يجيد لغته الأصلية فينظم الأشعار. وقد خلف كثير من شعراء الترك دواوين كثيرة في الفارسية والعربية.

وكذلك كان حال الشعراء الفرس؛ فقد اصطبغ الشعر الفارسي بطابع الشعرين العربي والتركي. وهكذا قل عن الشعر الأردأ فإنه مزيج من عدة لغات إسلامية حية أهمها الفارسية والعربية والتركية وعليه فقد وجد، بسبب هذا الدين الحنيف، اتصال وثيق بين الأشعار الشرقية.

ولقد بلغ هذا التشابه درجة توحدت فيها قواعد الأوزان وكثير من الأسس الأخرى الموضوعة للمنظومات الشعرية في الشرق.

ومع ذلك كله فإن كلا من هذه الآداب يحتفظ بطابعها الخاص الذي يميزه عن غيره. فهنالك مظاهر قوية تميز الأشعار الشرقية بعضها عن البعض الآخر، وهي التي تستند عليها قواعد نظم الشعر من بعض الوجوه.

ويدور هذا المقال حول (الرديف) الذي يميز الشعريين التركي والفارسي وغيرهما من الأشعار عن الشعر العربي تمييزا واضحا.

والرديف في اللغة بمعنى الراكب خلف الراكب وكذلك الردف بكسر الفاء (المنجد). وقال الفيروز آبادي: الردف بالكسر الراكب خلف الراكب كالمرتدف والرديف. . وكل ما تبع شيئا. . ولليل والنهار وهما ردفان. . وجليس الملك عن يمينه يشرب بعده ويخلفه إذا غزا. . الخ (القاموس المحيط)

وقال القاموس أيضا الردف في الشعر حرف ساكن من حروف المد واللين يقع قبل حرف الروي ليس بينهما شيء.

وسكت كل من فريد وجدي والبستاني في دائرتيهما عن ذكر اصطلاح الردف أو الرديف في الشعر.

ومما يجدر الإشارة إليه أن الأدبيين التركي والفارسي يفرقان بين الردف والرديف. فالشعر (المردف) بفتح الدال اصطلاحا هو غير الشعر (المردف) بتشديد الدال، وقد عالجنا الأخير في هذا المقال.

ومن الجدير بالذكر أيضا أن الشعريين التركي والفارسي يختلفان عن الشعر العربي حتى في الردف. فقد جوز العرب الردف في حرفي الواو والياء، ذاهبا إلى صحة القافية بين (الفعيل) و (الفعول). مثال ذلك ما قاله المتنبي في رثاء محمد بن إسحاق التنوخي في قصيدة مطلعها:

إني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور

فجعل كلا من الملمات (خبير، غرور، بصير، نور، تسير، طور. . الخ) قافية لقصيدته. وهذا الاستعمال غير جائز في الشعريين التركي والفارسي إطلاقا.

والرديف في اصطلاح شعراء الترك والفرس لفظ يتكرر في نهاية كل بيت من الشعر. فهو عبارة عما تلا حروف الروي من حروف أو كلمات في البيت مباشرة.

وعلى هذا الاعتبار فإن الرديف يتكون من حرف أو حرفين أو أكثر، أو من كلمة أو كمتين أو أكثر، إذ يكرر الشاعر أحيانا ربع البيت أو ثلثه كما يتبين من الأمثلة الآتية:

قالت الشاعرة التركية (فطنت):

غناي قلبه سبب دولت قناعت (ايمش

جهاندة جاي فرح كوشة فراغت (ايمش

ومعناه: أن من استغناء الفؤاد القناعة، ومن دواعي السرور في هذا الكون الانزواء إلى الخلوة! وقال الشاعر الفارسي العظيم (عمر الخيام) في إحدى رباعياته:

آنان كه در آمدند ودرجوش (شدند

آشفته ناز وطرب نوش (شدند

خورنده نبياله ومدهوش (شدند

درخواب عدم جملة هم آغوش (شدند

وترجم هذه الرباعية إلى اللغة التركية نظما شاعر تركيا الأول وسفيرها السابق في الباكستان الأستاذ يحي كمال، مراعيا فيها قواعد الردف:

أونلر كه كلوب بودهره يرجوس (أولرق

أذواقه صار يلديلر قدح نوش (أورلرق

إبجد كلري باده لرله مدهوش (أورلرق

صوك أويقوبه والديلرهم آغوش (أولرق

بمعنى (هاج الذين غاروا في بحر السرة يشربون، مرحين مدهوشين، من كؤوس فناموا، وهم سائرون إلى الفناء، متعانقين.)

ولهذا الشاعر التركي غزل مردف مشهور، ننقل؟ إلى القراء بعض أبياته، ومنه يتبين أن الرديف يتكرر في نهاية الشطر الثاني من كل بيت من الشعر بخلاف مطلعه حيث يتكرر في شطريه:

آهسته جك كوره كلري مهتاب (أويانمسون

بر عالم خيله دالان آب (أويانمسون

آغوش نوبهارده خوا بيده درجهان

سورسون صباحي حشرة قدر خواب (أويانسمون

أي كل سكونه وارمابي أمرايله بلبلة

كلشندة مست ذوق أولان أحباب (أويا نمسون

ومعناه: (مهلا أيها الملاح لا تحرك مجدافيك سريعا فيهتز الماء اللجي الغارق في الخيال، فيوقظ ضوء القمر!

إن الكون تمثال رائع وقد ضمه الربيع البهي إلى صدره، فليتنا لم نتيقظ من سنة الكرى، وليت الصبح أبد الدهر لم ينجل!

أيها الورد ناد البلبل يسكت، لكي لا يتنبه الأحبة وهم في الروض نائمون فرحين)

تلك أمثلة ذكرناها والرديف فيها متكون من كلمة واحدة، وإليكم هذا المثال وفيه الرديف كلمتان:

بنم تك هيج كيم زار وبريشان (أولمسون يا رب

أسير درد عشق وداغ هجران (أولمسون يا رب

يقول الشاعر: رب لا تجعل أحدا من الناس مثلي، يشقي في نار الفراق مضطجعا بآلام الغرام.

ويصادف أن يستوعب الرديف كل البيت باستثناء كلمة تترك للقافية، كما قال الشاعر:

صفا (ي عشقي كيم آكلير كيمكله سويلشه لم

وفا (ي عشقي كيم آكلر كيمكله سويشله لم

بمعنى من يفهم صفو الغرام! مع من نتحدث؟!. ومن يفهم معنى الوفاء في الغرام! مع من نتحدث؟!.

ومن النادر جدا استعمال مثل هذا البيت - الذي جرى مجرى المثل - في الشعر.

ولا يتسع المقال أن يسرد الأمثلة على الرديف الذي أصبحت الدواوين التركية والفارسية زاخرة، بل وأن الأشعار المردفة في هذين الأدبيين تفوق الأشعار غير المردفة عدا. والنوع الأول (أي المردف) أسهل نظما وأكثر تأثيرا على السامع من غير المردف. وأن نظم الشعر الخالي عن الرديف أصعب من نظم الشعر المردف. بيد أن المردف أكثر انسجاما، وأشد وقعا من حيث النغمات من غير المردف.

ولا يصادف هذا اللون من الشعر في الأدب العربي إلا ما ندر، بل وذهب البعض إلى أن الرديف غير وارد في الشعر العربي إطلاقا. فيذكر الشاعر التركي الشهير (نامق كمال) أن الرديف خاص بالشعريين التركي والفارسي دون الآداب الأخرى والى هذا يشير الدكتور طه حسين باشا قائلا: (إن الشعر العربي وحده، هو الذي يختص بالتزام قافية واحدة في القصيدة)

ولقد استشكل على البعض من الكتاب أمر التفريق بين الرديف والإيطاء، فخلطوا بينهما خلطا عجيبا يكاد يذهب عن الردف جماله.

والإيطاء هو أن يتكرر لفظ القافية ومعناها واحد، كما قال امرؤ القيس في قافية - سرح مرقب - وفي قافية أخرى - فوق مرقب - وليس بينهما غير بيت واحد. .

ويلاحظ أن الإبطاء كلما تباعد كان أخف. وكذلك إن خرج الشاعر من موضوع إلى موضوع كأن يخرج من مدح إلى ذم. .

ومن الإيطاء قول ذؤيب:

سبقوا هوى وأعنقوا لهواهمو ... فتخرموا ولكل جنب مصرع

ثم قال صفة الثور والكلاب:

فصرعنه تحت العجاج فجنبه ... متترب ولكل جنب مصرع

فكرر ثلث البيت. . . ولو أن الشاعر كان قد التزم القافية في موضعي (فتخرموا) و (متترب) لعددنا (ولكل جنب مصرع) رديفا.

وإذا اتفق الكلمتان في القافية واختلف معناهما لم يكن إبطاء. وقال الفراء يواطيء الشاعر عن عي. وإذا كرر الشاعر قافية للتصريح في البيت الثاني لم يكن عيبا. نحو قول امرئ القيس:

خليلي مرابي على (أم جندب

ثم قال في البيت الثاني: لدى (أم جندب

والواقع أن هذا المثال الأخير لا يخرج عن كونه حالة من حالات الرديف. إذ ينبغي أن نعتبر كلمتي (أم جندب) رديفا.

ويقرب من هذا ما قاله توبة مخاطبا بعل ليلى الأخيلية:

لعلك يا تيسا نزا في مريرة ... تعاقب ليلى أن تراني (أزورها

على دماء البدن إن كان بعلها ... يرى لي ذنبا غير أني (أزورها

وهذه قطعة مترجمة من شعر الشاعر الأزدي الكبير (محمد إقبال) مردفة في الأصل. وقد حافظ المترجم في نفس الوقت على رديفها في العربية:

أخلقن دنياك كي تحيا بها ... سر هذا الكون بالحق (الحياة)

هي في الحرية بحر زاخر ... وغدير في حمى الرق (الحياة) تختفي في الطين سرا وترى ... بقوى التسخير والخلق (الحياة)

هي في الغافل ترب هامد ... وهي في اليقظان سيف جاهد

وفي هذا يقول الدكتور عبد الوهاب عزام بك في هامش المقال الذي نشره في العدد الأول من مجلة الثقافة حول الأدب الهندي الإسلامي:

(إن شعراء الفارسية والأردية يجيزون أن تكرر كلمة واحدة في آخر الأبيات ويسمونها رديفا، ولكنهم يلتزمون قبلها قافية. فالحياة في الأبيات الثلاثة رديف، والقافية في الكلمات التي قبلها).

وينبغي اعتبار الضمائر التي تلحق بأواخر الأبيات في الشعر العربي رديفا كما يتبين من هذه الأمثلة:

قال المعري في لزومياته:

مل المقام فكم أعاشر أمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤ (ها

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجراؤ (ها

فهنا ينبغي أن نعتبر (ها) في نهاية الأبيات رديفا.

وقال سالم بن وابصة:

لعمرك ما أهويت كفي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي

وهنا ياء المتكلم رديف. . وفي المثال الآتي الضمير (نا) رديف. . وهو من شعر بشامة النهشلي

إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... يوم سراة كرام الناس فادعينا

وإلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي يعجز المقال عن ذكرها. . .

ويشير الأستاذ محمد مهدي البصير إلى نوع من الشعر المردف اخترعه البغداديون لسرد الحكايات والخرافات يسمى بـ (الكان وكان) وهو نوع من الشعر العامي قافيته مردوفة دائما. . . وقد تطور حتى نظمت به الحكم والمواعظ ولكنه ظل محافظا على صبغته العامية إلى أن انقرض. . .

ومهما يكن من أمر فإن العرب كما سبق لم تستعمل في أشعارها الرديف إلا نادرا جدا. إذ يصعب على المحقق الباحث أن يعثر في الدواوين الشعرية على أمثلة وافية من الشعر العربي المرد وف. . أما الأمثلة التي أتينا بها في هذا المقال وغيرها من الأشعار المردفة إنما وردت على لسان شعراء العرب عرضا من غير قصد. . هذا بعكس ما عليه الأمر في الشعرين التركي والفارسي، فإن الأشعار المردفة فيهما كثيرة. بحيث أنك لا تجد شاعرا من شعرائهما إلا وقد استعمل هذا اللون من الشعر في ديوانه.

ولا يخفى لما لهذا النوع من الشعر من اللطافة والجمال والحلوان ما لا نتذوقه في غيره من أنواع الشعر، فنرى القارئ ينجذب إليه بقوة السحر الذي يتجلى في سلاسة ألفاظه وسهولة تراكيبه، ولذا يفضل الكثيرون من شعراء الترك والفرس نظم الأشعار المردفة. وقد شاع استعمال هذا اللون من الشعر في الغزل أكثر من شيوعه في باقي الأغراض.

ولا غرابة في أن نعثر في آداب الأمم الأوربية على أمثلة لهذا النوع من الشعر، لا نشك في أن شعراءهم قد أقتسبوها من الشرق. وخير مثال نورده هنا القصيدة الإنكليزية التي مطلعها:

- '

وهي من نظم الشاعر المعروف (توماس أوبزبرن). ويلاحظ هنا أن الشاعر كلمة (لاند) في آخر الأبيات رديفا، والتزم في الكلمات التي قبلها قافية. .

كركوك - العراق

عطا الله ترزي باشي