مجلة الرسالة/العدد 954/رسالة المربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 954/رسالة المربي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1951



صلتها بأهداف التربية الأخرى. . . التربية الاجتماعية. . . التربية الخلقية التربية البدنية

للأستاذ كمال السيد درويش

إذا كانت تلك هي رسالة المربي في الحياة فما هو موقفها من أهداف التربية الأخرى؟ سنبدأ بالكلام عن موقفها من التربية الاجتماعية لأنها من أهم الأهداف التي تتردد على الألسن في الوقت الحالي.

إن الصيحة التي انبعثت تنادي بضرورة الاهتمام بالتربية الاجتماعية هي نتيجة طبيعية للأحوال المضطربة التي يجتازها المجتمع في العصر الحالي. إن الإنسان مضطر إلى الحياة مع غيره من الناس فهو كائن اجتماعي والمجتمع نتيجة حتمية لوجود الإنسان. ومع الحياة في المجتمع تتعقد الأمور وتتعارض، وتنمو المشاكل، ولقد كانت مشاكل المجتمع البدائي بسيطة سهلة ومع ذلك حاول الإنسان التخلص منها فابتكر واخترع وكان يأمل من وراء ذلك إلى توفير جهوده مع تحقيق أكبر قسط ممكن من السعادة. وعلى عكس ما كان منتظراً لم يأت كل اختراع جديد إلا وفي طياته من المشاكل الظاهرة والخفية ما زاد في آلام الإنسانية ومتاعبها حتى أصبحنا في القرن العشرين نعاني من الآلام والويلات ونجابه من الأزمات ما أكد لدينا أن المجتمع الإنساني قد أصبح مريضاً حتى أصبحنا الآن نفكر في علاج هذا المجتمع المريض. ولما كانت التربية من أهم وسائل العلاج، فقد انبعثت الصيحة؛ تلك الصيحة القوية التي نادت ولا تزال تنادي بضرورة الاهتمام بالتربية الاجتماعية بل وبجعلها هدف التربية الأسمى.

وتقف رسالة المربي من هذه الصيحة موقفاً آخر غير موقف المؤيدين. ذلك أن أنصار هذا الهدف سيخضعون كل وسائل التربية لتحقيق هذا الهدف الذي سيصبح تقليداً جامداً وديكتاتوراً متحكماً يقف في وجه التطور والتقدم، وسيقتل النمو وهو ما يتنافى مع رسالة المربي. تنظر رسالة المربي إلى التربية الاجتماعية من وجهة نظرها الخاصة بمواصلة النمو. هي تنظر إلى التربية الاجتماعية لا على أنها هدف في ذاته؛ ولكن على أنها وسيلة إلى هدفها هي، فالتربية الاجتماعية تؤدي إلى إيجاد التوافق الاجتماعي الذي يساعد الإنسان على مواصلة التقدم والنمو، وهكذا يرفع هدف رسالة المربي في هذه الحالة من ق التربية الاجتماعية ويحلها مكاناً سامياً ويفرض على المشتغلين بالتربية الاهتمام بها.

إن الإنسان اجتماعي ولذلك يحتاج إلى معرفة كيفية الحياة في هذا المجتمع حتى يستطيع الاندماج فيه والتآلف مع أفراده وتكييف نفسه حسب ظروف المجتمع الذي يوجد فيه، وهذا شرط أساسي لكي يستطيع بعد ذلك العمل باستمرار والسير في طريق التقدم. ونمو الأفراد أساس نمو المجتمع وتقدمه، وإذا كان النمو دليل الحياة في الأفراد فكذلك نجده دليلاً على حياة المجتمع.

إن رسالة المربي تستخدم التربية الاجتماعية كوسيلة من الوسائل الفعالة في نمو المجتمع.

ونحن نعني بالتربية الاجتماعية تلك التي تمكن أفراد المجتمع من التآلف بتنمية قدرتهم على التكيف حسب الظروف المحيطة بهم في المجتمع وحتى يستطيعوا مواصلة التقدم في الحياة. وهذا هو ما يحتاج إليه المجتمع الإنساني، فالتطور الذي انتهى إليه بعد قرون عديدة هو نتيجة خيرات تلك القرون، وتتعقد مشاكله حتى يقف أمامها معظم أفراد المجتمع عاجزين عن فهمها أو حتى عن محاولة التفكير في حلها أو التخلص منها. وما الأزمات والحروب التي تهدد العالم من أن لآخر إلا أعراض تعارض المصالح الإنسانية وتضاربها. وعجز الإنسان عن التخلص منها هو الدليل على ضعف التوافق الاجتماعي لديه. لقد عجز أفراد الأسرة العالمية عن تنظيم شؤونها بأنفسهم فأخذت تنحط بعد رقيها وتتأخر بعد تقدمها. ألا يدل ذلك على جهل أفرادها بالخصائص الاجتماعية الضرورية للحياة في وفاق ووئام. يجب أن تقوم التربية الاجتماعية بهذا التنظيم الاجتماعي في حدوده الضيقة داخل الأسرة وفي مجاله الكبير بين العالم. إن الذي ينقص الفرد فالأسرة فالمدينة فالدولة فالعالم هو التوافق الاجتماعي، ولو نجحت التربية في إيجاد التوافق الاجتماعي لدى الأفراد لاطرد نحو المجتمع ولأصبح العالم كله أسرة كبيرة منسجمة، يعمل أفرادها في توافق وانسجام، ويسير ركابها دائماً نحو الأمام، ولكن كيف نستطيع التربية الاجتماعية وتحقيق التوافق الاجتماعي بين الأفراد؟ إن ذلك من السهولة بمكان. لقد عاش الإنسان مع غيره من الناس فوجد أن الصدق يؤدي في النهاية إلى تقدم الجميع، فقال: إن الصدق فضيلة. ومن خبرته وجد كما وجد غيره أن الكذب رذيلة. وهكذا نشأت الأخلاق وأخذت تنمو بنمو المجتمع ذلك لأنها ضرورية لا لحياة المجتمع بل لتقدمه أيضاً. فظهور الأخلاق نتيجة حتمية لحياة الإنسان الاجتماعية. ولابد من الأخلاق لصالح المجتمع وبدونها لا تستقيم حياته. فهي التي تحدد نوع العمل الذي يجب أن نعمله وبفضلها نستطيع أن نتبين نوع العمل الذي يجب أن لا نعمله، لا لأننا لا نرضاه فقد يكون من أحب الأعمال إلى نفوسنا، ولكن لأنه يتعارض ومصلحة المجتمع الذي نعيش فيه. الأخلاق هي الرقيب على تصرفات المجتمع وأفراده، وهي البوليس الذي يحمي المجتمع، ورجل المرور الذي يصرف حركاته. وإذا عاش المجتمع بدون أخلاق أصبح كالمدينة بدون البوليس، والشوارع بدون رجل المرور، أصبح حافلاً بالاضطراب والفوضى.

لذلك يجب أن تحتل الأخلاق مكانها اللائق في التربية. فبدون الأخلاق ينهار ما بين أفراد المجتمع من توافق اجتماعي فينهار المجتمع كله. ولهذا اهتمت الأمم الحية في جميع العصور بالأخلاق حتى أننا نجد الملحدين الذين لا يعترفون بالأديان يهتمون بالأخلاق وبالتمسك بأهدابها. ولقد قامت المذاهب الفلسفية وتعددت ولم نجد من بينها مذهباً واحداً استطاع إغفال ما للأخلاق من أهمية. بل لقد ذهبت بعض المجتمعات إلى حد تقديسها وجعلها هدف التربية الأسمى. ونحن بطبيعة الحال لا ننظر إلى التربية الخلقية إلا من حيث وضعها الطبيعي أي كوسيلة من الوسائل التي تساعد على إيجاد التوافق الاجتماعي اللازم للإنسان حتى يستطيع مواصلة نموه والسير في ركب الحياة دائماً أبداً إلى الأمام.

ولا يستطيع المؤرخ إغفال تلك الحقيقة التي يجدها ماثلة أمام عينيه باستمرار، والتي تدل على أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه الأخلاق في المجتمع. ذلك أن عصور التدهور والانحلال في الأمم ما هي إلا نتيجة الانحلال الخلقي الذي يكون قد أصاب الأمة قبل ذلك وأخذ ينخر في عظامها حتى تقع في النهاية فريسة سهلة للانقسام الداخلي أو العدو الخارجي. وأن الفرد العادي منا ليلمس نتائج الأخلاق في حياته. إن الرجل الذي يتمسك بالأخلاق غير ذلك الذي انحلت أخلاقه فهوى إلى الحضيض. وأسرة ذات أخلاق غير أسرة لا أخلاق لها. وقد لمس الأدباء والشعراء بإحساسهم المرهف ما للأخلاق من قيمة فمجدوها ورفعوا من شأنها. فهي سر بناء الأمم:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وهي مرجع صلاح أمر الإنسان: صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ... فقوم النفس بالأخلاق تستقم

ولكن ما هي الأخلاق؟ إنها شيء أساسي وضروري لإيجاد التوافق الاجتماعي، وهذا هو الذي يحدد معناها. وبمقدار صلاحية الأخلاق في إيجاد هذا التوافق يكون مقدار ما يجب على الناس أن يتمسكوا به. إن تطور المجتمع يؤدي إلى تغير المستويات الخليقة وتطورها، ذلك أنها بمضي الزمن تصبح غير صالحة للغرض الذي وجدت من أجله أي غير صالحة لإيجاد التوافق الاجتماعي، ولذلك يجب أن لا يتمسك الناس بها وبهذه النظرة إلى الأخلاق نستطيع التخلص من إطارها الحديدي وسلطانها الديكتاتوري.

ومعنى ذلك أننا لا نهتم بالأخلاق في حد ذاتها بقدر ما نهتم بالروح الأخلاقية نفسها. يجب أن يهتم رجال التربية بإيجاد تلك الروح الأخلاقية حتى تصبح أساساً يحدد الإنسان بواسطة الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها ليكون عضواً عاملاً ناجحاً في الحياة. ولكن معنى ذلك أن الأخلاق ليست ذات قيم ثابتة في الحياة لأننا لا ننادي بتطور معناها وتغيره، وإنما بتطور طريقة تناولها والفهم لها والعمل بها.

وما دمنا قد أبرزنا أهمية تنمية الروح الأخلاقية فلابد من الكلام عن أهمية الدين. ذلك أن الأديان السماوية هي التي تحض على الأخلاق القويمة فضلاً عن أن الإنسان متدين بطبيعته فهو مضطر إلى التفكير في الصلة التي تربطه بالكون، ولذلك يجب أن تحتل التربية الدينية مكانها اللائق باعتبارها أساساً تنهض عليه الأخلاق القويمة التي لا تتم بدونها التربية الاجتماعية التي تساعد على نجاح عملية التربية.

وتنظر رسالة المربي إلى التربية الدينية نظرتها إلى التربية الخلقية. وبهذه النظرة يمكن التحرر من ديكتاتورية التربية الدينية التي قيدت حرية التفكير الإنساني بسلاسل من حديد كما حدث في المجتمع الصليبي خلال العصور الوسطى.

وكما تقودنا التربية الاجتماعية إلى الاهتمام بالتربية الخلقية والتربية الدينية فهي كذلك تقودنا أيضاً إلى الاهتمام بالتربية البدنية. ذلك أن العلاقة بين الجسم والعقل وتأثير كل منهما في الآخر من القوة بحيث يؤدي إهمال أحدهما إلى أضعاف الآخر. ولما كان غرضنا من الاهتمام بالتربية الاجتماعية إيجاد التوافق بين أفراد المجتمع حتى يسير وينمو، لذلك يجب أن نعتني بأفراد ذلك المجتمع لا من الناحية العلمية أو الخلقية أو الدينية فحسب، بل وكذلك من الناحية الصحية حتى تكون سلامة الأبدان مدعاة إلى حفظ العقول والتمسك بالأخلاق، وحتى يتم التوافق والانسجام بين قوى الفرد ونوازعه المختلفة فيؤدي ذلك إلى توافق أفراد المجتمع وانسجامهم. وهكذا نجد للتربية البدنية أهميتها التي لا تقل عن التربية العقلية والخلقية والدينية فكلها تشترك في نمو الإنسان وتقدمه.

وما دمنا نريد ترقية المجتمع ونموه فيجب تربية جميع أفراده بلا استثناء أي إلى إقرار مبدأ تكافؤ الفرص وتوطيد العدل الاجتماعي، وسيؤدي ذلك إلى أن تصبح المواهب والميول الطبيعية هي الأساس الذي يحدد مستقبل الأفراد.

بمراعاة ذلك كله يتم التوافق الاجتماعي بين الأفراد، وتزول من المجتمع مظاهر التعارض والشذوذ، ويحل الانسجام والوئام، محل التنافر والخصام، ويسير المجتمع في رقيه وتقدمه إلى الأمام.

كمال السيد درويش

ليسانس الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي

مدرس بالرمل الثانوية