مجلة الرسالة/العدد 954/خواطر في كتاب الله:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 954/خواطر في كتاب الله:

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1951



ضريبة الإنسانية

للأستاذ محمد عبد الله السمان

إن للإنسانية ضريبة على كل فرد، ولا يكاد يوجد فرد واحد يعجز عن تأديتها؛ اللهم إلا من ملأت الأنانية نفسه، واستولت الأثرة على قلبه، وهذا حري بأن يحذف من المجتمع، وتلفظه الإنسانية لفظة مهينة لا كرامة فيها!

والقرآن الكريم حين يشعر المرء بهذه الضريبة، وأنها واجب تحتمه المروءة، إنما يهدف إلى غرضين جليلين ساميين: أما الأول، فإثبات وجوده، وإظهار كيانه، وطبعه بطابع الخير والبر والتعاون، وتجنيده في خدمة الإنسانية، وإعداد نفسه للمعروف كلما ناداه الواجب واستصرخته المروءة. وأما الثاني، فدفع المرء إلى استغلال أوقات الفراغ فيما يفيد المجتمع ويسعده، واستنفادها في تدعيم أسس الخير التي يقوم عليها بناء كل أمة تبغي العزة في حياتها. .

وأولى أنواع هذه الضريبة بالإشادة هو فعل الخير، لأن الإنسانية في كل زمان ومكان متعطشة إلى الخير الذي يشد أزرها ويؤيدها في نضالها وكفاحها، ويضفي على رسالتها في الحياة إشراقاً يزيدها رفعة وسمواً، ويكلل مسعاها بالنجاح. .

(ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات. . . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات. . - فمن تطوع خيراً فهو خير له. . - ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم. . . ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير - يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون - وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم).

والإحسان نوع من ضريبة الإنسانية جدير بكل تقدير، لأن فيه تدعيماً للإخاء الإنساني، وبه تتقارب القلوب وتتآلف، وتترابط النفوس وتتصافى، والإحسان إما خير يفعله الإنسان بدافع من شعوره الإنساني، وإحساسه الأخوي، وإما عفو عن شرور الأشرار، ومقابلة إساءة المسيئين بالإحسان، وصبر على أذى المتعنتين من الظلمة والطغاة (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. . . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون - إن الله يأمر بالعدل والإحسان. . . وقولوا للناس حسناً - للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة - ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، أدفع بالتي هي أحسن - الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين - أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا، ويدرءون بالحسنة السيئة - والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، ويدرءون بالحسنة السيئة، أولئك لهم عقبى الدار).

والبر من أنواع الضريبة الإنسانية التي لها قدرها ولا غرو. فهو جماع أنواع الخير، وفيه تتجلى آيات الرحمة والإخاء والوفاء. ولا يكون المرء المعترف بضريبة الإنسانية مؤدياً لها إلا إذا جند نفسه للبر جهد المستطاع. وليس بعجيب بعد هذا أن تر في كتاب الله تعالى يدفع المسلمين إلى التعاون على البر، ليعيشوا في ظلال الأخوة الصادقة. وقد أشار القرآن الكريم إلى البر وإلى أن سبله جميعها تلتقي عند هدف واحد هو الخير، وخلاصة هذه السبل إيمان كامل، ومعروف دائم، وطاعة خالصة، ووفاء بالعهود، وصبر على المكاره:

(وتعاونوا على البر والتقوى. . . - ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون).

والمرء حين يؤمن بأن هناك نعماً عظمى أسبغها عليه الخالق جل وعلا، يجب عليه أن يؤدي شكر هذه النعم العظمى له، وليس هناك أعظم شكراً لله من أن تدفع ضريبتك الإنسانية في حياتك. ولقد ندد القرآن بالإنسان المارق، المنغمر في نعم الله، وهو في نفس الوقت مصر على الكفران بها، وعدم الاعتراف بما تفرضه الإنسانية عليه من ضريبة، فلم يحطم العقبة، ليفك رقبة ويحررها ويطعم اليتيم والمسكين في يوم ذي مسغبة، ويكون من الذين يتواصون بالمرحمة. . .

(لقد خلقنا الإنسان في كبد - أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ يقول أهلكت مالاً لبداً، أ يحسب أن لم يره أحد؟ ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين، فلا أقتحم العقبة، وما أدراك مل العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة، عليهم نار مؤصدة).

ولقد قص علينا القرآن الكريم قصة سبأ، أولئك الذين غمرهم الله بنعمه فما شكروه، ووهب لهم حياة طيبة فتهربوا من ضريبة الإنسانية، وكان جزاؤهم، أن سلبهم الله النعم، وأبدلهم بحياتهم الطيبة حياة تعسة، وجعلهم عبرة وعظة للأجيال من بعدهم:

(لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا، فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نجازي إلا الكفور؟ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق. . إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).

وهناك إنسان يعيش في حياته كما تعيش الأنعام، يأكل ويشرب ويتمتع وكفى، ولا يشعر بوجوده كعضو في المجتمع يجب أن يؤدي نحوه واجباً، ويجهل أن للإنسانية ضريبة على كل فرد منتسب إليها، وهذه الضريبة لا يعجز عنها غني أو فقير، فالغني يستطيع أن يبذل من ماله في سبيل الخير، والفقير يستطيع أن يبذل شيئاً من وقته، فيحث الأغنياء على التصدق؛ ويدفع بهم إلى طريق البر، ويأمر بالمعروف ما وسعه الجهد، ويعمل إن استطاع في كل لحظة للإصلاح بين الناس. وقد سد القرآن الكريم أبواب الأعذار أمام العاجز عن أن يؤدي الضريبة من ماله، وفتح له طرقاً من الخير يستطيع أن يسلكها دون احتياج إلى شيء من المال، وأعتبر المتقاعد عن سلوك هذه الطرق محذوفاً من المجتمع، ومن المهملين الذين لا خير لهم في وجودهم، ولا فائدة من حياتهم:

(لا خير في كثير من نجواهم، إلا من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).

محمد عبد الله السماق