مجلة الرسالة/العدد 953/أصحاب المعالي
مجلة الرسالة/العدد 953/أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
ويضارع المتنبي في هذا أبوفراس الحمداني الذي يجعل الدم سلاحاً ذا حدين، فهو للأضياف تارة، وللأعداء تارة أخرى، والكرم والجهاد للمعالي سبيلان:
للقا العدى بيض السيو ... ف وللندى حمر النعم
هذا وهذا دأبنا ... بودي دم وبراق دم
ويقول بشار بن برد:
وأبسطهم راحة في الندى ... وأرفعهم ذروة في العلا
ومن أصحاب المعالي الممتازين الشريف الرضي، ففي أبياته الآتية ذخيرة عالية:
لغير العلا مني القلى والتجنب ... ولولا العلا ما كنت في الفضل أرغب
ملكت بحلمي فرصة ما أسترقها ... من الدهر مفتول الذراعين أغلب
فإن يك سني ما تطاول باعها ... فلي من وراء المجد قلب مدرب
بحسبي أني في الأعادي مبغض ... وأني إلى عز المعالي محبب
فللحلم أوقات وللجهل مثلها ... ولكن أوقاتي إلى الحلم أقرب
يصول على الجاهلون وأعتلى ... ويعجم في القائلون وأعرب
ولست براض أن تمس عزائمي ... فضالات ما يعطى الزمان ويسلب
فهو راغب فضل، وصاحب حلم وإباء عن دنيات الأمور، لا يباعد بينه وبين عز المعالي أراجيف العدو، ولا فضالات الدنيا ولا حداثة السن.
ويلاحقنا في هذا المضمار الملك أبوفراس مرة أخرى، فلا يرتضي لأصحاب المعالي أن يحول صغر السن دون مآربهم:
أما أنا أعلى من تعدون همة ... وإن كنت أدنى من تعدون مولداً
ويقول الشماخ في عرابة بن أوس الذي اصطف للقتال وهو دون الأربعة عشر يوم أحد:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وفي الحق أن أبا فراس كان عالي النفس سواء في حديثه مع نفسه أو عند المحنة النازلة، فما كانت صفته هذه لتزايله فتى أو ملكاً أو أسيراً في بلاد الروم:
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امريء ... فليس له بر بقيه ولا بحر
وقال أصيحابي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا ... وأكرم من فوق التراب ولا فخر
ثم هو القائل يحدث نفسه، متثبتاً من خطاه في مدارج العلياء:
وما عابك ابن السابقين إلى العلا ... تأخر أقوام وأنت مقدم
وليس تميم بن المعز لدين الله الفاطمي أقل من أبي فراس في هذه الحلبة إذ يقول:
وإني لألقي كل خطب بمهجة ... يهون عليها منه ما يتصعب
وأستصحب الأهوال في كل موطن ... ويمزج لي السم الزعاف فأشرب
فما الحر إلا من تدرع عزمة ... ولم يك إلا بالقنا يتنكب
ومالي أخاف الحادثات كأنني ... جهول بأن الموت ما منه مهرب
خليلي ما في أكؤس الراح راحتي ... ولا في المثاني لذتي حين نضرب
ولكنني للمدح أرتاح والعلا ... وللجود والإعطاء أصبو وأطرب
ومن بين جنبيه كنفسي وهمتي ... يروح له فوق الكواكب مركب
وهذا الزمخشري يرى أن المجد مكسوب لا موهوب، فيقول:
(لا تقنع بالشرف التالد، وهو الشرف للوالد، واضمم إلى التالد طريفاً، حتى تكون بهما شريفاً، ولا تدل بشرف أبيك ما لم تدل بشرف فيك، إن مجد الأب ليس بمجد، إذا كنت في نفسك غير ذي مجد، الفرق بين شرفي أبيك ونفسك، كالفرق بين رزقي يومك وأمسك، ورزق الأمس لا يسد اليوم كبداً، ولن يسدها أبداً)
وهذا ما نسجه أبو العلاء من قبله، إذ أنزل نفسه منازل السادة وأعتز بطارفه قبل تالده:
ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي ... على أنني بين السماكين نازل
لدي موطن يشتاقه كل سيد ... ويقصر عن إدراكه المتناول
ويقول:
ينافس يومي في أمسي تشرفاً ... وتحسد أسحاري على الأصائل
وطال اعترافي بالزمان وصرفه ... فلست أبالي من تغول الغوائل
ويقول إذ أصبح بمكان لا يناله غيره، ومن السفاهة أن يساميه فيه من هو دونه:
وطاولتلأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجناد
ويقول:
إليك تناهي كل فخر وسؤدد ... فإبل الليالي والأنام وجدد
وما تواضع أحد إلا ارتفع، ولا سيما عند القدرة على الاستيلاء لهذا قال القائل:
سدت الجميع فسدت غير مسود ... ومن البلاء تفردي بالسؤدد
وقال أبو العلاء:
ولو أني حببت الخلد فرداً ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
وفي مقابل هذا يقول ابن مصر القاضي ابن سناء الملك:
توقد عزمي يترك الماء جمرة ... وحيلة حلمي تترك السيف مبرداً
وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الرغم مني أن أرى لك سيداً
أليس ابن سناء الملك سليل الفراعنة الشداد الذين حولوا النيل عن مجراه، ورفعوا الأهرام، وطاولوا الزمن بالبقاء، وضارعوا الخلود بالتحنيط.
وأختصر أبن المولى جميع المؤهلات في كل كلمة واحدة هي (الإسلام) فهو القائل في مدح الحسن بن يزيد:
ولو أن أمراً ينال خلوداً ... بمحل ومنصب ومكان
أو بيت ذراه تلصق بالنجم ... قراناً في غير برج قران أو بمجد الحياة أو بسماح ... أو بحلم أو في علا ثهلان
هم ذوو النور والهدى ومدى ... الأمر وأهل البرهان والعرفان
وهو الذي جعل النبي كالجبل الأشم، ورهطه كالكواكب العالية، وكذلك أمير المؤمنين المهدي وأهله من أصحاب المعالي لأنهم ورثة النبي الكريم:
وما قارع الأعداء مثل محمد ... إذا الحرب أبدت عن حجول الكواعب
فتى ماجد الأعراق من آل هاشم ... تبحبح منها في الذرى والذوائب
أشم من الرهط الذين كأنهم ... لدى حندس الظلماء زهر الكواكب
وإن أمير المؤمنين ورهطه ... لأهل المعالي من لؤي وغالب
أولئك أوتاد البلاد ووارثو ... النبي بأمر الحق غير التكاذب
ويجري أبو العتاهية في هذا المضمار إذ يرى الزهادة سبيل المجد:
دعني من ذكر أب وجد ... ونسب يعليك سور المجد
ما الفخر إلا في التقى والزهد ... وطاعة تعطي جنان الخلد
لا بد من ورد لأهل الورد ... إما إلى ضحل وإما عد
والفضائل وحدها هي عدة المعالي كما يرى الطغرائي بقوله:
أبى الله أن أسموا بغير فضائلي ... إذا ما سما بالمال كل مسود
ولقد قال أحد الخلفاء:
(لأن يضعني الصدق وقلما يضع. . . أحب إلى من أن يرفعني الكذب وقلما يرفع)
وللطغرائي مكانة لامعة بين أصحاب المعالي، حتى أنه ليجعل للعلا حديث صدق، وهو العامل بما تمليه عليه من انتقال وحركة، ففيهما العز، وليس ببعيد على من ولى الوزارة بمدينة إربل أن يأتي بهذه المعاني السامية التي تتدرج بها لامية العجم المشهورة إذ يقول:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيراً، ومجدي أولاً شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها، ولا ناقتي فيها ولا جملي
ومنها:
حب السلامة يثني عزم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً ... في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزل
يرضى الذليل بخفض العيش مسكنة ... والعز عند رسيم الأينق الذلل
إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ مني ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
ومنها:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
لم أرتض العيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
ومنها: تقدمتني أناس كان خطوهمو ... وراء خطوي لو أمشي على مهل
علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فهذا رجل أصيل من أصحاب المعالي، فحسبه أن يحفل بالشمس والحمل وزحل ليتخذ من كل ذلك درعاً للحياة النشيطة العاملة، فعرف قدر نفسه وصانها عن كل رخيص دون. وأمتطي الأمل الفسيح في سبيل الارتفاع، ولم يتخاذل حينما رأى مندونه يتقدمه في مدارج الحياة.
وليس بلوغ المعالي رهين العجلة، فقد يكون التأني سبيل السبق وذلك كما يرى شاعر قديم:
من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويداً وتجى في الأول.
للكلام صلة
محمد محمود زيتون