مجلة الرسالة/العدد 952/عهد
مجلة الرسالة/العدد 952/عهد
ختام
للأستاذ محمد محمود جلال بك
وثمة صلة تخفى على النظرة العابرة. تلك صلة القرية وقرباها. (برطباط) بلد الشاعر التي هام بها وكانت في مجموعها مصدر أنسه، فصديقاه منها، ومعالمها أحب المعالم إليه، وعشراؤه الذين يعمرون ندوته من أهلها. إذا غاب عنها ونزل القاهرة دعاها هاتفاً:
يا (برطباط) سلام الله أهديك ... أنت الحبيبة قلبي ليس سلوك
يا قرة العين يا دار الخليل ويا ... مهد الأحبة ما حب كحبيك
وإذا طال مقامه عما قدر، وقد لا ينزل القاهرة إلا لعلاج أو لضرورة عمل، عزفت عينه عن مباهجها، ورأى في (برطباط) شخص حبيب يرفع إليه اعتذاره:
حالت صروف الليالي دون مجتمعي ... يا ليتها ما مضت عنا لياليك
مرت سراعاً فسارت إذ مضت وقضت ... على حشاشة أنسي بعد أهليك
ولم أظفر بنظير - فيما عرفت وقرأت - لهذا العمق في حب المكان - ولعل ما أشرت إليه من إرهاف حسه، وحب الخلوة أثر في ذلك:
ما مصر يوماً وإن جلت محاسنها ... أبهى وأحسن عندي من مرائيك
وشاعرنا في هذا الوضع يشارك المرحوم رفاعة بك الطهطاوي إذ يقول في مقدمته (الوطنية المصرية) يشير إلى طهطا (ولأرضك حرمة وطنها، كما لأمك حق لبنها، ومن طبع الأحرار الحنين إلى الأوطان، وإن ألبستني المحروسة (القاهرة) نعما)
ولا شك أن الوفاء أظهر وأوضح حين يتصل بالقديم من المنازل والأول من الذكريات، فلكل واحدة من أولئك فضل الانبثاق العاطفي، وأول الإشراق للتقدير الشخصي.
يقولون إن الرسول الكريم - وهو مثل الكمال الإنساني عليه صلاة الله وسلامه - نظر إلى معالم البلد الحرام أول هجرته وقبل أن يستدير ثم قال (اللهم إنك أحب بلد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما هاجرت). وهذا أرق تبرير وأدق، وهو لم ير إلى ذلك التاريخ إلا جفوة منكرة من أهلها. ومعالم احتفظت بهول العذاب للنفر الغر من صحبه الكرام لا لشيء إلا أن يقولوا ربنا الله. ولكنه يعرف للبلد الذي نشأ فيه حرمته وحقه، ولا ينساه حتى وهو مقبل على يثرب حين ينتظره الأنصار الفادون وحيت الظل والماء.
وقد يبلغ القلق من شاعرنا - وهو في عصر المواصلات السريعة - حداً تتراكم به هواجسه فتظهر على فمه شعراً يخاطب بلده:
بالله هل أحدثت أيامنا غيراً ... أم أنت باقية ترجين راجيك
عمت خطوب الزمان الخلق كلهمو ... فالله أسأله منهن يحميك
أما (برطباط) هذه فمن أقل البلاد حضارة، وأنآها قربة من مركز مغاغة مديرية المنيا - غربي بحر يوسف! وهذا مظهر أرقي للوفاء؛ ودليل قاطع على النسبية والشخصية في النظرة والحكم.
حدث سنة 1870 وقبيل سقوط باريس أن جمع الأديب مما طبع من القطع التمثيلية ودواوين الشعر مما يرضي ذوقه. وأنفق أكثر ما كسب من مال في تجليدها تجليداً فنياً رائعاً، ووفق إلى دار صغيرة في الضواحي حيث رتبها، كما نسق سكناه تنسيقاً أنيقاً، وما كاد يفرغ من كل ذلك حتى فاجأه الحرس الوطني يطلب إليه الرحيل لاقتراب جيوش الألمان! ذعر الشاب وقد حددوا له أسبوعاً قال إن هذه الفترة قد لا تكفي لمجرد البحث! وفي اليوم التالي جاء الحرس مرة أخرى يحدد له أربعاً وعشرين ساعة!! شده الرجل فودع بيته وما حوى. وفي حقيبة صغيرة وضع ما يحتاج إليه وآوى إلى أول فندق ثم أصبح وهو في الدار الآخرة! - أسلم روحه بعيد أن أسلم ماله في هذه الدنيا!!
وبقدر وفاء شاعرنا الفقيد كان ألمه لما يلقى من نكران أو يلمس من جحود، فيقول في قصيدته الطويلة تلك:
غاض الوفاء فلست ألقى صاحباً ... إلا بغير فضيلة ووفاء
ولكنه مؤمن تقي. نشأ في بيئة تقوى. كان أبوه من أعلام المروءة وأهل الرأي في بلده. فتسمعه في أواخرها يقول:
ولقد شفى نفسي وأصغر همها ... أن كل شيء صادر بقضاء
فهو يثور قضاء لحق المروءة عليه وترجمة لوفائه، ثم يعود ملتمساً عذراً في السكون من إنسان وحادث، ولما تمر به الدنيا أو يمر بها من تفاعل، يرجع بهذا إلى شيمة الرضى وهي وليدة التسليم لمبدع الكون وما قسم من حظوظ.
مررت مع صديقي أحمد الأزهري ذلك العام ذاته سنة 1946 بحقل للقطن استلفت منا النظر، فشجراته تستطيل على ما في الحقول المجاورة، وعهدنا بمعدن الأرض واحداً! واسترعى الانتباه منا قلة ما يحمل من ثمرات بينما تلك القصار تنوء بما حملت، وتساءلت فعرفنا أن الأول تجربة للقطن (السكلاريدس) وأما باقي الحقول فمن القطن (الأشموني) قلت أيها الصديق. . أما نذكر أقرب ما يتمثل به هاهنا؟ ولعله أقرب كذلك إلى البر. . قال ما تذكر؟
قلت ذلك قول صديقنا الفقيد (أحمد توفيق):
إن راح قوم للسماء بحظهم ... فالحظ أسبق ما يكون ورائي
لا غرو أن نال اللئيم مكانة ... ما نالها ذو حكمة وذكاء
فالغصن ينمو وهو خلو من جنى ... وتراه يثمر عن قليل نماء
ألا ترى في هذين الحقلين المتجاورين بل المتلاحقين وما بينهما من فارق. مسرحاً تتمثل فيه هذه المحكمة. وتمثل فيه هذه الرواية؟!
ذكرت هذه الأبيات مرة على مسمع فقيد العربية الشاعر الخالد أحمد شوقي بك منذ ربع قرن وكنا نسير على شاطئ البحر بكازينو سان أستفانو فوقف يستعيدها ويستفسر عن قائلها، وقد أعجب بالمعنى وترحم على (أحمد توفيق) حين علم أنه أرتحل عن دنيانا باكراً.
وكذلك كان حظها من تقدير الصديق الأديب واصف غالي باشا وهو حجة في الذوق - سمعها بين أفياء (لؤلؤة البحيرة) وهو المتنزه المشهور في جنيف.
فلم أنس الصديق الراحل على شاطئ بحر أو بحيرة، في بستان أو في حقل، ولم تفارقني ذكراه في صحة ولا علة، بين كروب أو في سرور، ولكني حقاً نسيت وصاته سنين فلم أنشر فضله ولا أعلنت عهده حتى ذكرني صديق كريم على شاطئ البحر في بور سعيد سنة 43، ثم طوت المحن صحيفة الازدهار من الذاكرة حتى نشرها فبعثت بأول البحث إلى صديقي وأستاذي صاحب الرسالة وهو عندي أرعى الناس لعهد وأبر الأدباء بالبر وأكبر الإخوان عوناً على خير.
ولعل خير ما أكرم الله به الذكرى أن جعل (الرسالة) رسالة الظهر والخلق المتين - مظهراً لها، كما كان لقرائها الأكرمين تقدير ما راقهم وغض الطرف عما بها من قصور.
ديفون
محمد محمود جلال