مجلة الرسالة/العدد 950/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 950/القصص

ملاحظات: La Vieille Tunique بتاريخ: 17 - 09 - 1951



السترة القديمة

للكاتب الفرنسي فرانسو كوبيه

للأستاذ حسن فتحي خليل

حينما كنت أشغل وظيفة كتابية بوزارة الحربية، كان لي زميل في نفس حجرتي يدعى جان فيدال، وهو ضابط سابق فقد ذراعه اليسرى في الحملة الإيطالية، ولكنه كان يمكنه الاكتفاء بيده اليمنى للقيام بأعمال مدهشة

كان شخصاُ وديعاُ ونموذجاُ للجندي الطيب، ومع إنه كان لا يتعدى الأربعين من عمره، إلا انه من العسير أن تميز شعرة بيضاء في لحيته ومع هذا اعتدنا أن نطلق عليه (الأب فيدال) احتراماُ له، لأننا كنا نعلم الكثير عن حياته الباسلة في مسكنه المتواضع في حي جرينبل، فقد ضم أخته أليه للإقامة معه فجاءت يتبعها طابور من الأطفال، وكان دخله يتكون من معاشه ومرتبه. وجملته ثلاثة آلاف فرنك يعيش عليها خمسة أشخاص، ولكنه بالرغم من هذه الأعباء نظيف الملبس فسترته نظيفة، وقد شبك ذراعه اليسرى الفارغة بدبوس

وكنت اسكن حينئذ أحد أحياء جنوب باريس، فكنت أصحبه دائماُ في طريقه إلى المنزل كما كنت أستشيره دائماُ ونحن في طريقنا ليحدثني عن حياته العسكرية السابقة، وكنا نمر في طريقنا بالقرب من المدرسة الحربية فتواجهنا تلك السترات الرسمية المختلفة الألوان - وكنا في آخر أيام الإمبراطورية - الثانية التي يلبسها رجال الحرس الإمبراطوري ورجال الهوسار بملابسهم الخضراء، والخيالة بملابسهم البيضاء والمدفعية بملابسهم الموشاة بالقصب التي تستحق حقاُ أن يقاتل لابسوها من اجلها حتى الموت

وكنت أدعو زميلي في أمسيات الصيف لتناول كأسين من الأبسنت، ونجلس في المقهى حوالي نصف الساعة، وحينما تأخذه النشوة منذ تلك الكأس التي انقطع عن شربها منذ أن أصبح رب عائلة يبدو رجلاُ مرحاُ، وحينئذ أتوقع أن أسمع منه قصة عن الحرب نقطع بها بقية الطري وذات مساء، وكان قد تناول كأسين من الشراب، وقف فجأة أمام إحدى الحوانيت التي تباع فيها الملابس القديمة في شارع جرينبل، كان حانوتاُ قذراُ يعرض سترات قديمة لبعض الضباط لوثتها الأمطار، وأحالت أشعة الشمس ألوانها، وبعض الزراير والمسدسات العتيقة، فأمسك فيدال بذراعي بيده الوحيدة ثم إشارة بطرف ذراعه المقطوعة إلى إحدى هذه السترات. كانت لضابط برتبة كابتن، ثم قال (انظر. . هذه هي السترة الرسمية عليها علامة الفرقة التي كنت أخدم بها) وتقدم ليرى الرقم المحفور على الأزرار فقال: (يا إلهي إنها نفس فرقتي. .)

وفجأة ارتعشت شفتاه وشحب وجهه وقال في صوت فزع. .

(يالهي. . لربما كانت سترته هو!) وأمسك بالسترة يقلبها بين يديه، فلاحظ ثقباُ مستديراُ في منتصف الظهر. . ثقب رصاصة، وحوله بقعة سوداء لعلها آثار دم، وكان ذلك الثقب يثير الفزع والشفقة، وكأنه جرح حقيقي، ولمحت في وجه فيدال أن هناك قصة وراء هذه السترة، فقلت له ونحن نتابع سيرنا لأدفعه حتى يحدثني بها:

- (إن ضباط فرقتك لا يجرحون من الخلف. . أليس كذلك؟)

ولكنه لم يسمعني. . كان يهمهم ببعض الكلمات قائلا: - (كيف وصلت إلى هنا؟ إنها لمسافة طويلة من ميدان الحرب في ميلينينانو إلى شارع جرينبل. . . أنا أعرف أن هناك يسلبون الموتى ملابسهم في الميدان، ولكن من الغريب حقاُ أن تصل هذه السترة إلى ذلك الحانوت الذي لا يبعد عن المدرسة الحربية سوى مائة خطوة فحسب حيث تعسكر فرقته، ولعله مر بها وعرفها وكأنها ميت عاد إلى الحياة)

ولقد أثار ذلك اهتمامي حتى إني أمسكت بذراعه وقلت (اسمع يا فيدال) لا تتكلم هكذا فأنا لا أفهمك. . ولكن حدثني بالقصة كاملة. . بماذا ذكرتك هذه السترة؟)

وكنت أشك إنه سيتكلم فقد فحصني بنظرة كلها شك. . بل خوف، ولكن يخيل لي إنه اتخذ قرارا هاما فإذا يبدأ قائلا:

(حسنا سأحدثك بالقصة فأنت رجل أمين وشاب مثقف، وأعتقد في صدق حكمك، وحينما أنتهي من سرد قصتي أرجو أن تصارحني عما إذا كنت قد تصرفت تصرفا حكيما

والآن. . من أين أبدأ؟ آه نعم. . أولا لا يمكن أن أذكر اسم ذلك الرجل لأنه ما زال حيا، ولكنني سأطلق عليه الاسم الذي اشتهر به في الفرقة. كنا ندعوه (الظمأ) وكان ذلك الاسم يلائمه تماما لأنه كان لا يبرح (الكانتين) أبداُ وكان في مقدوره احتساء اثنتي عشر كأساُ حتى ينتصف الليل

كان شاويشاُ في فرقتي وكنا نعمل في مؤخرة الجيش، ومع أنه كان سكيراُ ولصاُ ومحبا للشجار إلا انه كان شجاعا كالأسد، له عينان زرقاوان باردتان كالصلب في وجهه لوحته الشمس ولحية حمراء. ولقد صرح له مرة بإجازة ثلاثة أيام قضاها في الأحياء الساقطة في الجزائر مع ستة من المجرمين على شاكلته فأعيد إلى الثكنات مشجوج الرأس بعد أن تشاجر مع بعض الجنود في منزل امرأة ساقطة. وأفاق بعدها فحكم عليه بالسجن أسبوعين، وخفضت رتبته، وكانت هذه المرة الثانية التي يجازى فيها بذلك الجزاء. ولقد كان من عائلة محترمة كما كانت ثقافته طيبة، ولو كان حسن السلوك لحظي بترقيات متوالية. ولكنه بعد مضى ثمانية عشر شهرا استعاد رتبته بفضل رئيسه الكابتن الذي قدر رباط جأشه تحت وابل النيران في الجزائر.

ولكن حدث أن نقل الكابتن الذكور وحل محله آخر كورسيكي في الثانية والعشرين من عمره واسمه جنتيل وهو شاب طموح وضابط نشيط، ولكنه يقسو في معاملة جنده، فهو يجازيك بالسجن أسبوعا إذا رأى زرارا مفقودا من سترتك، أو لاحظ بعض الصدأ على بندقيتك. هذا فضلا على إنه لم يخدم في الجزائر من قبل فلم يكن يسمح بذلك التراخي في النظام الذي تعودناه هناك حتى اعتبرناه حقا من حقوقنا.

ولأول وهلة نشأ شعور من عدم الاستلطاف بين الكابتن جنتيل وزميلنا (الظمأ) وكان جزاء أول ذنب يرتكبه الشاويش لعدم استجابته لما يطلب منه أن حكم عليه بالسجن أسبوعا. وبينما فاجأه ثملا مرة ثانية حكم عليه بالسجن لمدة أسبوعين. وقد قال الكابتن وهو يدينه:

- سأرى إن كنت ستتأدب!!

فلم يجيبه الظمأ بل سار بهدوء إلى زنزانته، ولعل الكابتن كان سيغير اعتقاده لو رأى الغضب المرتسم في عيني (الظمأ) الزرقاوين الصلبتين

وحدث بعد ذلك أن أعلن الإمبراطور الحرب على النمسا فنقلنا بحرا إلى إيطاليا، ولن أحدثك عن الحملة بل سأتابع قصتي. ففي بداية المعركة معركة (ملنيانو) التي فقدت فيها ذراعي عسكرت فرقتنا في قرية صغيرة. وقد ألقى علينا الكابتن خطابا قصيرا قبل أن يصرفنا وهو يذكرنا بأننا نقيم في بلاد صديقة، وإنه يجب أن نعامل الناس معاملة طيبة، وأن كل جندي يؤذي أحدا من السكان سيكون جزاؤه قاسيا

وكان (الظمأ) يرتكن حينئذ على بندقيته بجانبي، وكان ثملا بعض الشيء، فهز كتفيه ولم يره الكابتن لحسن الحظ.

ولقد استيقظت منزعجا في منتصف الليل وأسرعت نحو فناء المعسكر فوجدت - في ضوء القمر - عدة جنود ورجال مدنيين يحاولوا أن يخلصوا فتاة جميلة من بين ذراعي (الظمأ) وكان يقاومهم فقوة بينما كانت هي تصيح جزعة داعية العذراء وكافة القديسين ليخلصوا منه، فأسرعت للمساعدة، ولكن كان الكابتن جنتيل قد سبقني. كانت له عين صارمة آسرة فتراجع الشاويش أمامه، فطمأن الكابتن الفتاة ببضع كلمات إيطالية ثم نظر إلى (الظمأ) وقال (إن المتوحشين أمثالك يجب أن يعدموا. . وفي اللحظة التي سوف أرى فيها الكولونيل ستفقد رتبتك ثانية. . سنحارب غدا، ولعلك تحاول أن تموت في المعركة

وآوينا للنوم ولكن كان الكابتن على حق، فما أن شقشق الفجر حتى اندلعت نيران المدفعية، فأسرعنا نحو أسلحتنا واندفعنا للقتال وكان (الظمأ) يسير بجانبي وكانت عيناه تنذران بالسوء، وكانت الأوامر الصادرة إلينا تقضي بأن نطارد النمساويين الذين لجئوا إلى الخنادق في قرية (ملنيانو) فسرنا ما يقرب من الميل ولكن فاجأتنا نيران العدو وقتلت منا حوالي خمسة عشر رجلا فأمرنا الضباط بالانبطاح أرضا بينما ظلوا هم واقفين. وفجأة شعرت بجسم بجانبي فتلفت فوجدت (الظمأ) ينظر إلي وهو ممسك ببندقيته وقال أترى الكابتن؟

قلت - نعم هل هناك شيء؟

قال - حسناُ. . لقد أخطأ حين وجه إلى كلماته في الليلة الماضية ثم رفع بندقيتة في لحظة خاطفة وأطلق النار، فرأيت الكابتن وقد انحنى ثم دفع برأسه إلى الخلف تاركاُ سيفه وسقط في قوة على ظهره.

فقلت وأنا أمسك بذراع (الظمأ) - أيها القاتل!

ولكنه دفعني بعيدا وهو يقول - أيها الغبي. . كيف تثبت أني قتلته؟ فقمت واقفا وأنا ثائر غاضب، ولاكن حدث في نفس تلك اللحظة أن هب بقية جنود الفرقة واقفين إذ صدرت أوامر الكولونيل بمهاجمة العدو.

كنت فاقد الحياة حينئذ لأنة كان يتحتم علي أن أهاجم العدو مع زملائي وكان القتال مريرا. . حتى أنى فقدت ذراعي في هذه المعركة.

وكان الجنرال ممتطيا صهوة جواده، فخورا بنا نحن جنوده الشجعان وهو يقول (عشتم يا رجالي فأنتم أشجع جنود العالم) وكنت مازلت قابعا في مكاني وأنا أتحسس ذراعي المكسورة حين تذكرت جريمة (الظمأ) الفظيعة. ورأيته وهو يغادر مكانه ويتقدم نحو الجنرال، وقد شج رأسه العاري والدم يشحب منه منها الدم على جبينه وخديه، وهو ممسك ببندقيته في يد وبيده الأخرى أحد الأعلام النمساوية التي استولى عليها. فنظر إليه الجنرال في إعجاب وقال (سأمنحك وسام الصليب)

وفقدت وعي بعدئذ. . ولكنك تعرف ما حدث لي، لقد بترو ذراعي وقضيت شهرين أهذي في المستشفى، وحينما كنت أضطجع أرقا في فراشي ليلا كنت أتساءل إذا كان من واجبي أن أبلغ عن جريمة (الظمأ) التي اقترفها، لكني كنت أعود فأقول إنه لا يمكنني إثبات. ومع هذا فقد حدثت نفسي بأنه إن كان مجرماٌ إلا أنه جندي شجاع، لقد قتل رئيسه ولكنه استولى على علم نمسوي. . ولم أعد أستقر على رأي فيما افعله.

ولما شفيت أخيرا بلغني أن (الظمأ) نال رتبة جديده وأنعم عليه بوسام الصليب، وقد دفعني ذلك للاشمئزاز من وسامي الذي ثبته الكولونيل بنفسه على صدري وأنا في فراشي بالمستشفى وعلى أية حال لم أعد أرى (الظمأ) منذ ذلك الوقت حتى الآن، فقد ظل في سلك الجندية بينما غادرتها أنا لعاهتي

ولكني حين رأيت تلك السترة القديمة في ذلك الحانوت بجانب المعسكر الذي يقيم فيه القاتل الآن أعاد منظرها إلى ذهني في جلاء تلك الجريمة التي لم ينل مرتكبها جزاءه بعد. . ولم أنقطع عن التفكير أن الكابتن ما زال يصيح مستنجداً بالعدالة)

وحاولت مات أستطيع أن أهدئ ببير فيدال وهو على حاله تلك من الاضطراب، وأخبرته مراراً أنه قد فعل خيراً وأن شجاعة (الظمأ) قد محت جريمته

ومرت أيام بعد ذلك وحين دلفت إلى حجرة مكتبي يوما ناولني فيدال جريدة الصباح وقد طواها بحيث منها ذلك الخبر الذي قرأته كما يلي:

ضحية أخرى من ضحايا الإفراط في الشراب

وحدث بعد ظهر الأمس في شارع جرينبل أن رجلاً يدعى ماليه وشهرته (الظمأ) وهو شاويش في الحرس الإمبراطوري كان قد أفرط في الشراب في إحدى الحانات هناك مع زميلين له وكان واقفاً يتطلع إلى حانوت لبيع الملابس القديمة، وفجأة اعترته حالة من الهذيان الثمل فأخرج سلاحه وجعل يعدو كالمعتوه، ولكن تمكن زميلاه من الإمساك به وهو يصيح أنه ليس بقاتل. . وإنه استولى على علم نمسوي في ملنيانو. وقد علمنا أن ماليه نال وساما على شجاعته في الحرب، وأن إدمانه على الشراب هو الذي منعه من متابعة ترقياته. وقد نقل إلى المستشفى العسكري وسيحول بعدها إلى مستشفى سارتون للأمراض العقلية حيث يقال أنه لن يستعيد قواه العقلية بتاتا.!

فأعدت الجريدة إلى بير فيدال الذي رمقني بنظرة لها معناها ثم قال. لقد كان الكابتن كورسيكيا وقد حصل على انتقامه.

حسن فتحي خليل