مجلة الرسالة/العدد 95/موعد
مجلة الرسالة/العدد 95/موعد
للأديب حسين شوقي
لماذا تسرع هذه الفتاة في السير؟ لماذا؟ إنها خفيفة الخطى كأنها القبرة، وكأنها عما قليل ستطير عن رصيف الشارع. .! لماذا تسرع في السير؟ لو أنها ذاهبة إلى عملها لكان هناك ما يبرر هذه العجلة، ولكن هذا غير مستطاع لأن الساعة الآن السادسة، والمكتب الذي تعمل فيه قد أغلق أبوابه منذ الساعة الخامسة. . لماذا تسرع الفتاة في السير إذن؟ إنه يكفي أن تلمح في وجهها علائم البشر والاغتباط لتدرك لماذا تسرع في خطاها. . إنها على موعد من حبيبها. .
إنها سعيدة، ولما كانت سعيدة أصبحت تعتقد أن الناس كلهم سعداء مثلها. . . ولكن انظر إلى هذه الطفلة الفقيرة النائمة على طوار الشارع بجانب الحائط، لا يمكن أن تكون سعيدة وهي على هذه الحال من البؤس، أحست نحوها الفتاة بحنو شديد حتى فكرت في تبنيها. . . ربما تبنتها لدى عودتها من الموعد. . ها هو أيضاً كلب لا يمكن أن يكون سعيداً، لأنه مجروح، يتألم من جرحه، فقد قذفه أحد الأطفال الأشقياء بحجر فأدماه، تود الفتاة لو أنها تحمله إلى الصيدلية لتضميد جرحه، ولكنها مع السف متعجلة، فهي على موعد من حبيبها، وقد تأخرت عنه، فالموعد في الساعة السادسة، والساعة الآن ست عشرة. . . مسكين حبيبها لابد أنه قلق من طول الانتظار! إنها ترغب في ركوب سيارة لتدركه بسرعة، ولكنها تخشى أن يرفض سائق السيارة توصيلها، لأن المكان الذي ينتظرها فيه الحبيب قريب جداً، فهو على خطوات منها. . تنتقل الفتاة إلى الطوار الآخر، تخترق الطريق وهو غاض بالحركة دون أن تنتظر إشارة الشرطي المؤذنة بالمرور. . حقاً! إن أمر هذه الفتاة عجيب! ألكونها تحب تظن نفسها معصومة من الأخطار؟ تدخل المقهى حيث ضرب لها حبيبها موعداً. . . . . إنها تحس بدوار خفيف عندما وضعت رجلها على عتبة المكان، إن قلبها أيضاً ليس في حال طبيعية، أنه يخفق بسرعة، إذ هو أشد منها رغبة في ملاقاة الحبيب، ولكن لماذا تجهم وجه الفتاة فجأة؟ لماذا؟ لم تجد حبيبها في المقهى، بحثت عنه في كل ركن ولكن بدون فائدة، إنها تحس خوراً في قواها، لذلك جلست هناك إلى مائدة، ثم أخذت تنظر إلى ساعتها اليدوية التي أشار عقربها إلى السادسة والثلث، ثم نظرت إلى ساعة المقهى الكبيرة المعلقة في صدر المكان، كأنها لم تقتنع بساعتها، فإذا هي أيضاً السادسة والثلث. . . تنادي الخادم فتسأله: هل ساعة المقهى مضبوطة؟ فيؤكد لها الخادم ذلك. . علامَ هذا القلق؟ علامَ؟ إن الحبيب سوف يحضر. . . لعل طارئاً قد عاقه. . . إنها تطلب فنجاناً من القهوة لتهدئة أعصابها، ولكن تأتي القهوة وأعصابها ما زالت مضطربة. . . تتناول مجلة لتلهى بها نفسها ولكنها تعيدها بعد برهة إلى مكانها، لأنها لا تفهم ما تقرأه، مع أن المجلة ليست علمية صعبة، بل هي تتحدث عن نجوم (هوليود). .
تعود الفتاة إلى إرهاق ساعتها، تنظر إليها مرة، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم تعيد النظر في ساعة المقهى. . ربّ! كيف مر الوقت بهذه السرعة؟ إن العقرب أشرف على السابعة! هل داخل الساعة شيطان يا ترى يعجل الوقت لإغاظة الفتاة؟ يأتي الخادم وقد رآها قلقة، فيسألها: هل تنتظرين أحداً يا سيدتي؟ فتجيبه متلهفة بالإيجاب، ثم تعطيه علامات الحبيب لعله يكون قد رآه، ولكن الخادم آسف لأنه لم يشاهده. .
تتأهب لمغادرة المقهى إذ يئست من الانتظار، تغادر مكانها وهي أشد حزناً من حمامة هجرها أليفها، ولكنها تعود ثانية إلى المقهى فقد نسيت أن تؤدي قيمة ما شربته. . تقف برهة على الباب، إذ عساه يحضر. . ثم تطأطئ رأسها وتنصرف. .
تعود إلى المنزل، ولكنها تسلك هذه المرة طريقاً أخرى غير الطريق الأول، لأنها لم تعد ترغب بعد في تبني الطفلة الفقيرة، ولا في تضميد جرح الكلب. تدخل حجرتها فترتمي على السرير لأنها تحس بتعب شديد كأنها صعدت جبال (الهملايا) مع أنها في الواقع مشت قليلاً. . ليس ما بها من التعب، بل من الحزن، الحزن العميق. . .
تركت باب الحجرة مفتوحاً لتسمع التليفون إذا دق، فهي تأمل أن يعتذر الحبيب إليها. . . يدق التليفون فتسرع إليه، كما يسرع الغريق إلى قارب النجاة. . . . يالخيبة! ليس هو الحبيب الذي يتكلم، بل هو إنسان آخر قد أخطأ الرقم، يدق التليفون من جديد فتهرع إليه الفتاة، فإذا المتكلم سيدة تسأل عن (س) الجزار. . .! ثم يدق التليفون مرة ثالثة، في هذه المرة هو الحبيب الخاطب المتكلم، لأن الفتاة اغتبطت فجأة اغتباطاً عظيماً كأنها ربحت اليانصيب الايرلندي. . . الخاطب يسألها عن سبب تأخرها لأنه ظل ينظرها ساعتين كاملتين في المقهى، وكان أنظاره في المقهى آخر، إذ اخطأ اسم المكان، الفتاة تسرع في الذهاب إليه، وقد زال عنها تعبها في غمضة عين، إنها تنهب الدرج نهباً أثناء النزول، فتزل قدميها وتسقط سقطة مؤلمة، ولكنها لا تحس ألماً، بل تضحك من أجل هذا ضحكاً متواصلاً. ثم أخذت تفكر مرة أخرى في تبني الطفلة الفقيرة، وفي إسعاف الكلب الجريح!. .
كرمة ابن هاني
حسين شوقي
-