مجلة الرسالة/العدد 95/إلى الشاب المسلم المثقف
مجلة الرسالة/العدد 95/إلى الشاب المسلم المثقف
الإسلام دين القوة
بقلم أحمد بديع المغربي
أستاذ الاجتماعيات بالمدرسة الثانوية بالموصل
طفا على الجزيرة العربية نور سماوي تسرب إلى القلوب المغلقة فاقتحم أقفالها ونفذ إلى الضمائر الميتة فبعث فيها حياتها، وتغلغل في أحشائها فبدد ظلماتها. وصحب هذا النور صوت عربي ينادى بالإسلام تعالى في أرجائها، فجمع أشتاتها وألف بين قلوبها
(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم أنه عزيز حكيم).
قبائل بدوية متنافرة أعمى الجهل أبصارها، وعشائر رحل متناحرة مزق الغزو وحدتها، وهدد السلب والنهب كيانها؛ نفوس أبية رضعت لبان الحرية منذ طفولتها، وتنشقت هواء البادية المشبع بروح الأنفة والكبرياء والشمم والإباء منذ أن شبت عن أطواقها
هذه القبائل المتنافرة، وتلكم العشائر المتناحرة، ما استطاعت أن تجد من نفسها حولاً ففاضت دموعها خشوعاً وإجلالاً، وخرت للأذقان سجداً، وانصاعت لذلك الصوت الدوي الذي اخترق آذانها الصماء، وانقادت قلوبها الغلف طوعاً لذلك النور السماوي الذي غمرها بالضياء. . .
(إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا)
(وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)
فتحولت من الضعف إلى القوة، وانتقلت من التفرقة إلى الوحدة، واستبدلت بالتخاذل ائتلافاً، وبالجهل والوحشية علماً ومدنية، وارتفعت من أسفل دركات الشرك والإلحاد، إلى أعلى درجات التوحيد والإيمان
ثم هبت من باديتها الفسيحة الأرجاء الممتدة الأطراف هبوب العاصف الزعزع، متكاتفة متراصفة، متحدة متضامنة، فعصفت الممالك التي اعترضت سبيلها عصفاً ودكت المعتقدات الدينية البالية دكاً، وحطمت العروش المستبدة الجائرة تحطيماً! ولم يمض عليها القرن، إلا قليلاً، حتى قيض الله لها أن ترفع راية الإسلام وتنشر ألوية السلام من أقصى البرنات إلى حملايا، ومن بوادي أواسط آسية حتى صحارى أواسط أفريقية؛ وما كنت تسمع صبحاً وظهراً وعصراً مغرباً وعشاء، إلا صوت المؤذن داعياً بقلب عامر بالإيمان: -
الله أكبر!
أشهد أن لا اله إلا الله!
أشهد أن محمداً رسول الله!
فيتقاطر المؤمنون كالموج الزاخر، متدافعين متسابقين، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، إلى بيت الله، بيت الأمة، بيت الديمقراطية الحق؛
فما السر في تهافت العرب والأمم التي دانت للعرب على الإسلام؟!
إنه، وأيم الحق، لسؤال تقف دون تفسيره العقول النيرة حيارى. ولئن حاولنا في رسالتنا إلى الشاب المسلم المثقف أن نجلو هذا السر الغامض ونعلل هذه المعجزة الكبرى فإنما نحاول أن نظهر ناحية واحدة من نواحيها المتشعبة، هي (القوة في الإسلام): -
1 - القوة في المبدأ
2 - القوة في الاتحاد
3 - القوة في الأخلاق
4 - القوة في الشخصية؛
وهي الناحية التي يفتقر إليها المسلمون في تنظيم شئونهم في هذا العصر، عصر القوة، بل عصر تنازع البقاء وبقاء الأنسب، حتى يتسنى لهم أن يعيدوا مجداً كاد يندثر، بما منيت نفوسهم من خور العزيمة، وضعف الهمة، وتذبذب الاهواء، والميول، وميوعة الأخلاق، وانحلال الشخصية، متوسلين إلى الله عز وجل أن يهدينا وإياهم سواء السبيل
1 - القوة في المبدأ
تأمل، رعاك الله، في تلك الوفود القرشية العربية التي هرعت إلى أبى طالب بعد أن ضاقت صدورها من سب الرسول ﷺ آلهتها وآباءها، وبعد أن عيل صبرها من تسفيه أحلامها مهددة متوعدة ليكفه عنها، أو تنازله وإياه حتى يهلك أحد الفريقين، ثم أرجع البصر فيما جرى بين الرسول الكريم وعمه الجليل حين أنبأ ابن أخيه بما قالت قريش: -
(ابق على نفسك وعلي ولا تحملني من الأمر مالا أطيق)
يتجلى لك بصورة لا يداخلها الريب ما انطوت عليه نفس رسولنا الأعظم وزعيمنا الأكبر من قوة الثبات في المبدأ: -
(والله، يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه. . . ما تركته!)
وتبصر ما أصاب المسلمين الأولين من الاضطهاد والعذاب، وما تجشموه من المشاق والصعاب، من تعذيب المشركين لهم بحر الرمضاء وبقر بطونهم بالحراب في سبيل الدفاع عن هذا المبدأ، ثم أخل إلى نفسك وانظر ما أنت عليه اليوم وما كانوا عليه أمس!
2 - القوة في الاتحاد
إذا تدبرت مبدأ الفاشيست علمت أن شعار موسوليني ومشايعيه ذوى القمصان السود: (الفأس وحزمة العصي).
والفأس رمز الدولة، والعصي الأفراد الذين يؤلفونها، والفرد، في نظرهم قوى بجماعته، ضعيف بمفرده؛ مثله في ذلك مثل العصا يسهل كسرها بمفردها، ولكن الصعوبة كل الصعوبة في كسرها إذا ما ضمت إلى أخواتها. والفاشستيه تنحصر فلسفتها في فناء الأفراد في الدولة وانحلال شخصياتهم فيها. ولماذا نذهب بك إلى الفاشستية ولدينا ديننا الإسلامي، دستور الحضارة والإنسانية، ففيه الأمثلة المتعددة على أن حياة الشعوب في تضامن أفرادها واتحادهم. قال الله في كتابه العزيز: -
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبلْ الله جمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا؛ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إذ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعمتِهِ إِخْوَاناً)
- سورة آل عمران.
(وَأطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيُحكُمْ) - سورة الأنفال
(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ اَقْتَتَلُوا فَاَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) سورة الحجرات
(إِنما المؤْمنُونَ إِخْوَةٌ فَاَصلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ) - سورة الحجرات وقال منقذنا الأعظم رسول الله ﷺ: -
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)
(لا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا)
لا تختلفوا فإن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)
(المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)
فليتق الله، عباد الله، الذين يعملون على التفرقة ويسعون إلى التجزئة فإن في ذلك الخسران المبين.
3 - القوة في الأخلاق
وإنما الأممُ الأخلاق ما بَقِيَت ... فإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقهُمْ ذَهَبُوا
(إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) - سورة النساء
(ولا تمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إنَّكَ لَنْ تخرقَ الأرْضَ ولَنْ تبلغَ الجبالَ طولاً) - سورة الإسراء
(وَلاَ تُصَعِّرْ خَدّكَ لِلنَّاسِ ولا تمشِ في الأرْضِ مرحاً، إنّ اللهَ لا يحبُّ كلَّ مُختال فَخورٍ؛ واقصِدْ في مَشْيِكَ واغْضُضْ منْ صوتِكَ؛ إنّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير) - سورة لقمان
وقال رسولنا الأعظم: -
(بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)
(إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)
يقول الله عز وجل: - (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منها ألقيته في النار)
ألا فليعلم أولئك الضعاف العقول الذين إذا تبوأوا منصباً رفيعاً شمخوا بأنوفهم وصعروا للناس خدودهم، واشتطوا في غرورهم وكبريائهم؛ إنهم مهما ما بلغوا من السلطان والجبروت، لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولاً!
أين انتم يا مساكين من رسول الله وحبيبه ﷺ، من شهد الله وأثنى على خلقه العظيم! (هَوّنْ عَلَيْكَ، يَا رَجُل؛ فإنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديدَ في مكة!)
بمثل هذا القول الكريم خاطب نبينا المصطفى ذلك الرجل البائس الذي أصابته رعدة لدن دخوله عليه وبمثل هذا الخلق المتين استعبد الإسلام قلوب الناس!
4 - القوة في الشخصية - الشجاعة والأقدام
إن التواضع لا يناقض الشجاعة والأقدام، فكما أن القرآن الكريم حث المؤمنين على التواضع، واعتبره من الأسس المتينة التي تقوم عليها الأخلاق القويمة، كذلك أمرهم أن يصمدوا لأعدائهم ويدافعوا عن كرامتهم ويذودوا عن أوطانهم، ويصدوا من تسول له النفس الاعتداء عليهم ما استطاعوا من قوة يرهبون بها خصومهم وأعداءهم، حتى هدد الجبناء الذين يفرون من القتال والجهاد بغضبه ونقمته، كما نستدل من الآيات الكريمة التالية: -
(وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذين يقاتلوكم ولا تعتدُوا إنّ الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثَقِفْتمُوهُمْ وأخْرِجوهم من حيث أخرجوكم) - سورة البقرة
(يا أيها الذين آمنوا إذا لَقِيتم فِئة فاثبتوا) - سورة الأنفال
(وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل. ترهبون به عدو الله وعدوكم) - سورة الأنفال
(يا أيُّها الذين آمنوا إذا لَقِيتم الذين كفروا زحفاً فلا تُوَلّوهُم الأدبارَ. ومن يُولِّهِمْ يَومئذٍ دُبرَه إلاّ مُتحرِّفاً لقتال أو متحيزاً إلى فِئةٍ فقد باءَ بغَضَبٍ من اللهِ وَمأْوَاهُ جهنَمُ وَبِئْسَ المصِير) سورة الأنفال
وجاء في الحديث الشريف عن الرسول ﷺ مخاطباً سيدنا علياًُ كرم الله وجهه: -
(يا علي! كن شجاعاً فإن الله يحب الشجاع)
كذلك حرض المصطفى المؤمنين على الاتصاف بصفات الرجولة الكاملة، ولعن الشباب المائع المتخنث، كما لعن تلك الفتيات المتشبهات بالرجال
(لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)
والآن وقد انتهينا من محاولتنا إثبات أن الإسلام دين القوة؛ القوة في المبدأ، والقوة في الاتحاد، والقوة في الأخلاق، والقوة في الشخصية؛ لابد لنا قبل أن نختم رسالتنا أن نلفت أنظار شبابنا المسلم المثقف إلى الملاحظات التالي:
1 - كن أيها الشاب المسلم، وكوني أيتها الفتاة المسلمة، مثلاً طيباً في قوة المبدأ. ليضع كل منكما هدفاً واحداً أمام عينيه هو توحيد الأمة الإسلامية، يعمل على تحقيقه بكل ما حباه الله من قوة الشباب غير عابئ بما يعترض سبيله من عقبات كأداء، أو مكترث لما يحاول بعض المغرضين الدساسين من تثبيط همته القعساء
اعمل يا أخي المسلم، اعملي يا أختي المسلمة على نشر مبدأ الاتحاد والوحدة أينما كنتما وحيثما حللتما، وألقما حجراً كل من تسول له النفس أن يثنيكما عن عزمكما
2 - اقتديا برسولنا الأعظم سيد المرسلين، وزعيمنا الأكبر خير العالمين في تقويم ما اعوج من أخلاقكما، فإن أمتكما العربية أحوج ما تكون في تحقيق ما تصبو إليه من الآمال إلى شباب يمتازون بثبات الجنان، ولبن الجانب، وقوة الإرادة، ومضاء العزيمة
3 - ليتعصب كل منكما لمبادئه الدينية، وليتمسك بعقائده الإسلامية، وليحافظ على تقاليده العربية، فإن الأمة التي تتسامح في مبادئها، وتتساهل في عقائدها، وتنكر تقاليدها مقضي عليها بالانحلال والاضمحلال.
الموصل - العراق
أحمد بديع المغربي