انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 949/رسالة المربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 949/رسالة المربي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 09 - 1951


3 - رسالة المربي

الطريقة العملية - مميزاتها - الطريقة العلمية - عملية النمو

للأستاذ كمال السيد درويش

لجأ رجال التربية إلى الطريقة الطبيعية السيكولوجية يبحثون خلالها عن الطريقة العملية التي يمكن اقتباسها لإدخالها في المدرسة الحالية.

لقد زودت الطبيعة الإنسان بغرائزه ففرضت عليه أن يتعلم سواء أراد أم لم يرد. . . أفلا تكون قد زودته في نفس الوقت بالطريقة العملية التي نحن بصدد البحث عنها وعن مميزاتها؟ قد نجدها لدى الإنسان حين يستجيب لغرائزه. ولكن الإنسان الحالي المتحضر يتحكم في تسيير سلوكه مراعيا في ذلك تقاليد المجتمع الحالي فلا يسمح لغرائزه بالظهور في شكلها الطبيعي إلا بمقدار ما اصطلح المجتمع على السماح به.

ولذلك يجب علينا أن لا نبحث عن الطريقة الطبيعية للتعلم لدى هذا الإنسان المتحضر المتكلف؛ والذي يظهر غير ما يبطن ويعمل غير ما يشتهي. وإنما يجب علينا أن نبحث عنها لدى الإنسان البدائي الذي يعيش على الفطرة أو لدى الطفل الناشئ الذي يطلق على سجيته ولا يعبأ بمن حوله من الناس. ولو نظرنا إلى الطريقة الطبيعية التي يتعلم بها الإنسان البدائي أو الطفل الناشئ لوجدنا أنها طريقة عادية جدا؛ طريقة طبيعية تتمشى مع الطريقة السيكولوجية. يتعلم الطفل في منزله كل شئ، يتعلم الكلام ويتعلم المشي ولكن كيف؟! لم يطلب إليه والده أن يتهيأ ليأخذ دروسا في الكلام أو في كيفية الأكل وهلم جرا كما تفعل مدارسنا الحالية؛ ولكنه اقتبس ذلك كله دون أن تشعر الأسرة بكيفية تعلمه. هو يتعلم عن طريق غير مباشر، عن طريق حياته في الأسرة وعن طريق تفاعله معها. هو في حاجة إلى أمه دائما لأنت لديها الثدي مصدر غذائه. فإذا ابتعدت عنه أمه لتقضي عملا ما، شعر بحاجته الماسة إلى ندائها. قد يلجأ إلى البكاء ولكن البكاء قد يؤدي إلى مجيء الأخ أو الأخت أو الوالد فهل يجد بغيته عندهم؟! كلا. هو يريد أمه بالذات دون غيرها. وعلى ذلك فهو مضطر إلى ندائها. وهكذا ينطق كلمة (ماما) أو هكذا يتعلم الطفل كيف يتكلم. مشكلة تثور في وجهه؛ مشكلة حيوية بالنسبة له تضطره إلى التفكير في حلها والتغلب عليها. ويشعر الطفل أثناء ذلك بقيمة ما يتعلمه فلا عجب إذا رأينا سلوكه خلال ذلك سلوك تلقائيا. فهو ينطق بمحض رغبته ويتعلم بمحض إرادته، ثم سرعان ما نجده يستعمل ذلك العلم - الذي كان غرضا في أول الأمر - وسيلة لتحقيق أغراض حيوية أخرى ترتبط به. فكلمة ماما سرعان ما تجر معها غيرها من الكلمات (عاوز ماما) وهكذا.

هذه هي الطريقة العملية للتعلم داخل الأسرة وهي نفسها الطريقة الموجودة لدى الإنسان البدائي ولدى الطبقات التي ما زالت حتى اليوم تعيش على الفطرة. يصبح الابن فيشاهد والده متوجها إلى الحقل فيسأل: لماذا؟ ويذهب مع والده فيراه وهو يزرعه. ينظر إليه أولا ثم سرعان ما يشترك شيئا فشيئا، في حراسة المواشي وإطعامها أو في السير خلف المحراث، وهكذا يشترك اشتراكا عمليا في الزراعة فيتعلمها لأن عليها تتوقف حياته وحياة أسرته. لقد امتص واشتق جميع ما يلزمه من معلومات حتى أصبح في النهاية فلاحا أصيلا مع أنه لم يتلق أي درس في أصول الزراعة.

هذه هي الطريقة الطبيعية العملية السيكولوجية التي يمكن أن نلاحظ عليها الميزات الآتية:

1 - إن المتعلم يبدأ فيها كنتيجة لاعتراض مشكلة ما سبيل التعلم، وإن مدى استجابته لها يتوقف على مدى حيويتها بالنسبة إليه.

2 - إن نزوع المتعلم إلى حل مشكلة نزوع تلقائي نابع من ذات نفسه وغير مفروض عليه من الخارج.

3 - إن ظاهرة التغير - لا الجمود - هي التي تلازم سلوك المتعلم، وإن المعلم هو الذي يسيطر على تغيير سلوكه حتى يصل إلى تحقيق هدفه النهائي.

4 - حيوية المادة التعليمية وثبوتها وعدم قابليتها للنسيان وكيف يمكن أن تنسى وقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان.

5 - إن المتعلم يتعلم فيها عن طريق غير مباشر بمعنى أن التعليم ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو فرض يتحول إلى وسيلة ترمى إلى تحقيق هدف جديد. . يغدو بدوره وسيلة أخرى تفتح أمام الإنسان آفاقا جديدة وهكذا تظل المعلومات مستعملة باستمرار فتظل لذلك دائما أبدا خبرة حية نابضة في القلوب والأذهان.

6 - إن ظاهرة النمو والاستمرار في التعلم صفة أساسية في الشخص الذي يتعلم بهذه الطريقة؛ لن ينقطع تعلمه ما دام يحيا ويعيش وسيظل يطلب العلم من المهد إلى اللحد.

7 - إن الناحية العملية تغلب على هذه الطريقة. فالطفل داخل الأسرة كالإنسان البدائي في الغابة وكالفلاح في الحقل يعتمد على الناحية العملية في تعلمه إلى حد كبير.

لقد تعلم الطفل النطق لينادي أمه وقد استجابت لندائه فانحلت المشكلة. . ولكن ماذا يفعل إذا ناداها فلم تلب النداء؟! هذه مشكلة جديدة تستدعي منه التفكير والعمل على حلها. قد يحاول الذهاب إليها بنفسه سعيا على أربع. . ولكن المشي أفضل لأنه أسرع فليتعلمه هو الآخر. وهو في كل هذه الأحوال يتعلم بطريقة عملية؛ يقع حينا ويسير حينا آخر. إن الطريقة الطبيعية ذات مظهر عملي يتجلى بوضوح في ممارسة المتعلم بنفسه لما يتعلمه.

8 - إن هذه الطريقة تتمشى مع الطريقة السيكولوجية بمعنى أنها تستند إلى غرائز الإنسان. فنداء الطفل لأمه مصدره حافز غريزي هو البحث عن الطعام.

9 - إن هناك تماثلا وتشابها بين هذه الطريقة وبين الطريقة العلمية الحديثة؛ تلك التي وصل إليها علماء العلوم التجريبية مثل علماء الطبيعة أو الكيمياء، والتي تعتبر في الحقيقة سر ازدهار وتقدمهذه العلوم بل وسيطرتها على توجيه دفة الحضارة الإنسانية في العالم بأسره. تلك الطريقة التي لا تؤمن إلا بالتجارب لأنها سبيل التأكد من صحة الفروض. ولو نظرنا إلى موقف الطفل أثناء تعلمه لوجدناه يشبه في طريقة تعلمه إلى حد كبير جدا عالم الطبيعة أو الكيمياء أثناء تجاربه داخل معمله. ينادي الطفل أمه فتستجيب إليه أحيانا ولكنها أحيانا لا تستجيب. عند ذلك يجرب طريقة أخرى غير النداء. . . يلجأ إلى الحبو ولكن الحبو بطئ. عند ذلك يلجأ إلى المشي. . وهكذا يستمر في تعلمه؛ يجرب هذه الطريقة ثم يتركها إلى غيرها وهكذا. وهو في أثناء تجريبه يحذف الخطأ فلا يتقيد به ويحتفظ بالصواب ويستمسك ما دام يحقق أغراضه في الحياة. وكذلك شأن العالم في معمله بين الغازات والمساحيق وبين الأواني والمخابير. يختبر خواص الأكسجين مثل فيعرف أنه يساعد على الاحتراق. قد يجرب اكتشاف صفات أخرى فإذا لم يجد احتفظ بهذه الصفة المتميزة. ولكن لا يقف عند تحقيق غرضه واكتشافه. . بل يتخذ من هذا الاكتشاف وسيلة إلى تحقيق أغراض أخرى وقد نجح فعلا في استخدام الأكسجين في عمليات اللحام وفي صهر المعادن. وما لنا نذهب بعيدا وقد كان تحطيم الذرة غرضا يتجه إليه العلماء فأصبح الآن وسيلة إلى استخدامها في التدمير كما تبذل الجهود الآن لاستخدامها كوسيلة من وسائل البناء والتعمير.

ألا يحق لنا بعد توضيح هذا التماثل والتشابه بين الطريقتين الطبيعية والعلمية أن نقول إن الطريقة التي يتعلم بها الطفل أو الإنسان البدائي هي طريقة علمية أيضا؟!

لقد وضحنا مميزات الطريقة الطبيعية التي يتعلم بها الطفل داخل الأسرة، ولكننا لم نوضح بعد موقف ولي الأمر في الأسرة من الطفل خلال تعليمه، وكيف يكون؟ فإن ذلك بالنسبة لنا كمربين من الأهمية بمكان حتى نستنتج حدود رسالة المربي كما يجب أن تكون.

أما موقف الأم من ابنها فهو تمهيد السبيل أمامه حتى يستطيع السير فيها. تسدد محاولاته بإرشاده وتصحيح كلامه. تصحيح خطواته هو، وإرشاده إلى مواضع الخطأ في كلامه هو. هي لا تفرض عليه كلاما معينا أو السير وفق خطوات مرسومة. تصحح كلماته وجمله حتى تساعده على التعبير عما يجول بذهنه هو من رغبات وآراء قد تبدو مضحكة بالنسبة لنا ولكنها حيوية بالنسبة إليه. وتقف الأم نفس الموقف من طفلها حين يتعلم المش تحوطه بعنايتها وتقيه ما قد يتعرض له من أخطار. تترك له الحرية في المشي ولكن بعيدا عن أماكن السقوط. تأخذ أولا بيديه ثم بإحدى يديه، ثم تتركه ولكن وهي أقرب ما تكون إليه حتى إذا اختل توازنه استند إلى صدرها الحنون.

موقف الأم، هو موقف الممهد المعبد المذلل للعقبات، لا موقف المتحكم المسيطر المتربص للزلات.

هذا هو الموقف الذي يجب أن يقفه المربي ممن يتعلم على يديه. وقد شبه بعض العلماء تعهد المربي لتلميذه وهو يتعلم، كتعهد الزارع لنباته حين ينمو، وشبهوا نمو التعليم في هذه الحالة بنمو النبات. تنو الشجرة منذ أن كانت بذرة في باطن الأرض إلى أن تذبل وتموت. كذلك يجب أن يشبه التعليم النبات في نموه؛ فيستمر من المهد إلى اللحد، والنمو في النبات نمو تلقائي. تنمو الشجرة من تلقاء نفسها وبنفسها، ولا يستطيع الزارع إصدار الأوامر إليها بالنمو سريعا أو بطيئا، وكذلك يجب أن يكون نمو المتعلم تلقائيا أيضا.

ولا يترك النبات مع ذلك هكذا دون عناية؛ بل إن الزارع يحوطه بعنايته دائما ويلازمه خلال أطوار نموه، وهكذا يجب أن لا نترك المتعلم نفسه.

والنمو في النبات عملية مشتركة بين الزارع وبين النبات. . وكذلك يجب أن يكون التعليم عملية نمو متواصل مشترك بين المعلم والمتعلم.

ويشبه موقف الزارع من النبات الموقف الذي يجدر بالمربي أن. . يقفه فالزارع لا يترك نباته حرا ينمو كما يشاء، وإلا اعوج عوده، وما استقام له ظل قط. كما أنه لا يتركه بمفرده ليقاوم آفات الزراعة من ديدان وحشرات، وإلا كان معنى ذلك أنه يتركه ليموت. وكذلك لا يجدر بالمربي أن يترك تلميذه هكذا حرا يفعل ما يشاء، ولكن ليس معنى ذلك أيضا أن يقيد حريته ليتحكم فيه ويستعبده، وهل يتحكم الزارع في النبات فيطلب من بذور الجرجير أن تنتج تفاحا، أو يأمر القمح بالنمو سريعا حتى يحصده بعد شهر، بينما هو يحتاج إلى شهور؟! كلا ولكنه يرعى نباته ويقف منه في نموه موقف المدافع عنه ضد كل ما يعوق سير هذا النمو المتصل. يلتقط الديدان ويحرقها، ويجلب السماد، ويمنح نباته الماء ولكن بمقدار، وفي ميعاده بالذات. وكذلك المربي سواء كان ولي أمر أم غيره، يجب ألا يصدر الأوامر إلى ابنه بأن يصبح طبيبا أو مهندسا، وألا يجبره على تعلم ما لا يريد، وأن لا يحرمه من تعلم ما يريد. وإنما يجب على المربي أن يقدم للمتعلم ما يطلبه بنفسه من زاد علمي، وأن يزيل من طريقه العقبات حتى يستمر في تعلمه وإشباع ميوله ورغباته. . وهذا يضطر المربي إلى التفكير فما يجب تقديمه للمتعلم، فيعمل هو الآخر ويشترك. . وتيسر عملية التعلم سيرها الطبيعي: نمو مشترك وعمل متواصل من جانب المتعلم والمعلم، وكما أن النمو هو دليل الحياة في النبات. فهو كذلك دليل على حياة المتعلم أيضا.

للكلام صلة

كمال السيد درويش

ليانسيه الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي مدرس

بالرمل الثانوية