مجلة الرسالة/العدد 948/لبيد يعدد سنى حياته
مجلة الرسالة/العدد 948/لبيد يعدد سنى حياته
للاستاذ عبد القادر رشيد الناصري
هذا شاعر جاهلي من الذين يتصف شعرهم بالفخامة والقوة والبداوة، وقلة الحشو وقوة اللفظ، ولد في الجاهلية وعاش حتى ادرك الاسلام فأسلم كما يقول:
الحمد لله اذ لم يأتنى اجلى ... حتى اكتسيت من الاسلام سربالا
اما اسمه فلبيد بن ربيعة من بنى عامر بن صعصعة وهي قبيلة مضرية، واما ترجمته فميسورة لكل اديب، كتب عنه صاحب الجمهرة، والشعر والشعراء، والمزهر، لذلك سنضرب عنها صفحا. ولكن الذي يهمنى هو الوقوف عند شعره الجزل الذي عدد فيه سنى حياته. اذ لا اظن في العربية تطرق الى هذه الناحية عداه.
وقد عمر هذا الشاعر طويلا حتى ان الروايات اختلفت في تاريخ وفاته، فقد قال بعضهم انه عاش 140 عاما وقال بعضهم انه عمر حتى سنة 41 هـ ومات في زمن خلافة معاوية بن ابي سفيان وعمره انذاك 175حتى انه سئم الحياة فقال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وكيف لا يتطرق السأم الى نفس رجل طال عمره الى ما بعد المائة بنصف قرن سبقه زهير بن ابي سلمى فقال يصف سأمه وهو في الثمانين:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا ابالك يسأم
ولبيد هذا ذكره شوقي في رائيته الرائعة عن ابي الهول:
وشكوى لبيد لطول الحياة ... ولو لم لتشكي القصر
وهي قصيدة تعد من عيون الشعر العربي ومن مختارات ابي على بل من افخم ما نظمه في حياته
ولبيد هذا اشار الى منزلته ومكانته في الشعر الامام الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزرى ... لكنت اليوم اشعر من لبيد
كما نوه باسمه ابو تمام استاذ الشعر حين قال من قصيدة يمدح ابا عبد الله احمد بن ابي دؤاد
ظنوا فكان بكاى حولا بعدهم ... ثم ارعويت وذاك حكم ان كان مسعود سقى اطلالهم ... سيل الشؤون فلست من مسعود
ومطلع هذه القصيدة:
ارايت أي سوالف وخدود ... عنت لنا بين اللوى فزرود
قلنا ان الرواة اختلفوا في المدة التي عاشها هذا الشاعر وهذا لا يهم ما دام نفسه قد سجل عمره فقد قال وهو في العشرين:
كأني وقد جاوزت عشرين حجة ... خلعت بها عن منكبي ردائيا
واذا علمنا انه في الايام الاخيرة أي بعد اسلامه انقطع عن النظم وانه اقام بالكوفة حتى مات، وعندما وصلت به السن الى العام العاشر بعد المئة قال:
اليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
علمنا صحة ما ذهب اليه بعض الرواة من انه اكمل قرنا ونصف القرن، وهي حياة طويلة بالنسبة لغيره من المعمرين في الجاهلية والاسلام.
فقد قال وسنه انذاك 77 مخاطبا نفسه:
باتت تشكي الى الموت مجهشة ... وقد حملتك سبعا سبعينا
فان تزيدي ثلاثا تبلغى املا ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا
شعر جميل بالرغم من وجود اشباع في لفظة تزيدي من صدر البيت الثاني كما يقول العروضيون.
ثم درجت به السنون حتى اشرف على قمة الثمانين فهتف من اعماق قلبه:
ان الثمانين ـ وبلغتها ـ قد احوجت الى ترجمان
يا لله من روعة لفظة وبلغتها، ويالسحر هذا الحشو الرائع!
بالشاعر الارض حتى اشرفت به على التسعين فصاح صيحة المنهوك الحائر:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة ... خلعت بها عنى عذار لجامي
رمتنى بنات الدهر من حيث لا ادري ... فكيف بمن يرمي وليس برامي
فلو اني ارمى بنبل رأيتها ... ولكنني ارمي بغير سهام
الا يرى القارىء هذه الصورة التي وصفها لبيد (رجل اعزل من السلاح يرمي بنبل لا يراها ولكن يحس بوقعها) الا يشعر بالالم؟ الا يستحق الرثاء!! الم تكن هذه السنوات الطوال التي مرت عليه باعبائها واثقالها سهاما قاتلة ولكن غير منظورة!.
اتعجب بعد هذا منه اذا ما ضاق ذرعا بالحياة. . فهتف بذلك الشعر الجزل الحزين؟
وراح الزمن يسير واذا بالشاعر يلتف الى وراء فيرى انه قطع سنوات طويلة حافلة بالعجائب، واذا به كما قلت يصل الى العاشرة بعد المائة فيقول:
اليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
وهو عمر طويل حقا ولكن ما يقول اذاجاوزها؟ اسمه وقد مضت عليه عشرون بعد المئة كما يقول الرواة ـ ولكنه انذاك لا يسجل ـ السنين كما سجلها من قبل يصرخ صرخة: العزاء
ولئن كبرت لقد عمرت كأننى ... غصن تفيؤه الرياح رطيب
وكذلك حقا من يعمر يفله ... كر الزمان عليه والتغليب
مرط القذاذ غليس فيه مصنع ... لا الريش ينفعه ولا التعقيب
ويريد بهذا ان الذي يقطع تلك الفجوة الطويلة من الحياة يصبح كالطائر الذي نتف شعره من جراء كر الزمان عليه وكثرة ما مر عليه من عواصف الحياة، فكيف يستطيع بعد ذلك الطيران؟!
ويقول الرواة او شعره على الاصح انه عندما احس بالموت يدنو منه، وان حياته ستختم. . نظر الى اولاده وهم حوله يبكون فقال:
تمنى ابنتاي ان يعيش ابوهما ... وهل انا الا من ربيعة او مضر
وفي ابنى (نزار) اسوة ان جزعتما
وان تسألاهم تخبرا فيهم الخبر
فقوما فقولا بالذى قد علمتما ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا خليله ... اضاع ولا خان الصديق ولا غدر
الى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
نعم هو من ربيعة ومن مضر، وكيف ينكر الموت وهو الرجل المؤمن الذي يقول عنه الرواة ان رسول الله (ص) قال فيه (اصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد) ويعني قوله: الا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وهو نفسه يقول في شيخوخته:
ان تقوى ربنا خير نفل ... وباذن الله ريثى والعجل
احمد الله ولا ند له ... بيديه الخير ماشاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء اضل
والذي يقول:
وما المرء الا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعدما هو ساطع
وما المال والاهلون الا ودائع ... ولا بد يوما ان ترد الودائع
وما الناس الا عاملان: فعامل ... يتبر ما يبنى، واخر راقع
والقائل يصف الموت ايضا:
وكل اناس سوف تدخل بيتهم ... دويهية تصفر منها الانامل
فهل بعجيب اذن لا يطلب من بنتيه ان لا تعجبا من موته؟
اسمعه وقد سئل عن رأى الناس فقال:
المرء يدعو للسلام وطول عيش قد يضره
= كم شامت بي ان هلكت وقائل لله دره
ولكن ما يهم الميت الذي ينفض الحى ترابه من راحته ان يقول فيه ما يقول؟ اليس الموت غاية الحياة؟ او ليس الناس اثنين اما قادح او مادح.
وبعد هذه كلمة قصيرة ذكرنا فيها طرفا من شعر لبيد الذي سجل فيه سنى حياته، ولبيد هذا من الشعراء البارزين في الجاهلية فقد جاء في الصفحة 297 من الجزء الثاني من المزهر (وسئل لبيد من اشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل ثم الشاب القتيل (طرقة) ثم الشيخ ابو عقيل ويعنى نفسه) وهو صاحب المعلقة الشهيرة:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأيد غولها فرجامها
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زير تجد متونها اتلامها
فرقفت اسالها وكيف سؤالنا ... صما خوالد ما يبين كلامها
ومنا هذا الفخر الرائع يذكرنا بفخرا بن كلثوم. وغير مستغرب من لبيد ان يفخر وهو الشاعر الشريف ذو المجد الاثيل والحسب العريق، ومن الذين لم يكتسبوا بالشعر وهو الذي قال عنه صاحب الجمهرة (كان لبيد جودا شريفا في الاسلام والجاهلية) والتي قالت عنه عائشة رضى الله عنها: رحم الله لبيدا ما اشعره فيقوله:
ذهب الذين يعاش في اكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الاجراب
لا ينفعون ولا يرجى خيرهم ... ويعاب قائلهم وان لم يشعب
فهذا شأن شاعر شريف الا يحق ان يفخر فيقول من ـ المعلقة ـ
من معشر سنت لهم اباؤهم ... ولكل قوم سنة وامامها
فبنوا لنا رفيعا سمكه ... فما اليه كهلها وغلامها
فاقنع بما قسم المليك فانما ... قسم الخلائق بيننا علامها
واذا الامانة قسمت في معشر ... اوفى باعظم حظنا قسامها
قهم السعاة اذا العشيرة افظعت ... وهمو فوارسها وهم حكامها
وهمو ربيع للمجاور فيهمو ... والمرملات اذا تطاول عامها
هذا ما عن لى ذكره ولا اريد ان اختم البحث دون ان اشير الى بيتيه الخالدين:
اهمرك ما تدري الضوراب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
سلوهن ان كذبتموني متى الفتى
يذود المنايا او متى الغيب واقع
ولنا رجعة ان شاء الله الى هذا الشاعر حيث نأخذ شعره وحياته واخباره بالتفصيل.
بغدادعبد القادر رشيد الناصري