مجلة الرسالة/العدد 947/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 947/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قرينة طه حسين:
مسألة النساء في حياة الرجال مسألة معروفة، من الإملال وفضول الكلام أن نتخذ منها مقدمة لهذا الحديث الذي نريد أن نسوقه في هذه الكلمة. وهو حديث عن السيدة الجليلة قرينة عميد الأدب والأدباء معالي الدكتور طه حسين باشا
كثيراً ما جال بفكري أمر هذه السيدة، من حيث أثرها في حياة طه حسين وفي أدبه. لقد تحدثت إلى مراسل لمجلة (آخر ساعة) في باريس، فصاغ من حديثها موضوعا ضمنه ما أفضت به إليه من معلومات تتعلق بالحياة العامة للزوجين الكبيرين، وهي معلومات نعرف بعضها ويسرنا أن نقرأ ما لم نكن نعلمه منها
إن قرينة العميد شريكة حياة مثالية، فهي شريكته المهيأة له أسباب الراحة والاطمئنان في حياته الخاصة، وهي شريكته المشاركة له في آلام نفسه وأمانيها. فقد كانت خير معين له في فترات شديدة من حياته، إذ كانت خير معين له في فترات شديدة من حياته، إذ كانت تحاول دائما أن تثبت فيه الصبر والشجاعة، وتربت إحساسه المرهف، فيمر بالشدائد كريما جلداً ظافرا. وأستطيع أن أقول - على ما ألمح من بعيد - إنها تدفعه إلى المجد، وأن ما تدفعه إليه قد جنت منه البلاد ولا تزال تجني أطيب الثمرات. جاء في حديث (آخر ساعة) ما يلي:
(ولطه حسين وزوجته ذوق واحد في كيفية قضاء أوقات فراغهما، فهما يفضلان الموسيقى أو المطالعة إذا لم يكونا مرتبطين بموعد لقضاء سهرة. وهما يحملان معهما أسطواناتهما الكلاسيكية المفضلة في جميع أسفارهما لأنهما يشعران براحة تامة في الاستماع إليها عندما يكونان وحيدين)
وهذا جانب لا يستهان به في الحياة الزوجية، وهو التعاون على قضاء وقت الفراغ فيما يمتع ويفيد، فيذهب ما مضى من عناء وينبعث النشاط لما يأتي من أعمال. وإذا كان الرجل العادي يستريح إلى زوجته التي تعد له ما يشتهي من أطباق، فإن من أسباب السعادة التي يستشعرها مفكر ذو إحساس مرهف، زوجة تهيأ له ما يحب من غذاء العقل والروح. ومم نعلمه عن عميدنا الكبير شغفة بسماع الموسيقى الراقية، وهو يحرص على حضور حفلاتها التي تقام بمسرح الأوبرا الملكية في موسمها الشتوي السنوي بمصر، بل هو فوق ذلك يحرص على ألا تفوت متعتها من يؤثره، وسوف لا أنسى دعوته الكريمة التي تفضل فوجهها إلي لحضور بعض هذه الحفلات في الموسم القادم
وجاء أيضاً في ذلك الحديث أن قرينة العميد ترى في الحركة النسائية أن على المرأة المتزوجة أن تهتم ببيتها وبأولادها وأن تترك السياسة للأرامل والفتيات
إن فكري وخيالي يذهبان إلى التساؤل: كيف كان طه حسين وكيف يكون إذا مني بزوجة من هؤلاء المتصايحات المشتغلات بكل شيء عدا بيوتهن وأولادهن؟ وكيف يكون حال الأدب والعلم والتعليم عندنا إذا ابتلي بامرأة ممن يطفئن النور في القلوب ويبعثن بأزواجهن إلى القهوات والجلوس على الطوارات فرارا من نكد الزوجة وتعب البيت؟ إنني أتصور ذلك الفراغ الهائل في عالم الأدب العربي الحديث، فيهولني التصور. . وطه حسين كتلة من المواهب والحيوية الأدبية، ولكن هذه تحتاج إلى تهيئة الجو الصالح لتنميتها، الملائم لتنفس صاحبها
إن طه حسين - وهو الإنسان الحساس - يعرف لقرينته فضلها، وقد عب عنه بإهدائه إليها بعض مؤلفاته. ولكننا نحن اللذين انتفعنا بآثار ذلك الفضل، نحن أهل هذه البلاد المصرية وكذلك إخواننا في سائر البلاد العربية، ينبغي أن نذكر تلك السيدة الجليلة، ونذكر فضلها وأثرها في أدبنا وحياتنا، وأن نقرنها بزوجها العظيم فيما قدم لنا من نتاج أدبي وعمل مثمر، فنجلها كما نجله، ونحبها كما نحبه
عهد جديد
هذه مجموعة قصصية لكاتب قصصي جديد، هو الشاب العراقي الأستاذ شاكر خصباك، أنست بها في هذا المضيف المعتزل وكانت مما وصلني بالعالم الحبيب المتعب الممتع. . الذي نهرب منه ونحن إليه: عالم الأدب والفن
أعرف نزعة شاكر مما قرأته له من قبل في (الرسالة) وفي مجموعة سابقة، وأعرفها منه صديقا طالما التقيت به في القاهرة خلال السنوات التي قضاها طالبا بجامعة فؤاد الأول. فلما أصدر مجموعته هذه صدر هذا الصيف وقبيل رحيلي إلى المصيف، كانت مما احتقبته، عسا أن يذهب عن نفسي ما ألم بها فأشتاق إلى المتاعب الممتعة
أحب من الأدب - أكثر مما أحب - ذلك النوع الذي يتخذ كاتبه أخاه الإنسان موضوعا له، على أنه أخوه. . أخوه كيفما كان، لا يترفع عنه لأن الأقدار أو الأسباب الاجتماعية أرادت له الحرمان والجهل وسوء الحال، لا يتخذه إلهية ولا طرفة يلهى بها ويطرف، بل يراه أخا له يرثي لحاله ويأسو جراحه ويلتمس له - كمطلق إنسان - البرء والسعادة
وعندما قلت (أعرف نزعة شاكر) كنت أعني تسديده إلى ذلك الهدف الذي أحببت أن أرافقه - بقراءته - في الاتجاه إليه
هذه قصة (عهد جديد) - وهي قصة كبيرة جعلها في مقدمة المجموعة وسماها باسمها - تعرض لنا أسرة جزار عراقي جعل الكاتب نفسه أحد أبناءه وتحدث بلسانه كدابة في سائر القصص، ولابد أنه يتخذ هذه الطريقة - طريقة التحدث بضمير المتكلم - استكمالا للاندماج في جو القصة، وهو وأن كان تخيلا إلا أن ضلال شخصية الكاتب تظهر في كثير من قصصه، كالقصص التي يصور فيها حياة شباب ينزلون في القاهرة لدى أسر (بنسيون)
نعود إلى قصة (عهد جديد) فنراه يصور لنا حياة تلك الأسرة تصويرا ينقلنا إلى ذلك البيت الصغير الذي تعيش فيه، وكأننا نجالس الرجل وابنيه ونؤاكلهم على الحصير الذي يفترشونه في مدخل البيت. والحادثة التي تدور عليها القصة في غاية البساطة وهي تتلخص في أن الجزار يعامل أسرته بخشونة وغلضة، وخاصة زوجته وابنه الكبير، فلا يفتأ يوبخ الولد على كل تصرفاته، ويوجه إلى أمه قوارص الكلم، فيثور الابن وينفجر في وجه أبيه محتجا على إهانة أمه في إحدى المرات، ويغادر المنزل والبلد (الحلة). . . وتمر أيام لا يعلمون له مقرا ولا مرتحلا؛ حتى يهتدي الوالد إلى أنه رحل إلى كربلاء ليعمل عند قصاب هناك على أن يستدعي أمه لتعيش معه بعيدا عن أبيه الفض الغليظ، فيجزع الرجل ويلين جانبه ويخفض صوته ويحسن ألفاظه، ثم يبعث بزوجته إلى كربلاء، فتعود بولدهما، وما يراه الأب حتى يخرج من صلاته ويتجه إلى ابنه فرحا قائلا بصوت متهدج: الحمد لله على السلامة يا نجم!
الوقائع الظاهرة قليلة بسيطة، ولكن الكاتب يأخذنا إلى وقائع وأحفل، هي التي تجري في نفوس أفراد الأسرة جميعاً، فبعد أن عرفنا شخصية كل منهم عن طريق تصرفاته جعل يحركهم عندما وقعت المحنة التي زلزلت أركان البيت، وهي اختفاء نجم، جعل يحرك مشاعرهم ويصف حركاتهم وفقا لطبيعتهم، فالأخت البكاءة (أم دمعة) لا تنفك عن البكاء، والأخت الجامدة تعبر عن التياعها لاختفاء أخيها بجمودها. . على طريقتها! وقد أفاض في وصف المعالم الظاهرة والدقائق النفسية، وهو في كل ذلك يسير في خطة القصة المؤدي إلى نهايتها والمعرض عن عقدتها وهي تغير الأب من حال إلى حال واستئناف الأسرة عهدا جديدا صار فيه الرجل الجافي إنساناً رقيقا.
وتتمثل في هذه القصة خصائص قصاصنا الشاب، وأولاها نظرته الإنسانية، فقد نقد الأب وصور حماقته نقداً وتصويراً بالغين ولكنه ما تخلى عن العطف عليه كإنسان مسكين ظل سواء السبيل ثم اهتدى أو هدى إليه
وثانية الخصائص دقة الرسم مع تجنب الفضول، فقد عرفنا بكل شخصية من الشخصيات حتى كأنهم من معارفنا الأقدمين وحتى لأحسبني أن ذهبت إلى (الحلة) سأبحث فيها عن منزل ذلك القصاب وأسأله عن أفراد أسرته لأطمئن على حالهم جميعاً! وهو يفيض بالحديث عن أشياء فلا يمل لأنك تشعر انك في طريق القصة لم يعرج بك إلى هنا أو هناك، وفي خلال هذا الحديث تتجسم لك أصالة الكاتب في تصوير البيئة، وفي إجراء الكلام على ألسنة الأشخاص بما يناسب حالهم، فالجزار مثلاً يشبه زوجته بالنعجة، وابنه بالخروف؛ وأبناء هذه الأيام بالجاموس الهائج!
وثالثة الخصائص التي ألمحها في قصص شاكر خصباك هي النقد الاجتماعي فليست واقعيته من قبيل (التصوير الفوتوغرافي) وإنما هو ينظر إلى ما وراء الظواهر لينفذ إلى الحقائق ويلقي الضوء على ما يعترضه من مظاهر الحياة الإنسانية، وفي كثير من قصصه أهداف بعيدة، كقصة (أغلال) التي يثير فيها قضية حب بين حمال وإحدى طالبات المدارس، فيصور الفارق الاجتماعي بينهما عائقاً ظالماً، أليس للحمال قلب كغيره من الناس!
وأنت بعد كل ذلك تحس روح القصاص العذبة وظله الخفيف وطلاوته التي تأسرك وتشوقك إلى النهاية، على رغم ابتعاده عن الأغراب وافتعال المفاجآت
وقبل أن أنظر إلى (الكفة الثانية) أحب أن أهنئ عالم الأدب العربي الحديث بهذا الشاب الذي يرجى أن يكون فيه من أعلام القصة المبرزين
وهاك ما أراه من المحتويات (الكفة الثانية):
لاحظت في بعض القصص اهتمامه بما يشبه التعليق على النهاية أو الزيادة على النهاية بما لا داعي إليه وأحيانا تفسد الزيادة الموقف، وذلك كما في قصة (الرهان) و (قلب كبير) فقد عنى فيهما بالتعبير عن ألمه بعد الخاتمة التي كان يحسن السكوت عليها، والحالة النفسية مفهومة وينبغي أن يدع القارئ يدركها من طبيعة الموقف، وفي قصة (بدور بنت عمي) كانت نهايتها مصرع الفتاة التي أثارت حنقه وغيرته، وكان يحسن صنعاً لو أنه ترك القارئ يفكر في هذا المصرع وكيف وقع، وكنه راح يتساءل: هل اختل توازنها أو أنه دفعها بيده؟ فأفسد الموقف احتمال دفعه إياها أي قتلها. وفي رأيي أن القصاص غير مسئول عما يحدث بعد أن يعرض صفحة معينة من الحياة هي التي انفعل بها وتعلق بها موضوعه، فليس مطالباً بأن يجعل الأبطال يعيشون في (التبات والنبات) ويخلفون صبياناً وبنات، أو يلحق بهم مفرق الأحباب وهادم اللذات. . .
لاحظت في بعض القصص مجانبة لمنطق الواقع، ففي (قصة الدخيل) سكن غرفة في شقة تسكنها أرمل توفي زوجها منذ شهر، اسمها (ثريا) فلم يمض الأسبوع الأول حتى تأبط ذراع الحزينة على زوجها المخلص. . . وقضيا المساء في قهوة بمصر الجديدة، وبعد أسبوع آخر ذهبا إلى السينما، فلو فرضنا أنها (استلطفته) بهذه السرعة استلطافاً اذهب الحزن من قلبها بهذه السرعة أيضا، أفما كان من اللائق أن تتحرج قليلا فلا تخرج معه إلى القهوة والسينما بهذه السرعة ما وهو متأبط ذراعها أمام الناس في الشهر الثاني لوفاة زوجها الذي تنطق حوادث القصة بحزنها عليه؟ كل ذلك وأسمها (ثريا) لا (مرجريت) ولا (راشيل)!
أسلوب شاكر خصباك عذب حي والحوار فيه طبيعي جميل، وهو يستكمل بذلك أدوات القصصي الفنان. ولكن. . وليس قليلا ما بعد (لكن) تعوزه السلامة اللغوية والنحوية في كثير من المواطن، ومن أمثلة ذلك استعماله الامتنان بمعنى الشكر في قوله (ص110): (والحق أنني عظيم الامتنان لذلك الطفل) والخطأ النحوي ظاهر في قوله (ص111): (ولم أكن بأحسن حال منها) وهو يستعمل حيث للتعليل في قوله (ص114): (وكذلك يفقد الموقد الذي حفرته في إحدى زوايا الغرفة صلاحيته للعمل حيث يمتلأ بالماء) ويقول (إحدى المستشفيات) في (ص135) بدل (أحد المستشفيات). ويقول (الأشياء المفقودة التي يعثر بها) في (ص144) بدل (يعثر عليها)
وأني آسف لهذا النقص في كتابة صديقي شاكر خصباك، وتدفعني الغيرة عليه وعلى مواهبه الممتازة إلى إبدائها، وأدعوه إلى أن يتألم من هذا الذي أكتبه، كي يعمل على تمام ذلك النقص وهو من القادرين على التمام
عباس خضر