مجلة الرسالة/العدد 946/مع شوقي الخالد:
مجلة الرسالة/العدد 946/مع شوقي الخالد:
مسرحية مصرع كليوباترا
تتمة ما نشر في العدد الماضي
للأستاذ حسين كامل عزمي
ثم يضرب شوقي ضربته النفسية الرائعة، المؤثرة، البليغة. في إسداله ستائر الموت على الجو الأخير، بنشيد الموت. . حتى إذا ما انتهى الموت، وضمن الشاعر تهيئة الجو النفسي للجمهور، يدخل القائد بالمعاهدة المهينة. فيضمن الشاعر بذلك سخط الجمهور على الدخيل، ثم يجري على لسان القائد تلميحا، كالسهم الموجع، يمس الأنثى المسكينة (كما صورها شوقي) فيضمن أيضا ثورة الجمهور، متضمنة عطفا انفعاليا غير واع على البطلة. . . ثم يأتي تصوير الانتحار. . . الملكة متخاذلة، ضعيفة، مسكينة، تصانع الحراس، وتتلقى تجريح القائد، وتتعاطف مع الخدم، و. . وتذوي في نشيد الموت. . . ثم تناجي زنبقة في الآتية. . . ولكم أحسن شوقي تصوير كليوباترا الأنثى في هذا الموقف. . . فها هي ذي منحنية على زنبقة في أصيص، تعاطف مع الطبيعة الصامتة شاعرة، متصوفة - ما أبعدها عن كليوباترا التاريخ الخاطئة - اسمها تقول:
زنبقة في الآنية ... ضحية الأنانية
جنت عليها غربة ال ... أسر الأكف الجانية
وبدلت من سعة الرب ... وة ضيق الباطيه
يسقونها من جرة ... بعد العيون الجارية
يا جارتا شأنك لا ... يشبه إلا شانيه
لم يبق من ملكي العر ... يض غير دار خاويه
وكلنا ذابلة ... عما قليل ذاويه
زال النعيم وفرغ ... نا من حياة فانية
وبعد. . فكليوباترا أم لا تقوى على مراجعة طفليها وحدها فتستند إلى شرميون قائلة:
أدخلي بي ياشرميون على طفلي ... أودعهم الوداع الرهيب فعساهم إذا تحجب صدري ... وجدوا صدرك الحفي الرحيبا
ثم تبارك - خاطئة التاريخ - الحب الطاهر بكلام ككلام المتصوفين، تقول:
ولدي اهجروا القصور فإني ... قد وجدت النعيم فيها غريبا
ثم تمنحها ضيعة للحب. .
وشوقي بعد كل هذا حريص على أن يترك ساحة كليوباترا نقية. . فهو يبارك هذا الحب أيضا، ولا يجني على هيلانة فتقع تبعة موتها على كليوباترا، فيخترع معجزة (حلقة النجاة) ضاربا بالواقعية عرض الحائط، في سبيل الوصول إلى الغرض الأول والأخير. . . ثم لا يترك كليوباترا إلى راكعة أمام تمثال إيزيس نائبة، مستغفرة، مسترحمة، ملقية تبعة خطاياه على الحياة. . في فلسفة واهية الأساس، وغن كانت متساندة، بعد أن هيأ لها شوقي ذلك الجو الذي أسلفنا تحليله. . .
ولحظة الانتحار - وإن مرقت كالبرق - إلا أنها أضاءت بالأمل الذي يريد أن يتشبث بالشباب، فيمنعه شيء في النفس. . كما تجلى ذلك في قولها:
الملكة: عجل فديتك
أنطونيو: لا. . لا نريد من ثمن
الملكة: كرائم المال
أنطونيو: ما للمال مقدار
الملكة: إلى الأفاعي؟
أنوبيس: لا إلى المحراب
الملكة: رأيكما في المكث والذهاب
زينون: أتعلم يا غلام على عشقا
حابني: دع الإنكار قد برح الخفاء
زينون: ومن أنبأك
حابي: أنت
زينون: وكيف؟
حابي: تهذي. . . فتفضحك الوساوس والهذاء الملكة: ماذا وراء الجندي؟
الحارس: رسالة من عبد هل تأذنين؟
الملكة: أد
د - شعر المسرحية:
في هذه المسرحية قصائد خالدات يسجلها تاريخ الأدب للأجيال المتعاقبة باحترام صادق عميق، وهو مؤمن بشاعرية شوقي. . . فلو سأل سائل ما هو الشعر لقرأنا له: (يا طيب وادي العدم)، ولقرأنا له (أنا أنطونيو وأنطونيوا أنا)، ولقرأنا له: (زنبقة في الآنية)، ولقرأنا. (نام مركو ولم أنم). . ثم سكتنا. . . وهو - أي السائل - لا بد شاعر بما سأل عنه. . . فهذا الشعر ليس في حاجة إلى الإقناع بأنه شعر، إنه مناجاة عاطفية ذاتية إنسانية، مناجاة آتية من بعيد - كالأمواج المنسابة في ريث - تأخذ طريقها إلى نفسك وفي رفق، وصمت وعمق. . فتصغي إليها بكل حواسك، وكأنك تصغي إلى حبيب وأنت نشوان غائب فيه. . أراد شوقي أن يناجينا مناجاة العدم، فأتى بنشيد الموت. . وقد تمثله حقا، فاستطاع أن يمثله لنا، وأن يجذبنا إليه، وأن يجعلنا معه. . .
ذلك الموت الحالم المريح الذي قدمه لمزمعة الانتحار كليوباترا. . . ذلك الوادي الطيب، حيث الهروب مما لا نطيق، حيث العزلة، حيث تلاقي كليوباترا حبيبها، وتكون له خالصة ويكون لها كذلك. .
ما أجمل هذا الوادي، وما احبه للنفس اليائسة الراغبة في الانتحار. . . إن وادي شوقي هذا هو وادي العدم حقا. إنه واد (لم تمش فيه قدم) مجدب خال. إنه الموت. . . وحلق مع شوقي وارتفع بخيالك واسبح مع الشراع الفضي الذي يسري (كالحلم في الغمض)، وهو ثابت متحرك، لأنه حلم (يجري ولا يجري). . . واسمع الأحزان الموت المريح، لهذا النداء الحزين:
يا موت مل بالشراع ... واحمل جريح الحياة
وانظر مع شوقي لهذا الفلك وإلمحه من بعيد، وهو يخترق اليم (تحسبه نجما. . .) وتأمل سلبية هذا الزور، فهو ليس به ملامح، وهو:
من نفسي يجري ... لم يجره مجداف وهو يجري ولا يجري. . إنها أمور محيرة. . إنه الموت، لا بلاغة يجول فيها العلماء. . . وهنا يخجل التحليل والتشريح. . . إنها أنفاس شاعر قد بثها في كل شطر. . أما النغم في هذه القصائد فهو يبدو في اللفظ والوزن والتركيب، وفي أبعد من هذا نفس الشاعر التي امتلأت بما يقول أما هذا النغم فهو همس صادق حزين، مستريح وأوى لحزنه. . حسبك أن تنصت لهذا الشعر، فتحسب أنه أغان تهمس بها نفسك أنت وهي كلمة قصيرة عن هذا الشعر الرفيع في هذه المسرحية. . . وإذا بحثنا عن عثرات فنية في شعر شوقي في هذه المسرحية فلن نجد ما يهبط بشاعريته. . .
فما يقوله دائما له مدلول ليس فيه فضول. .
فهو يتهالك على الشعر لينظم، بل عنده ما يقوله، بل ما يجب أن يقوله. . .
وإذا أردنا أن نلتمس شعراً ضعيفا فلنلتمسه في أبيات متبادلة بين أشخاص المسرحية. . . وذلك لطبيعة الشعر المسرحي. . . وللشاعر عذر في ذلك إلى حد ما، فهو لا يستطيع أن ينقل إلينا الكلام العادي الذي يجري على ألسنتنا ولا يستطيع أن يمثل لناحياتنا اليومية إلا بمثل هذا النظم. . .
والذي نلاحظه بجلاء أن شوقيا أسير لجلجلة الشعر العربي القديم، وذلك واضح جدا في كثير من قصائده الطوال في هذه المسرحية، مثل:
(وداعا كليوباترا إلى يوم نلتقي. . .)، (اليوم أقصر باطلي وضلالي. .)، (هلمي منقذي هلمي. .)، (أمانا إله الحرب ما أنت صانع. .)، (روما حنانك واغفري لفتاك. .)
في كل هذه القصائد يحمل شوقي روح الشعر العربي القديم ولا يمنع هذا من أنه يصف الحال ويعبر أحسن التعبير. . وتتجلى هذه الروح حينما ينفرد شوقي بنفسه ويطلق لها العنان على ألسنة أبطاله، وكأنه يثأر من قيود الحوار
وخلاصة رأينا في شوقي هي أننا - كما يقول أستاذنا الجليل الزيات بك (قد علمناه بالدرس، وعرفناه بالصحبة، فما أنخذل يوما في تحليقه وإسفافه عن مواقف العبقرية. . . ولئن كان في شعر شبابه مأسور الفكر، محصور الخيال، محدود النظر، لا يعبر إلا عن رأي القصر، ولا يصور إلا بألوان البيئة، لقد كانت هذه الحقبة الرسمية غيبة للشاعر عن نفسه، وذهولا منه عن وجوده، وقديما كانت صلات الشعراء بالملوك والخلفاء عاهة الشعر وآفة العبقرية، فلما أعتقته الحرب من رق الوظيفة، وأطلقته إنجلترا بالنفي إلى الأندلس، تيقظ فيه الرسول الشاعر والحكيم المصلح. . فحلق بخياله في كل جو، وسطع بعقله في كل أفق، وشدا بالإسلام والعروبة شدوا ردده كل لسان واهتز له كل قلب. . ثم زاد في القيثارة العربية الأوتار الناقصة. . . فاضاف الشعر القصصي، والشعر التمثيلي، إلى شعرنا الغنائي، فكان بذلك وحده: الشاعر الكامل)
السويس
حسين كامل عزمي