انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 943/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 943/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1951



للأستاذ أنور المعداوي

رمزية في الشعر:

أود في هذه الرسالة أن أقف موقف السائل، كما أحب أن تقف مني موقف المجيب. وأتمنى أن تكون معي في هذين الموقفين صريحا وجريئا شأنك في كل المواقف التي عرفتك فيها من قبل.

أنا لا أنكر عليك الجرأة والصراحة، ولكني أخاف أن تحول صداقتك بينك وبين ما عارضه عليك وأخشى مرة أخرى أن تتغلب عليك النزعةالإقليمية التي تتغلب على الكثير من كتاب مصر - وحاشاك من هذا الظن الخاطئ - عندما يسألون عن كتاب أو كتاب وقيمته في ميزان النقد الأدبي فليفون ويراوغون، ويجيبون على قدر ما تقضيه حقوق الزمالة وصلة الجوار، خصوصا إذا كان الكاتب مصريا والسائل من بلاد أخرى، متخذين من الألفة عينا تغض النظر عن العيوب ما دام الأثر الفني الكسيح صديقا يجب ألا ينال منه معول النقد النزيه أو من أثره المتصدع الأركان!

والسؤال الذي أعرضه عليك يتعلق بالشعر، هذا الفن الجميل الذي أصبح الآن ملهاة بيد أناس لا يحسنون حتى أداءه! أما هذا الشعر فهو يتعلق بقصيدة وسمها وناظمها باسم (إلى فتاة)، وأما صاحبها فهو صديقك - كما قيل لي - بشر فارس الحائر على شهادة الدكتوراه من السربون، وقد نشرت هذه القصيدة أو هذا الهذر المنظوم في العدد الثامن عشر من المجلد الخامس من مجلة (الكاتب المصري) التي كان يرأس تحريرها معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف المصرية، ولم يتسن لي الاطلاع عليها في حينها لانشغالي بقراءات أخرى متعددة.

لقد عرض علي هذه القصيدة قبل أيام صديق من شباب الأدباء، وطلب إلي أن أبدي رأي فيها. . ولقد قرأتها عدة مرات وفي كل مرة كنت أخرج منها بعدم الفهم أو بلا شيء! وخفت أن أظلم الدكتور بشر فارس، أو اتهم نفسي بالمغالاة والأنانية، فجئت أعرض قصيدته عليك لتقف حكما بين فهمي وذوقي وبين شعر الدكتور الشاعر، ناظم هذه المعجزة التي حيرت عقول البشر من شعراء ونقاد. . إن قراء (الرسالة) في الشرق والغر ليتطلعون إلى حكمك النزيه الذي أعتقد أن روابط الصداقة لن تحول بينك وبين إصداره، أو بينك وبين صراحتك المعهودة وجرأتك النادرة المثال! وهذه هي القصيدة:

فيض أهواء العيون ... تنشد المرمي اللطيف

خاف جسات الجفون ... تحصر الوهم الرهيف

فر هفاف الجنون ... نحو أبراج الطريف

يجتلى ما قد يكون ... بعد منظور كثيف

عاد من قطب الظنون ... من سنا أوج عفيف

مثل زهو في الغصون ... ولم يروضه الخريف

بصريني يا (وضوح) ... ثروة القطب الخطير

أنا في وهج الفتوح ... يقظ لكن حسير

خف كشف طموح ... وكبا فهم كسير

فسرت فوحات روح ... في غيابات الضمير

لمحات قد تبوح ... بخيفات الأثير

ويه جودي بالشروح ... يسري أنس الغرير!

وختاما لك مني أصدق المودة وأخلص التحية. . . واسلم للأدب وللقراء ولأخيك:

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

مشكلة النزعة الإقليمية التي ورد ذكرها في رسالة الأستاذ الناصري، تفرضعلي أن أعود وبالقراء إلى الأمس القريب، إلى ذلك اليوم الذي ظهر فيه العدد (915) من الرسالة حاملا إلى هذه الكلمات من قارئ أديب:

(قبل أن تطلع علينا بهذا المذهب النقدي الجليل - مذهب الأداء النفسي - كنت أتوق وأتمنى لو أن في أدبنا العربي مثل هذا المنهج في دراسة الأدب ونقد الشعر وعندما قرأت مقالك الأول، وأخذت في قراءة الثاني أمسكت عن القراءة وعزمت على أمر. . . عزمت علي أن انتظرك حتى تتم هذه المقالات أو هذا المنهج في فصولك النفيسة، فتضع بذلك حجر الزاوية في بناء النقد العربي الحديث، لأني أردتها قراءة مترابطة آخذا بعضها بعرى بعض.

إلى هنا يا سيدي وأنا أوافقك على ما ترى، وأذهب معك إلى أن (الأداء النفسي) هو المنظار الأفضل الذي يجب أن ننظر منه إلى القرائح وفيض العقول. . . ولكن يظهر - واسمح لي بهذه - أني أخالفك فيمن طبق عليه هذا المذهب وذلك التطبيق الواسع، أو فيمن يجوز أن نجده في شعره بصورة واضحة، ومن يقرأ تعقيباتك وردوك، ودمعة الذكرى على الشاعر الراحل يعرف أنك تقصر هذا المذهب على نابغة المنصورة، وإن اضطررت - لسبب ما - ألا تغفل بعض من يسكنون الشام وأستطيع أن أخرج من هذا بأن العصبية الإقليمية ما زال لها مكان مرموق وصوت مسموع، حتى عند أئمة النقد وحاملي لوائه)!

بالأمس اتهمني هذا القارئ الفاضل - وهو من الأدباء السوريين - بالعصبية الإقليمية، يوم أن تحدثت في بحث متصل الفصول عن شعر علي محمود طه. . . واليوم أسمع هذه الكلمة نفسها من صديقنا الأستاذ الناصري - وهو من الشعراء العراقيين حين يشفق علي من أثرها في معرض الحكم على شعر الدكتور بشر فارس! إن ردي على هذا الإشفاق هو ردي على ذلك الاتهام حين قلت معقبا عليه منذ شهور:

(الشيء الوحيد الذي لم أكن أنتظره أو أفكر فيهن هو أن يتهمني قارئ فاضل بالعصبية الإقليمية، أنا الذي حاربت هذه العصبية بكل ما أملك من جهد على صفحات (الرسالة) كلما أطلت برأسها من قلم كاتب أو من لسان أديب. . ومع ذلك فقد فوجئت بالقارئ الذي اتهمني على غير ترقب وانتظار!

لقد طبقت مذهب (الأداء النفسي) على شعر علي محمود طه، وغن تلك النماذج الفنية التي استشهدت بها من شعره، هي الحكم الفاصل بيني وبين كل معترض على أمانة النقد وسلامة التطبيق. ولن أضيق أبدا بأي قارئ يجادلني فيما كتبت، ما دام نقده قائما على أسس واعية من الفهم والذوق والمراجعة!

إن إيليا أبا ماضي الذي أضعه في الطبقة الأولى من الشعراء ليس شاعرا مصريا، ولعل القراء يذكرون أن أول تطبيق لمذهب الأداء النفسي على صفحات (الرسالة) كان منصبا على شعر هذا الشاعر، حتى لقد دفعته الدهشة من أن يحتفل ناقد (مصري) بشعره، إلى يبعث إلينا الصداقة وشكره الخالص، على لسنان صديقنا وصديقه الأستاذ محمد الحوماني. . . ماذا أقول بعد هذه اللفتة التي أذكرها لأول مرة، حين دعت إليها المناسبة واقتضاها المقام)؟!

هذه الكلمات التي تصور موقفنا من العصبية الإقليمية هي التي فرضت علينا أن نعود بالأستاذ الناصري وبالقراء إلى الماضي القريب، الماضي الذي لا يختلف عن الحاضر في شيء من أهدافه ومراميه. . وإذن فليس هناك ما يدعو الأستاذ الصديق إلى أن يشفق علينا من هذه العصبية التي ما زلنا نحاربها بالقلم واللسان، في كل مناسبة وكل زمان!

وإذا كان الأستاذ الناصري يريد أن يعرف رأينا في هذه القصيدة الرمزية، فلا بأس من مطالعته بهذا الرأي الذي يستطيع على ضوئه أن يزن شعر الدكتور بشر فارس، وهو رأي نقتطفهمن كتابنا الثاني الذي يتطلع بعد الأول إلى النور في الغد القريب. . إنه دراسة فنية عامة للرمزية النفسية والرمزية اللفظية أو الرمزية المطبوعة والرمزية المصنوعة، أو الرمزية المستحسنة والرمزية المستهجنة، ومن خلال تلك السطور التي وضعنا تحتها الخطوط، يتضح رأينا في رمزية (صديقنا) الدكتور بشر وكل رمزية أخرى تماثلها في الصورة وتشاركها في الإطار:

(ما دمنا نقسم الأداء في الشعر إلى قسمين: أداء لفظي وأداء نفسين وننسب الموسيقى في الشعر إلى نوعين: موسيقي اللفظ وموسيقي النفس، فإننا نفرق أيضا بين لونين من الرمزية: هما الرمزية اللفظية والرمزية النفسية. . ومادمنا ننكر القسم الأول من الأداء ولا نقيم كبير وزن للنوع الأول من الموسيقى فإننا نستهجن أيضا ذلك اللون الأول من الرمزية! إن الفارق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية هو الفارق بين الرمزية المصنوعة والرمزية المطبوعة. إننا ننشد الوضوح في الفن لأنه ركن من أركان الجمال فيه، وطريق من طرق إحساس بهذا الجمال، والشعر فن من الفنون الجميلة لا مراء، إذا أخفينا هذا العنصر الفعال الذي يسلكه في عداد تلك الفنون، إذا أخفينا وراء ستار من التعقيد والغموض والتعمية والإبهام فقد تلاشى أول بريق أخاذ يمكن أن تتملاه النفس في هذا الفن، ونعني به الجمال! نريد في شعر الأداء النفسي تلك الرمزية النفسية المطبوعة، الرمزية التي تلف الفكرة العامة أو الموضوع العام بوشاحها الرقيق الذي لا يحجب الضوء ولا تضيع من ورائه المعالم. . وكل رمزية في واقع الأمر نقاب يلقى على الوجه الجميل، ولكن هناك وجها يحول النقاب الكثيف بين جماله وبين جمال العيون، ووجها آخر يكسبه النقاب الكثيف بين جماله وبين جمال العيون، ووجها آخر يكسبه النقاب الشفيف فوق جماله ألوانا من الفتون. . . وهكذا تجد الفارق الدقيق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية!

إن الرمزية في جوهرها ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير تستحيل معها المدركات الحسية إلى مدركات نفسية. . . إنها الجسر الذي تعبره الألفاظ والأخيلة والمعاني لتلتقي في بقعة فكرية بعينها تنطمس فيها الماديات لتحل محل المعنويات. وهي في الشعر بعد ذلك ألوان. رمزية جزئية تصب في قالب اللفظ وحده ولا تتعداه، ورمزية مماثلة تقع من الصورة الصوفية موقع الإطار، ورمزية كلية تشمل الهيكل العام أو الموضع العام للقصيدة. . أما رمزية اللفظ فهي رمزية الشطحات التعبيرية، وأما رمزية الصورة فهي رمزية الشطحات التخيلية، وكلتاهما تمثل ذلك النقاب الكثيف الذي يلقى ظلاله المبهمة الداكنة على وجه الفن، ويحيل الومضة النفسية ظلاما تتخبط فيه الأذواق وتضطرب المقاييس في تحديد مداه. . هناك لفظ يدفعك إلى أن تبذل في استجلاء مراميه كثراً من العناء لأنه يمنح من نبع شفوي معقد يتدفق من وجود داخلي، وهناك صورة تجهد فكرك إذا حاولت أن توفق بين خطوطها المتنافرة، لأنها مرسومة بريشة الحركة اللا واعية، ألا لأنها من صنع المخيلة المحلقة في آفاق ذهنية لا تنعكس منها غير مظاهر الضباب، وهكذا نجد الرمزية المصنوعة حين تردها إلى شطحات التعبير والتحليل في نطاق الصور والألفاظ. ولا كذلك الرمزية المطبوعة لأنها حركة استبطان نفسي قبل كل شيء، استبطان تبدأ مرحلته الأولى بجمع المادة الأولية لكل ظاهرة حسية في مجالها المادي، وتبدأ مرحلته الثانية بفحص هذه المادة الأولية فحصا يرجعها إلى مصادرها من النفس والحياة، وتبدأ مرحلته الثالثة بعملية المقابلة والموازنة بين الطابع الحسي للظاهرة المادية وبين الطابع النفسي للفكرة الفنية. وفي هذه المرحلة الأخيرة يتم التوافق الدقيق الكامل بين عالمي الماديات والمعنويات!.

هذه الرمزية المطبوعة التي نعنيها بهذه الكلمات، هي الرمزية التي يرفل فيها اللفظ في أثوابه النفسية البسيطة التي لا تختلف كل ما يماثلها في الشعر من أثواب، والتي تخطر فيها الصورة الوصفية في مواكبها البيانية وهي مغمورة بأضواء الحركة الواعية التي تعمل في وضح النهار، وهي الرمزية التي يبقى فيها الرمز بعد ذلك مقصورا على الفكرة العامة للقصيدة أو منصبا على الموضوع العام. عندئذ تكون الرمزية في الشعر عملا فنيا جديرا بالنظر فيه والاطمئنان إليه، وكذلك كل عمل فني يخلو من الشعوذة اللفظية والشعوذة الفكرية!

ونخطو إلى أبعد من لك خطوة أخرى حين نطالب بأن تكون تلك الرمزية الموضوعية أشبه بالخريطة الجغرافية فيها مواقع المرتفعات والمنخفضات، عن طريق (الإيماء) إلى هذه وتلك بما يتعارف عليه من ألوان. . هنا في مثل هذه الخريطة (ألوان مادية) تومئ أو ترمز للجبال والوديان والأنهار، وهناك في مثل تلك الرمزية (ألوان نفسية) تومئ هي الأخرى أو ترمز للظواهر والخواطر والمدركات)!

ترى هل يحتاج الأستاذ الناصري بعد هذه الدراسة الفنية إلى إبداء رأينا في هذه القصيدة الرمزية؟ مهما يكن من شيء فإن الذنب ليس ذنب (صديقنا الدكتور بشر فارس) ولكنه ذنب الصحافة الأدبية التي تنشر له مثل هذا السخف وتشجعه على مثل هذا الهراء. . . ومعذرة للصداقة التي تربطنا بالدكتور الصديق، لأننا قد تعودنا في النقد الأدبي ألا نجامل الأصدقاء!!

أنور المعداوي