مجلة الرسالة/العدد 943/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 943/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1951



قصة واقعية

من الأعماق

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

إلى الأستاذ المعداوي، وكل من في حياته قصة وفي أعماقه

حب قديم وفي قلبه أشجان، أهدي قصتي. ع. ع

صديقي. . .

إنك أعرف الماس بمقدار حرصي على الإبقاء لهذه الذكرى طي الكتمان في أعناق القلب الذي حملها سنوات، وما تثيره هذه الذكرى في نفسي من ألام وأشجان تذهب بهناءتي أياما بل شهورا لأنها تذكرني بجريمة ارتكبتها جنيت فيها على قلب كبير، وتصور لي نفسي مذنبة آثمة، فيهب ضميري من رقاده فلا يزال وخزه كالحراب حتى يقيض الله لي من ينسيني هذه الذكرى بعض الوقت.

ألست أنت الذي حاول مرارا أن ينتزع ها السر الذي احتفظت به وضننت به على أقرب الناس إلي وغليها، فهل تظن أن البعد الذي بيننا بحل عقدة لساني فأقص عليك قصتي التي من أجلها هجرت بلدي إلى غير رجعة، وأفضي إليك بذات نفسي فأطلعك على جرح قلبي الدامي الذي تجعله الذكرى ينزف كأول عهده؟

إن هذا الجرح هو الذيحال بيني وبين مشاركة الناس التمتع بهذا الجمال الذي وهبه الله عباده. إنني لا آتمن هذه الصحائف لأخط عليها ما عجز عن انتزاعه الآخرون ولكن. . . لا! محال أن البوح. لقد كثر إلحافك بعد أن افترقنا وأنا أريد أن اسكت هذا اللسان الذي يطاردنيفي حضوره وغيبته مهما بعدت بيني وبينه المسافات، وكأنك تتعمد إيلامي لأفضي لك بسري. وماذا لو أخبرتك خبرها، وأنا اليوم لا أخاف قالة السوء ولا أخشى أن يزاحمني عليها أحد.

كان ذلك منذ أعوام سبعة يوم كنت معي والتقينا بصديقنا (م) بعد عودته من الغيبة التي طال أجلها بيننا، ثم التقيت به مرات ولم تكن أنت معنا. ودعاني يوما لزيارته فلبيت دعوته ولا أدري لم دعاني وقد مضت سنوات على صداقتنا ولم يدع أحدنا الآخر إلى منزله؟ ولا لماذا خرجت أنا عن مألوف عادتي فلبيت دعوته؟ ذهبت فراعني منزلهم الجميل ورياشه الفاخر وتلك الحديقة الزاهرة التي تحيط به.

ولما استقر بي المقام جاءت شقيقته (ن) وهي إذ ذاك في الثالثة عشرة من سني حياته، وهي طالبة في المدرسة وقدمني إليها قائلا: (أستاذك الذي سيقوم بإعطائك درس اللغة العربية) وأخذت بهذه المفاجأة إذكنت أتحاشى دائما هذا النوع من الدروس مهما كانت سن الفتاة. بيد أن الموقف ألجم لساني وصداقتنا حالت بيني وبين الاعتراض، كل ذلك كان سهلا بجانب نظرتها إلي، نظرة فيها كل أنواع البراءة والدلال، فوجدتني أومن على قوله بغير شعور مني.

ومدت يدها الصغيرة تصافحني وعلى ثغرها ابتسامة جميلة خلت من أنواع المخاتلة والرياء، لأنها بسمة تكسوها براءة الطفولة، إذ كانت إلى هذه السن لا تزال طفلة في كل أعمالها. فإذا قدرت سني حياتها عند رؤيتها ما زادت على عشر سنوات لضمور جسمها ووداعة خلقها وتعثر كلماتها في النطق.

وحددنا موعد الرس، وفي اليوم التالي ذهبت إلى منزل صديقين أو بالأحرى تلميذتي، فوجدتها في حجرتها الخاصة تنتظرني فقضينا بعض الساعة في ترتيب وتنظيم، واتفقنا على الخطة التي تناسبها.

صرت بعد ذلك أذهب إليها في الموعد المحدد. وعلى مر الأيام زال ما بها من تلعثم، وكنت أرى منها غبطة وسرورا كلما رأتني قادما، فقد كانت تنتظرني في نافذة حجرتها المطلة على الحديقة فإذا رأتني هبت تتلقاني بباب حجرتها. وبدأت ألحظ عليها أنها تبذل جهداً كبيراً لتعوقني عن الخروج وتحتال لذلك الحيل، وأكثرها توجيه أسئلة أجدني مضطرا للإجابة عنها لأني كنت أخشى أن تظن بي العجز. وكم من مرة أضاعت علي فرصا كنت أنتظرها بفارغ صبر. مر العام على خير وجوه. وكانت أولى المتقدمات من زميلاتها وانتقلت من مرحلة إلى مرحلة أخرى.

وظننت أن مهمتي قد انتهت، فانقطعت عنها، وماذا بقي علي؟ لقد أديت واجبي وقمت بما تقتضيه الصداقة.

وبعد أيام من انقطاعي وكنت جالسا في حجرتي غارقا بين أوراقي، إذ طرق الباب طارق، فلما أذنت له بالدخول وكنت أحسبه خادمي فلم أهتم بالأمر. ولما رفعت وجهي لأسأله ما يريد، رأيت أمامي صديقي (م) وتلميذتي فأخذت بهذه المفاجأة ومددت يدي مسلما معتذرا. فلما تقدمت أسلم عليها مدت يدها وهي تتصنع الغضب ولكنها لن تستطع أن تخفي تلك الابتسامة الحلوة التي عودتني إياها كلما لقيتها.

جلسنا في غرفتي، وكلما نظرت إليها ازدادت شفتاها انفراجاً، ولكنها سرعان ما كانت تسردها بمظهر الغاضبة. ثم انفرجت شفتاهالا عن ابتسامة ولكن عن عتاب جميل لتقصيري عن زيارتهم بعد انتهاء العام الدراسي. ولقد كانت في إلقاء الأسئلة وتضييق الحلقة ماهرة كأنها نائب يحقق في حادثة يريد أن يصل إلى الجاني، وكلما هربتمن طريق جاءتني من آخر. وقدمت لها من المعاذير ما لا يحصى ولكنها تقبل منها واحدا وكانت كلما ألقيت إليها عذرا رأيتها تهز ذلك الرأس الصغير علامة عدم الارتياح، ولم تتركني حتى قطعت على نفسي عهدا باستئناف زيارتهم مرة أخرى وسيكون ذلك بعد غد. ذهبت إلى منزلها فإذا بي أفاجأ باستعداد الحفل. باسمة الثغر طلقة المحيا عليها سماء من تجاوزن سنها، وكان حف تزينه زهرات لم تتفتح مثلها وما زالت قلوبهن في الأكمام وتم عقد المدعوين ووقفت تقول كلمة صغيرة كما قالت فإذا هي تبدع وتجيد، وفي نهاية كلمتها قدمتني للمدعوين على أن أتكلم كلمة فلم أسر لاقتراحها قدر ما سرني كلمتها التي أشادت فيها مما بذلت معها من مجهود أهلها لهذا التقدم، فكدت أعتذر لولا نظرتها إلي وما رايته منعيون متجهة إلى شخصي.

وقدمت لنا بعض زميلاتها أغنيات ورقصات أضفت على الحفل عنصر البهجة والسرور.

وكانت جلستي بجانب فتاة وسيمة الوجه طلقة المحيا ذات شعر فاحم أهيف. . وعلى غير قصد مني لمست يدي ذراعها العاري فسرت رعشة غريبة في يدي فاضطربت ولحظت فتاتي ذلك إذ كانت لا تفارقني، فأسرعت تقدمها إلي، فإذا هي ابنة عمها قد أتممت دراستها الجامعية هذا العام، وحادثتني حديثاً شهياً خلب لبي واستولى على مشاعري ولم ينته الحفل حتى كنا على موعد للقاء في اليوم التالي. وتكرر لقاؤنا فازددت بها شفا وهمت بها حبا، وترامت الأخبار إلى تلميذتي بعلاقتي بابنة عمها، فكنت كلما زرتها شاهدت على وجهها مسحة من الهم والألم، وكانت تتعمد ذكر ابنة عمها أمامي وتنظر إلي أثناء ذلك نظرات لم أعرف مغزاها إلا بعد فوات الأوان.

وصحبتها إلى السينما وكنت على موعد مع ابنة عمها فاختارت المقعد الأوسط لتجلس بيننا فنفذت رغبتها ولكن فعلها آلم ابنة عمها، فعتبت علي على مصاحبتي لهذه الصغيرة وإذعاني لرغبتها، فقد كانت كل منهما تتربص بالأخرى ولكنها تتحاشى لقاءها، عرفت حبيبتي أن ابنة عمها تحبني ولكنها لم تذكر لي شيئا عن ذلك.

وها لني ما طرأ على تلميذتي من تغير ملحوظ فأصبحت تؤثر الوحدة وتتحاشى الناس. وتجلس معي صامتة واجمة، وبدأت عيناها تذبلان ونظراتها تتكسر، فحاولت أن اعرف سر ذلك منها فلم أفلح. وكانت كلما خرجت معي بمفردها - لأنها كانت ترفض دعوتي إذا علمت أن ابنة عمها سترافقها - تسر لذلك ويذهب عنها بعض حزنها وصارت لا تذكر غريمتها أمامي كما كانت تفعل قبل اليوم.

وذهبت لأطلب يد ابنة عمها فلما تم كل شيء بعثت من يعلن الخبر في بيتها وكانت ترمي من وراء ذلك إلى غرض في نفسها. ولما ذهبت في اليوم التالي إلى صديقي إذ كنا على اتفاق لنذهب إلى إحدى الحفلات، ولم أجد تلميذتي تنتظرني كما هو مألوف. وهنأني الجميع ولكنها لم تحضر، فسألت عنها فعجب الجميع لغيابها، وبحثوا عنها حتى وجدوها، فلما جاءت رأيتها قد انكمشت في نفسها.

وسألتها عن تقدم استعدادها للذهاب معنا فاعتذرت بتعب تحسه. وحاولت كثيراً فلم توافق. وفي اليوم التالي علمت بأنها مريضة فزرتها وواظبت على زيارتها كل يوم، غير أن حالها كان يسير من سيئ إلى أسوأ. وكانت تسرع خطواتها إلى العام الآخر فأضفت على البيت الحزن والكآبة. وفي أحد الأيام ذهبت لعيادتها فانتهزت فرصة خلو حجرتها من الآخرين وسلمتني غلافا. فلما ههمت بفضه أشارت إلي إشارة فهمت منها أنهالا ترغب في ذلك. ولما صرت خارج الدار فضضت الغلاف فوجدت صورتها بين أوراقه وتصفحت كتابها فإذا فيه. . .

(حبيبي لقد أحببتك وأنت لا تدري، وان كنت قد بادلتني هذا الحب، غير أنك كنت تستخف به لأنه في نظرك حب طفلة وما دريت أن لهذه الطفلة قلبا. . .

(وكم ندمت على أني كنت سبباً في تعرفك بتلك التي سلبتك مني واستولت عليك من دوني، وكثيراً ما حدثتني نفسي أن أسحقها كما سحقت قلبي وأحطم حياتها كما حطمت حياتي. ولكني كنت أخشى أن يكدر فعلي هذا صفو حياتك ويسبب لك الشقاء والآلام.

(لقد كان أسعد يوم في حياتك هو أشقى أيام حياتي، فبينما أنت تنعم بقرب حبيبتك وقد فاضت منك كأس السعادة. كنت أنا أقاسي آلاما تهد الجبال وأتجرع كأس الخيبة والحرمان غارقة في حمى الحب الذي حطم أعصابي. بينما أنت تضحك ملء فمك، كنت أنا أبكي مصير حبي وأندب ذكرياتي الجميلة واشبع آمالي الواسعة، في حجرتي المظلمة التي تذكرني كل قطعة فيها بحبي، وبأنك كنت في يوم من الأيام لي وحدي فكم تمتعت فيها بالجلوس إليك لا يشاركني فيك أحد. في هذه الحجرة رحت أشكو منك وكنت قبل اليوم أشكو لك. في هذه الحجرة سعدت بأحلامي الجميلة واليوم أذرف فيها الدمع على أطلال سعادتي الذاهبة.

(لقد ههمت كثيرا بأن أكتب إليك بما ألاقيولكن كان الوقت قد مضى والفرصة ضاعت. وهل كنت تصغي لكلماتي وأنا في نظرك لا أعدو طفلتك الصغيرة؟

(أتذكر يوم لقيتني في حجرتي منفردة أضع رأسي بين يدي وعلامات الألم تبدو على وجهي فقلت لي: لقد كبرت وغدوت تفكرين كما يفكر الكبار. ثم جلست تربت على كتفي وتمسح بيدك شعري، وأنت تسألنيعن سبب همي، فكدت أجثو على ركبتي وافتح قلبي بين يديك وأريق أمامك كل ما كنت أكظمه من الحنان وما يكربني من لاحب، ويملأ قلبي من العواطف.

(لقد أصبح كل شيء في هذا الوجود مصدره عذابي فكرت كل شيء وأحست بأبغض لهذا العالم ومن فيه فلم أعد أطيق رؤية أحد.

(لقد كان حبي لك كبيرا وكانت خيبته أكبر. فلم أقدر على تحمل ثقلهما. فإذا طواني الموت فابك يا حبيبي على حبي لك لأنه سيبلىولأنه قد توسد الثرى وكان يحلم بتوسد ذراعك ولأنه ضمه القبر وكان الواجب أن تضمه في أحضانك، ولفه الكفن وكان حقيقيا أن يلفه وإياك فراش واحد، واحتوت صحراء مقفرة وكانت أمنيته أن يحتويه عش تكون أنت سيده.

(إن تعلقي بالحياة لا لأن نفسي عزيزة علي ولكن للحب الذي تكنه لك. فإذا مت فلا تبك علي لأن بكاءك يؤلمني. . ولا تحزن فان حزنك يشقيني. . . ولكن اذكرني كلما خلوت إلى نفسك).

في هذا الأسلوب الذي لا غموض فيه ولا تكلف فيه كتبت إلي خطابها وهو خطاب طويل، فما انتهيت من قراءته حتى أحسست الدمع يتساقط من عيني، وان الأرض تدور بي، ولم أعرف أين أنا سائر، وكدت أعود لأضمها بين ذراعيوأغمر وجهها بالقبل لأخفف عنها وطأة آلامها ولكني لم أستطع إذ كانت قواي قد خارت ونفسي قد تضعضعت فجلست عل أقرب مقهى وجدته، وما شعرت إلا والنادل ينبهني إلى موعد الانتهاء من سهرته. فقت أهيم على وجهي طيلة الليل وأنا حائر ماذا أفعل وقد قطعت مع عمها وعدا بالزواج من ابنته. ولو كان الحب فقط الذي أكنه لابنة عمها لكتمت أنفاسه وتخلصت منه. . . ولكن كيف أتخلص من وعدي وبماذا لأعود إلى تلك أحبتني في صمت وتعذبت في سبيلي كل هذا العذاب وأنا سادر عنها غافل عن أشجانها وآلامها، فذبلت كما تذبل الزهرة قبل تفتحا لأنها حرمت الساقي الذي يتعهدها.

وفي اليوم التالي بكرت في الصباح وقد بيت في نفسي أمرا. وقبل أن أصل إلى الدار صكت أذني أصوات النساء يندبنها. فلما ولجت الباب رأيت خادمها حزينا. فلما سألته أخبرني أن شريانا قد انفجر إثر صدمة نفسية لم تستطع لها احتمالاً. هكذا قال الطبيب. يا رحمتاه لها.

فعلمت أني قد قتلتها وأنا عنها غافل.

وبعد أسبوع كنت أستقل القطار مبتعدا عن معهد ذكرياتي المؤلمة، ولكنها ما زالت تطاردني كلما وقعت عيني على صورتها التي لا تفارقني.

عبد الموجود عبد الحافظ