مجلة الرسالة/العدد 942/قانصوه الغوري
مجلة الرسالة/العدد 942/قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الرابع
أقوال وأحاديث
الشاعر: يا مولانا الشيخ! ليس في هذا الحديث غيبة، وإنما هو نقد مباح ومبادلة رأي. وإذا أصررت على أن فيه غيبة، فلا حيلة لنا في إصرارك! وكيف يستطيع قوم يرون الأحداث من حولهم ببرى، وتمتلئ صدورهم بالحنق عليها، وبفيض أذهانهم بضروب الرأي فيها، ثم لا يتكلمون؟ وفي جلسة متوارية متواضعة كجلستنا؟ اللهم إن هذه هي الغفلة الكاملة، فإذا ارتضيتها لنفسك، فنرجو الله أن يعافينا منها
ولي الدين: أيها الشويعر المتعالم! هل النقد لا يتناول إلا العيوب فينشرها، والنقائص فيذكرها، أوليس للناس حسنات تستحق منكم الثناء والاقتداء؟
الشاعر: أنى لنا ذكر الحسنات، وقد طغت عليها السيئات؟ إن هؤلاء الجراكسة قد ملئوا فجاج هذا الوادي فساداً، وأصبحوا كالخمر ضررها أكبر من نفعها
انظروا. ولقد بلغني منذ أمد قريب أن أحد رعاع المماليك الجليان نزل إلى سوق الرقيق لبعض شأنه، فاختلف مع الدلال لأمر من الأمور، فاستعر بينهما الجدال، وعلا الضجيج، فما كان من المملوك إلا أن هوى على رأس التاجر بقبقاب. . . فوقع على الأرض متردياً، وحمل إلى بيته لا حراك به، ثم مات بعد زمن قريب. . . فماذا جرى لهذا المملوك؟ لم تنتطح في شأنه شاتان!
ثم. . . أتعرفون الأمير أرزمك الناشف أحد الأمراء المقدمين. .؟ لقد ضرب أحد النوتية ضرباً مبرحاً حتى مات بين يديه. . . ثم.! علم السلطان بحادثته، فتغافل عنه، مراعاة للأمير أرزمك، وقيل أنه أوعز إليه بأن يرضي أبناء قتيله بشي من المال
التاجر: لقد سلط الله بعض هذه الطائفة على بعض، ليأخذهم بظلمهم، وفداحة ضرائبهم على الرعية، وسرفهم في الأموال، وسفههم المستوفي: لعلكم تعرفون أن الأتابكي قيت، كان يأتمر بالسلطنة، ويتطلع إلى منصبها. فكان يراسل الأمراء الطامعين لينضموا إلى صفوفه أمثال سيباي نائب حلب، ودولات بأي نائب طرابلس، ذلك الذي فر مرة إلى ملك العثمانيين، ليحرضه على سلطنة مصر وممتلكاتها. . وبذلك أفسد الأتابكي قيت عدداً غير قليل من الأمراء. وكادت مؤامراته تنجح، لولا أن عيون الغوري يقظى. . . فدهمه وعاجله بالقبض عليه، وواجهه بأدلة قاطعة، على إدانته، فلم يستطع دحضها. . وهكذا أدى به مطاف أقماعه إلى سجن الإسكندرية ينتظر في ظلماته مصيره المحتوم. . . ثم أقام السلطان مكانه في الأتابكية عدوه اللدود الأمير قرقماس
الشيخ ولي الدين: كفى كفى.؟ ألم يعد يحلو لكم، ولا يلذ لألسنتكم، ولا تتلمسون للناس حسنة تذكرونهم بها، ولا يدا تشكرونهم عليها؟ ألا كم لسلطاننا الغوري من حسنات. . . وكم له من أيادي بيضاء
الشاعر: (فاغراً فاه): ألا يتفضل مولانا الشيخ يذكر حسنة من حسناته أو يداً من أياديه؟
الشيخ ولي الدين: ألم يأمر بجميع فقراء القاهرة في يوم عاشوراء؟ فاجتمعوا عند سلم المدرج، ثم نزل إليهم بنفسه، وهو يمتطي فرسه، وفرق عليهم الدنانير بيده؟ لقد قيل أنه أعطى كل فقير منهم ديناراً أشرفياً من الذهب
الشاعر: نعم! نذكر ذلك ولا ننساه. . . كما نذكر أيضاً أن ثلاثة من هؤلاء المساكين فد قتلوا في أثناء ذلك!
الشيخ: اتق الله يا شهاب الدين، ولا تلبس الحق ثوب الباطل. فقد قتلهم الزحام، ولم يقتلهم السلطان
الشاعر: ولهذا، صمم السلطان على عدم النزول إلى الفقراء مرة أخرى. . . حتى يئسوا من بره. . . وحتى قال قائلهم:
سل الله ربك من فضله ... إذا عرضت حاجة مقلقة
ولا تسأل الترك في حاجة ... فأعينهم أعين ضيقه. . . .
الشيخ: أن السلطان لكثير البر، وهو ر يفتأ يحسن إلى الفقراء، وقد أمر في أول رمضان أن تحمل إلى القلعة رءوس الضأن وأوعية الدقيق والخبز والسكر، وأن تعرض في ميدان القلعة على أنظاره، كما جرت العادة بذلك، بعد أن تزف في شوارع القاهرة على رءوس الأشهاد وإعلاناً للناس بها، وحولها المحتسب ووكيل بيت المال. . ثم وزعت على الفقراء وأهدى منها إلى الأصدقاء
الشاعر: ألا قاتل الله حب الظهور! فهم يكلف المرء ما لا يطيق، وإذا كانت للسلطان نفس بره ويد رحيمة محسنة، فلماذا قطع منذ أمد (جوامك) (رواتب) كثير من الأيتام والنساء والصبية المستحقين، الذين تعودوا أن يستعينوا بها، ورتبها لهم الملوك السابقون.؟
الشيخ: يا لك من خبيث ماكر، لا تنفق عنده يد، ولا تصلح لديه معذرة! لقد كانت خزائن السلطان أول أمره خاوية، وكان في حاجة قصوى إلى المال. فكان لا بد له من الاقتصاد في الإنفاق. فلما امتلأت يده وأخصبت خزائنه أعاد سيرة المحسنين من الملوك، وعهد البررة من السلاطين
ومع ذلك! ألم يأمر بإبطال النادبات النائحات في المآتم، والذين يدقون الدفوف خلف الموتى. . . ألا تذكر حينما تفشى الوباء في القاهرة، وفتك بالناس فتكه الذريع، كيف قام القاهريون يندبون موتاهم، وامتلأت حارات المدينة وأزقتها نواحاً وعويلاً كأنما اشتعلت النيران في ربوعها
ألم يأمر السلطان بتحريم شرب الخمر وكسر جرارها ومصادرتها في بيوتها وضبط بائعيها والضرب على يد تجارها، وأمر بكبس بيوت الحشيشة وإحراقها، وإقفال دور (البوزة) وإراقتها
ماذا تريد يا شهاب الدين أن يفعل السلاطين؟ لعل في إراقة الخور وكبس الحشيشة ما يؤلمك ويضنيك؟ ولهذا فشانت ساخط
الشاعر: أنه لا يؤلمني ذلك ولا يضنيني إلا بمقدار ما آلم وأضنى سلفنا الزجال الشاعر الأديب إبراهيم المعمار. . . . فقد قيل أن سلطان عصره الملك الأشرف شعبان بن حسين، حفيد قلاوون، حرم الخمر والحشيشة وأهدر كرامتهما. . . فقال المعمار في ذلك هذه المواليا الفكاهية:
يا من على الخمر أنكر غاية النكران ... لا تمنع القس يملا الدن والمطران
وأمر بباع الحشيشة تكتسب أجران ... وتغتنم دعوة المسطول والسكران
الشيخ: قاتله الله وقبحه من شاعر زجال. . . هكذا أنتم يا معشر المتشاعرين. . . لا يلذ لكم مقام إلا بين بؤرة وبيئة، وكأس مليئة. ومن شاء منكم الشهرة، فليس أمامه من سبيل إليها إلا أن يمجن كما يشاء، أو يهجو أحد العظماء
قل لي يا خليفة المعمار. لماذا رسم السلطان للأمراء بإلغاء نقبائهم الذين كان أرباب المظالم يفدون عليهم للفصل في مظالمهم؟ ورسم أن أحداً لا يشكو، ولا يرفع قصة - قضية - إلا عن طريق قضاة الشرع؟ أليس في ذلك حماية للناس ورعاية لهم من جشع الأمراء والنقباء، وجورهم. . أوليس في ذلك دعوة إلى أن تسود العدالة، وترعى أحكام الشرع الشريف
الشاعر: هذا حسن وقد رسم السلطان بذلك كله، حينما راعه أن الوباء استحر في الناس، وأعمل فيهم سيف فتكه وسفكه. فرأى أن يتقرب إلى الله بتلك القربى، لعل الله يخفف بها الكرب عن المكروبين. . . ولكن لولا الوباء لما اتجهت فطنة السلطان إلى هذه المكرمة. . . وعما قريب سترى أن الأمر عاد إلى ما كان عليه
فقال علم الدين الخياط: أنني أود من الأعماق أن يفيء الناس إلى أحكام الدين، ويرعوا العدالة، ويوكل أمر القضاء إلى قضاة الشرع دون سواهم. واعجب كيف دخل حاجب الحجاب، وغيره من الأمراء، إلى باب القضاء، واصبحوا من الحاكمين بين الناس في مظالمهم وخصوما تهم. انهم كثيراً ما يجنحون إلى الهوى، ويحكمون الغرض، ويتذرعون بمناسبهم لابتزاز أموال الناس بالباطل. . . فإذا وقف السلطان حاجزاً حصيناً دون غاياتهم الجائرة وعبثهم الظالم، فوقفته تلك، يد بيضاء مشكورة. .
الشيخ: أجل! أيها الأصدقاء! تلك يد بيضاء مشكورة، وكم للسلطان من أيادي، وكم أحيا من عادات وتقاليد شعبية، عفاها الزمان ودرست معالمها منذ أمد طويل.
إليكم مثلا دوران المحمل في رجب، ولعب الرماحة في حفلة دورانه. . تلك عادة جميلة دارسة. وتقليد بائد محبوب لم تنعم به عيون القاهريين منذ سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة هجرية، أيام حكم الملك الظاهر خشقدم. لقد كان لهم في تلك العادة متعة وترويح، وللقاهرة عندها زينة وتبرج
وها نحن أولاء نرى سلطاننا الغوري يأمر بتدريب الرماحة من جديد، وبدوران المحمل في رجب. ورجعت هذه العادة بذلك تقليدا جديدا من تقاليد بلادنا. . .
أنسيتم في سنة تسع وتسعمائة هجرية، ليلة أن بات الغوري بالقصر، وأحرقت إحراقة النفط بالرملة. . . وفي الصباح. . جلس السلطان في شرف مطل على الرملة، وتقدم إليه الرماحة في ثيابهم الحريرية الحمراء، ومعهم رماحهم مشروعة في أيمانهم. . . لقد قاموا بألعابهم البهلوانية الجميلة الخلابة، ثم طيف بالكسوة الشريفة والمحمل مرة في بكرة النهار، ومرة بعد الظهر. واجتمع الناس للتفرج به، من كل حدب وصوب، وافدين من القاهرة والخانكاة وبلبيس ومن نواحي شتى. حينذاك كنتم ترون الفرح يغشى بأمواجه المتدافقة جموع الناس. تلك الجموع المتراصة الضاحكة. وقد ألقى كل امرئ منهم همه جانبا، وأراح كاهله من عبء أتراحه، ونسى كل أثقال الحياة إلا هذه الفرصة الماثلة. . والناس ما بين حدث يافع، وغلامة ناهد مخدرة، ونصف عوان مختمرة، وعجوز فانية مودعة. وبين شاب شارخ لدن، وشيخ هم متداعى الأوصال، وبين سيد قوم، وشجاع همام صنديد، وجبان نكس رعديد. . .
لقد سرت حينذاك بين الجميع نشوة واحدة، وانتظمتهم سكرة فرح مشتركة، حتى أخذوا يرقصون وينشدون قائلين:
بيع اللحاف والطراحه ... حتى أرى دى الرماحه
بيع لي لحافي ذي المخمل ... حتى أرى شكل المحمل
الشاعر: لله درك يا ولي الدين! لقد أذكيت في نفسي عوامل الشعر، وأوقدت الشاعرية، وأشعلت في خاطري جذوة القريض بهذه الأوصاف والمواقف العاطفية. . . وهكذا نحن معشر الشعراء. .! نراع بكل مظهر من مظاهر العاطفية، فردية كانت أم جماعية. . ويطوح بنا الخيال حينذاك في ميادينه الواهمة. وسناته الحلة. . فنعيش لحظات كالمحمومين. . .
أما أنت وأمثالك يا معشر الفقهاء. .! فلكم من هذه المظاهر ما فيها من طعام وشراب، مما لذ وطاب. . . ولله در الفاطميين الذين ابتدعوا لنا ولأسلافنا أمثال هذه المواسم، ليشغلوا أذهاننا وبطوننا عن سياستهم الخرقاء، وعن تقصيها ونقدها. . . وليبهروا أنظار العامة منا ببهارج لا طائل تحتها، ولا غنية فيها. . ولله كذلك السلطان الملك الظاهر بيبرس، أول من أمر بخروج المحمل. .! يا مولانا الشيخ! أنا لا أهتم بهذه الخزعبلات والترهات، ولا أنظر إليها نظرة المحلل أو المحرم، ولكني أهتم كل الاهتمام بمن حول بلادنا من الأعداء، وما بين جدرانها من الجبناء. .
أتستطيع أن تذكر لي ماذا صنع الغوري لحماية الممتلكات المصرية؟
المستوفي: الذي أعلمه أن السلطان حريص كل الحرص على هذه الممتلكات جاد في الضرب على أيدي العابثين بها. حذر على بقاء نفوذه في الأصقاع النائية
لقد أشخص إلى الأقطار الحجازية بجريدة لتأديب العرب الخارجين عليه فيها. كما بعث حملة قوية إلى شواطئ بلاد الهند للقضاء على عبث الفرنجة هناك بسواحل الممتلكات المصرية، وعلى سلبهم أموال التجار. . وربما كان لسفر تغري بردي الترجمان إلى بلاد الفرنجة للقاء بطركهم، صلة بذلك. ولعل السلطان يهدد هذا البطرك بالقضاء على النصارى ببلادنا، إن لم يدفع كيد أتباعه عن سواحلنا ومتاجرنا. .
الشاعر: هناك دولة بني عثمان. دولة بني عثمان. . .! لقد كان بينها وبين سلاطين مصر السابقين مناوشات، وتحارب. وقد قوى اليوم أمرها، واشتدت مرتها، وفتل ساعدها. ولا أدري ماذا تخبئه الأقدار في جعبتها لبلادنا العزيزة، على يد هذه الدولة الماكرة الخبيثة. . .
الشيخ ولي الدين: مهما يكن من شيء، فهم مسلمون، والجراكسة مسلمون. . والله يولي من المسلمين علينا من يصلح. .
الشاعر: هذه يا مولانا الشيخ! نغمة الذل ووحي الضعف والاستسلام. ألا تحفظ قول الله سبحانه وتعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون) صدق الله العظيم
إلى هنا سمع صوت المسحر، وأخذ يدق طبله ويردد أناشيده وقد أوقدت المصابيح إشعارا بدخول وقت السحور. وارتفع أذان المؤذن ينادي للسحور، ويقول: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا)
فأفاق القوم من جدلهم وتنحنح الشيخ ولي الدين، وحوقل. . . ثم قال باسما: (أتحبون أن ننفض؟. أو نتناول بلغة هنا. . .؟ والتفصيل على صاحبنا علم الدين. . .؟
فقال علم الدين الخياط ضاحكا: لقد نزلت على رأيك يا مولانا قبل أن تفصح به، وأعددت لك العدة لنتناول جميعا سحورنا هنا، ثم نصلي الفجر بإمامتك في مسجد السلطان
فأخذ القوم يلهجون بالثناء الطيب عليه
(للقصة بقية)
محمود رزق سليم
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية