مجلة الرسالة/العدد 941/الشر الطريف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 941/الشر الطريف

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 07 - 1951



للأستاذ ثروت أباظة

هي الصكة التي إن أخذت لم تذر، وإن حمت لم تدع لصاحب العقل عقلا، أو لصاحب الفؤاد فؤاداً، وهي لا تدع لذي الحياة حياة وتنحط أول ما تنحط فيفقد الإنسان قوامه وتطير نفسه بددا، حتى إذا تراجعت اليد التي أنزلتها رجع الإنسان إلى بعض الرشد منه فيبين له أن الله قد أقام الرجل رجلا حتى يملك زمام أموره، يسيرها فتسير، ويصرفها فتنصرف، فإذا استقام هذا التفكير وجرى في سننه أصبح الرشد الآئب أكبر من الرشد الهارب، واتكأ المصدوع على سنة الله في عباده فيرتئب الصدع أو يكاد، وتستقيم النفس بعد التواء. وبعد ففي كل شر خير، وخير معرفة الصاحب مخلص الصحبة، من العدو مضمر البغض، خير قديم يلازم كل شر ولا جديد فيهز وقديم كذلك أن أقرب الناس إليك قد يكون أشدهم بغضا لكز فهو يخفي بغضه حتى تصيب الصكة وينزل البلاء على صاحبه، فيزاحم ببغضه هذا البلاء ويستبق إلى إنزال الشر كأنه جزء منه، ينزله فلا يملك المبتلى إلا أن يصرخ (حتى أنت؟) فإذا الصرخة في نفس العدو فرحة؛ فهو موغل في شره. حتى إذا تبين له أن كيده مردود، وأن الله قد أقام الرجل رجلا حتى يملك زمام أموره، يسيرها فتسير، ويصرفها فتنصرف. . . يبين ذلك فإذا صاحب الشر مسترجع شره، يضعه في نفسه نارا تحترق ولا تحرق غيره! فياله من مسكين! هذا هو طريف الشر إذن. . آدمي ذو عقل وصاحب قلب يختزن في نفسه النار وتحرق قلبه وهو قلبه، ويملك عقله، ولا يملك عقله أن يبعد عنه النار، ويحه فما يجديه!! ترى أي سبيل يسلك حين تنفرج الأزمة وتنفك العقدة، أهو راجع إلى ما كان يحاول إظهاره من ود؟ أم هو مستقيم مع الشر الذي زاحم فيه وبه؟ أما صاحب البلاء. أما هو فما مصيره مع هذه الشرور التي كان يظنها خيرا؟ أهو مصدق نفاقهم الذي كان يظنه حبا؛ أم هو مستبد بعقله مانع شر الشرير باللفظ الخشن والوجه الملتوي! يا هادي السبيل؟ ما السبيل؟ أهو التغابي الدال على الذكاء يرافقه الخبث المبين عن التجربة؟ أم هو الصدق الدال على الاستبانه تمازجه الصراحة الواضحة عن النقاء؟ يا هادي السبيل! أكاد أسمعك تقول وهل الدنيا إلا اصطناع غباء وتجربة؟ وهو السبيل الأول. . هو السبيل

ثروت أباظه عظة لوزراء اليوم

الشعراء عند عمر بن عبد العزيز

للأستاذ علي محمد حسن العماري

عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ثامن خلفاء الدولة الأموية، وجده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولا شك أنه ورث عن جده هذا كثيراً من صفاته، فكان عادلا زاهداً متقشفاً حتى عده المؤرخون في سياسته وعدله خامس الخلفاء الراشدين. وقد ظل الناس خصوصا أهل البيت نحوا من ستين سنة يعانون أنواعا من الشدة والاضطهاد في دولة بني أمية؛ حتى جاء عمر ابن عبد العزيز على رأس المائة الأولى للهجرة، فملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا!

وفقد تولى عمر الخلافة وهو كاره. وكان بوده قبل أن تصير إليه أن يبعدها الله عنه، وأن يثني عزم الخليفة سليمان بن عبد الملك عن العهد إليه ولكنه لم يجد سبيلا، فلما وقع الأمر وصارت إليه الخلافة كانت أول كلمة قالها (أنا لله وأنا إليه راجعون) كأنما وقع في شر عظيم. ولا عجب فقد كان يقول: (أنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا ومسألة غليظة إلا ما عافى الله ورحم)

كان ورعا زاهدا تقيا فرفع يده عن بيت المال فلم يأخذ منه شيئا، وكف يده عن الفيء فلم ينل منه كثيراً ولا قليلا. وقد حبب إليه أصحابه أن يأخذ من بيت المال مقدار نفقته وقالوا إن جدك عمر بن الخطاب كان يأخذ درهمين كل يوم، فردهم قائلا: إن ابن الخطاب لم يكن له مال فحق له أن يأخذ، وأنا مالي يكفيني

ونذهب نفتش عن مورد رزق أمير المؤمنين الذي تمتد دولته من الصين شرقا إلى بلاد المغرب غربا، فنجد له عبدا يسمى (درهما) يحتطب له - وهجد درهما يضيق بعيشه، ويتبرم بحياته مع هذا الخليفة الزاهد المتقشف، فما هو إلا أن يسأله الخليفة - ماذا يقول الناس يا درهم؟ وهنا ينفث الغلام عن ذات صدره ويجيب الخليفة - وما يقولون؟ الناس كلهم بخير، وأنا وأنت بشر! إني عهدتك قبل الخلافة عطرا لباسا فاره المركب طيب الطعام، فلماذا وليت ورجوت أن أستريح وأتخلص، زاد عملي شدة وصرت أنت في بلاء، فيقول له الخليفة: اذهب وأنت حر، ودعني وما أنا فيه حتى يجعل الله لي منه مخرجا

ويحرم عمر أولاده المال ويباعد بينهم وبين ترف أولاد الخلفاء، حتى يموت وليس عند أولاده شيء. ولقد أحضرهم قبل موته وهم يومئذ اثنا عشر غلاما فجعل يصعد النظر فيهم ويصوبه حتى اغرورقت عيناه بالدمع ثم قال: (بنفسي فتية تركتهم! يا بني إني مثلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحد في النار. قال الرواة - فما احتاج واحد من ولد عمر ولا افتقر

أما الشعراء فكانوا في ذلك العصر الصعاليك السادة، يسيطرون على الحياة الأدبية في الدولة، ويعيشون عيشة الترف والنعيم، يأخذون من عطايا الخلفاء وجوائزهم، فما هو إلا أن ينبغ الشاعر حتى يقصد الوالي فيمدحه، ثم تسمو همته فيرحل إلى الخليفة ويمدحه فيرجع بالمال الوفير والخير الكثير ولم يكن الشاعر من هؤلاء. يعنيه أن يقول الحق أو الباطل، بل كثيرا ما كان يقول غير ما يعتقد، ويعتقد غير ما يفعل. وكان الخلفاء يبذلون للشعراء بسخاء ويعطونهم من بيت مال المسلمين ما نعده نحن إسرافا وفوق الإسراف، بل وما كان بعده معاصروهم من المتورعين ظلما للمسلمين واعتداء على حقوقهم. ولكن الخلفاء كانوا مستريحين إلى هذه الحال، لأن الشعراء في ذاك الوقت أشبه بالصحف الحزبية في وقتنا الحاضر ينشرون فضائل الأصدقاء، ويذيعون مساوئ الأعداء، وكان الأمويون بخاصة يريدون أن يشغلوا الناس حتى لا يتحدثوا في السياسة العليا ووجدوا في الشعراء شاغلا لهم أي شاغل. وقل من الشعراء من كان يربأ بنفسه أن يكون مطية لخليفة أو والي أو أمير. وقف عمران بن حطان الخارجي على الفرزدق وهو ينشد شعره فقال عمران:

أيها المادح العباد ليعطي ... أن لله ما بأيدي العباد

فاسأل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المقسم العواد

لا تقل للجواد ما ليس فيه ... وتسم البخيل باسم الجواد

ولكن هيهات أن يستجيب الفرزدق أو أحد أصحابه الشعراء لهذا النبل. وقد كان من عادة الشعراء أن يفدوا على الخليفة الجديد يهنئونه وينالون منه يسره وخيره فلما تولى عمر بن عبد العزيز وفدوا إليه - كعادتهم - مؤملين طامعين واجتمعوا ببابه منتظرين الإذن، ولكنه لم يأذن لهمز وكان على الشعراء أن يدركوا، فإن الخليفة حرم نفسه وحرم أهل بيته؛ فقد اجتمع الأمويون ببابه يوم تولى الخلافة وأعلمه الحاجب بمكانهم، فقال له: ما يريدون؟ قال الحاجب ما عودتهم الخلفاء قبلك. وكان معه ابن في سن الرابعة عشرة فقال: يا أبي دعني أجبهم عنك، فأذن له فخرج وقال: - أبي يقرئكم السلام ويقول لكم - إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم - كان على الشعراء أن يتنبهوا ولكن الطمع أعمى أبصارهم فتوسلوا إليه ببعض جلساته، فقال يا أمير المؤمنين: الشعراء ببابك وأقوالهم باقية وسهامهم مسمومة - قال عمر مالي وللشعراء؟ - قال صاحبه: يا أمير المؤمنين إن النبي قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم قال: صدقت فمن بالباب منهم؟ قال ابن عمك عمر بن أبي ربيعة، قال: لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه، أليس هو القائل:

ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنم

والله لا دخل علي أبدا. فمن بالباب غيره؟ قال: جميل بن معمر العذري - قال عمر هو الذي يقول:

ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت ... يوافق في الموتى ضريحي ضريحها

فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد سوى عليها صفيحها

أضل نهاري لا أراها ويلتقي ... مع الليل روحي في المنام بروحها

أغرب به، فو الله لا دخل علي أبدا - فمن غير من ذكرت؟ قال: كثير عزة، قال هو الذي يقول:

رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا

لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا

فمن بالباب سواه؟ قال الأحوص الأنصاري - قال أبعده الله، ثم من؟ قال همام بن غالب الفرزدق، قال لا دخل علي أبدا، وذكر لكل منهما شعرا يفسقه به ثم قال فمن غير من ذكرت؟ قال: الأخطل التغلبي قال: أليس هو القائل:

فلست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بزاجر عنسا بكورا ... إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بقائم كالغير يدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح

ولكني سأشربها شمولا ... وأسجد عند منبلج الصباح

فو الله لا وطئ لي بساطا أبدا، وهو كافر. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قال: جرير بن عطية قال: فإن كان لا بد فهذا - فلما مثل بين يديه قال اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقا، فأنشد قصيدة من رائع الشعر يشكو فيها ما أصاب قومه، ويذكر ما يرجونه من جود الخليفة وعطفه، ويمدح عمر مدحا سريا وفيها يقول

كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

ممن يعدك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر

يدعوك دعوة ملهوف كأن به ... خبلا من الجن أو مسا من البشر

إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر

أتى الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر

فقال يا جرير والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله (يريد ولده) ومائة أخذتها أم عبد الله. يا غلام أعطه المائة الباقية، فخرج جرير يقول - إنها لأحب مال كسبته إليز ويسأله الشعراء: ما وراءك؟ فيقول: ما يسوءكم. خرجت من عند خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء. . وإني لراض عنه

على محمد حسن العماري