مجلة الرسالة/العدد 940/قانصوه الغوري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 940/قانصوه الغوري

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1951



سلطان مصر الشهيد

للأستاذ محمود رزق سليم

الفصل الرابع

أقوال وأحاديث

بعد تولية السلطان الغوري ببضع سنوات، جلس الشيخ (ولي الدين القوصي) الفقيه، في إحدى مسائيات شهر رمضان تجاه مسجد الغوري، الذي أنشأ حديثا في حي الشرابشيين، في حانوت صديق له يمتهن حرفة الحياكة، ويتعاطى صناعة الأدب. . ويدعى (علم الدين الخياط).

خرج (علم الدين) من غمار عاميته بعض الخروج، وأصبح ربع مثقف. ولقد كان رجلا سمح الوجه، رطب الحديث، حسن اللقاء، يحب الأدباء من مجالسهم، ومن أفواههم، خليطا من النكات البارعة، والمحاضرات اللطيفة، والقولات النافعة. ودس نفسه في مجالاتهم، وعانوه عمله على أن يكون له من بينهم عدة من الأصدقاء.

أقبل الناس على (علم الدين) وكثرت زبائنه، فاتسع حانوته وازدان وتجمل. واستطاع أن يحتجز ركنا من أركان هذا الحانوت، ليكون مكانا مطمئنا، وملتقى هادئا، يتداعى إليه أصدقائه.

وكان أجمل ما يكون اللقاء بينهم في تلك الليالي الرمضانية الجميلة التي يحلو فيها السفر والسمر والحديث.

ولقد أعد (علم الدين) بهذا الركن عدة من مصاطب واطئة كساها بالحصير الملون. وربما تجد ببعض جوانبها وسائد وحشيات تلطف الجلسة وتهون أمرها وتسهل إطالتها، بل ربما تغري بها وتدعوا الأصدقاء إليها.

وأنتشر في نواحي الحانوت، القناديل الزيتية النظيفة الوضيئة فأضفت عليه ثوبا جذابا من النور.

وكان (ولي الدين) الفقيه، ممن يفد إلى (علم الدين) ويتردد عليه من آن لآن، ومجالسه ف حانوته ويقيم معه في ركنه المعد لضيفانه، زمنا ليس بالقليل بل ربما كان (ولي الدين) من خاصة خلصانه الذين أدمنوا القبوع في ركن حانوته الوثير وفي الليلة المذكورة وفدا إليهن وفاء لموعد اتفقا عليه، ليجتمع إلى سمرها طائفة من الأصدقاء، يطالع بعضهم بعضا بالجديد من أخباره واللذيذ الممتع من قصصه، والخفي من مذخرات علمه.

وكان علم الدين، وولي الدين، من يجلس إليهما، قد اعتادوا أن يتناولوا في مجالسهم أخلاطا من مسائل شتى قد لا تجمعها جامعة، إلا مناسبات استطرادية تافهة، وهي ما بين روايات أدبية، وطرف فكاهية، وأحاديث سياسية، ونقدات اجتماعية، ومساءلات فقهية، وعظات تاريخية، ونحو ذلك.

وقد يحمي بينهم وطيس الجدل والنقاش. وقد يسفل بهم الحديث وخفه ولجاجة، إلى مجانة ممجوجة، ودعابة مكشوفة، وقد يرتفع بهم الحديث، فيسمون إلى أعلى المقامات. . فينقدون النقد المر اللاذع حقاً كان أم باطلاً. . . صواباً كان أم خطأ. . . حتى إذا ما انفض سامرهم، وانقضى مجلسهم، انفض كل شيء من حديثهم فيه، وانقضى. ولم يبق في ذهنهم ولا لسانهم من أثره شيء وإن علقت أشياء منه بنفوسهم ولونت عواطفهم.

غير أن خطر هذا الحدث - إن كان ثمة خطر - لا يتعدى دائرة هذا الحانوت. . . وما كان لخطره أن يتعداها. . . لأن هؤلاء المتحدثين أشباه مثقفين، ثم لبس لهم صلة وثيقة بالعامة تجمعه معها على رأي: وليسوا بواجدين من يصيخ لهم إذا أهابوا، أو إذا دعوا. ثم إن العامة غافلة لاهية، وحولها هذا النطاق الحديدي للضروري من السلطان وأمرائه ورجال دولته.

ثم ما لهؤلاء والجهاد والكفاح وهم لم يجتمعوا قط إلا لتسلية وقطع وقت فراغ؟

هبت أنسام الليل وانية لطيفة، فأيقظت من الأذهان راقدها، وأنشئت من النفوس كاسدها، وكان الجمع قد التأم شمله: وانتظم عقده، ومن بينه أديب يتعاطى الشعر يدعى (شهاب الدين) ومتعمم من مستوفى الدولة يسمى (زكي الدين)، وتاجر من جيران علم الدين، ولقبه (غرس الدين)، وآخرون على غرارهم.

قال الشيخ ولي الدين: ما أجمل هذه الأنسام، وما ألطفها، وما أرق فؤادها، وما آسى يدها، إنها لتسري إلى النفس فتبعث يها نشوة غريبة، وتهزها هزة الفرح والسرور والابتهاج، كأنما تعطف بها على أهل الأرض سكان الجنة.

أما الأمس فقد شقت الهاجرة علينا عصا الطاعة - على غير عادتها في مثل هذا الوقت - ولفحتنا بصفات حامية من يديها متوالية. وقد عاونتها علينا تلك الرمال السافية اليقظى التي كانت ناعسة الجفون في حضن الجبل، فحركتها الرياح من سباتها، وأقلقتها من مضجعها، وشهرتها سلاحاً تؤذي به من يعترض سبيلها. . .

فقال التاجر غرس الدين: وأين كنت يا مولانا الشيخ في ذلك الوقت القائظ؟ إن المرء حين ذلك لتجتمع عليه عدة عوامل تدفعه دفعا إلى منزله، لينال قسطا من النوم أو الراحة. فالحر الشديد، والرياح الشاردة، والرمال الهابية، وانفضاض السوق من التجار والمارة، وآلام الصوم، وما تعانيه البطون من الطوى، كل أولئك يغري المرء بالتماس الدعة والجنوح إلى السكون في عقر داره. . .

فقال الشيخ ولي الدين: حقاً! كل يغري بطلب الراحة والاستجمام: ولكن لي صديقا مريضا، احتجب عن عيني منذ أمد، فوددت أن أزوره وفاء للصداقة وطلباً للأجر. . .! وكنت أخشى أن يضيق وقت الليل عن زيارته. ولقد اضطرت مرارا أن أسير غامض العينين في الطريق حتى لا يؤذيني الغبار. ولا أكاد أفتحهما حتى تقتحمهما ذراته، فتقطر عبراتهما. . .

ثم أتدري ماذا أصابني؟ صادفت حفرة لم أحتط لها، فترديت فيها عاثرا في فضل ردائي، وأصبحت بذلك عبرة للمارة من الصبية وأشباه الصبية ألا اله الهرم وضعفه.

فقال التاجر غرس الدين: هنيئاً لك مرئياً يا مولانا. . .! (ضحك).

فرد الشيخ ولي الدين قائلا: هنأك الله يا بني، وأحسن إليك بأمثالها.

فقال الشاعر شهاب الدين: جاء في الحديث الشريف ما معناه: (إنما الأعمال بالنيات) وقال بعض الشارحين عن هناك مضافا محذوفاً، تقديره (جزاء الأعمال). . . (ضحك).

فقال الشيخ ولي الدين: صه! متى عرفت الفقه والحديث أيها الشعرور. . .؟ لا تلغ فيما لا تعرف. . ولا ترف وكيف. . حسبك أبيات هزيلة تقيم أودها، وقواف نحيلة ترمم جسدها. . ثم تدفع بها بين أسماعنا المصطكة، وتطن بها الذباب. . ألا قاتل الله حمقى زماننا من أمثالك الذي يحسبون أنفسهم في الشعراء وهو لا يحسنون قراءة الشعر وتقويم بيت من أبياته. . . ألم ما قاله من قبلنا مجد الدين الخياط. . لقد قال:

وفي متشاعري عصري أناس ... أقل صفات شعرهم الجنون

يظنون الفريض قيام وزن ... وقافية وما شاءت تكون. . .

فقال شهاب الدين: هكذا أنتم يا معشر الفقهاء، تتأولون. . .! الشيخ أنني قصدت أن الله عجل لك الجزاء في الدنيا،. . . لعله يدخره لك في الآخرة!

أما نحن فإننا نعرف أن بعضنا من أمثالك الشيوخ بزلقون عن عمد في الطريق تمهيداً لغاية، وسبيلاً إلى مأرب. . . وقد قال أحد الشعراء:

إذا ما الشيخ ردى في طريق ... وفاء الناس من جزع إليه

فذاك لكي يرى غرا صباحا ... تحن لفرط نجدتها عليه. . .

أما فقهكوحديثك فكما قال كمال الدين الإدفوي:

إن الدروس بمصرنا في عصرنا ... طبعت على لغط وفرط عياط

ومباحث لا تنتهي لنهاية ... جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط

ومدرس يبدي مباحث كلها ... نشأت عن التخليط والإحلاط

ومحدث قد كان غاية علمه ... أجزاء يرويها عن الدمياطي

وفلانة تروي حديثاً عاليا ... وفلان يروي ذاك عن أسباط

والفرق بين عزيزهم وغزيزهم ... وافصح عن الخياط والحناط

والفاضل التحرير فيهم دأبه ... أقوال وسطاليس أو بقراط

علوم دين الله نادت جهرة ... هذا زمان فيه طي بساطي

فقال الشيخ ولي الدين: اتق الله أيها الشويعر، ولا تظن بالناس الظنون، ونحن في رمضان. . .

فقال شهاب الدين: إذا لننتظر حتى يودع رمضان. وبعد ذلك تسن لنا الظنون. . .؟ (ضحك).

فقال الشيخ ولي الدين: لا! أعني أن رمضان فترة زمنية طاهرة مباركة، يتجمل المرء فيها بالسليم من الأخلاق والكامل من الأحاديث، ليكون صيامه من كل شابة. ولعل النفس تصفو خلاله، فيستمر لها من بعده صفاؤها. . . .

فقال التاجر غرس الدين: لقد صمت يا مولانا أكثر من أربعين وصمت أنا أكثر من ثلاثين. فهل صنت نفسك؟ أو لا تزال في حاجة إلى تجارب أخرى جديدة. . .

فقال الشيخ: قال الله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) والصوم عبادة مشروعة وتهذيب للنفوس.

فقال المستوفي زكي الدين: يبدو أن مولانا قد أثرت فيه أنسام هذه الليلة، فانسجم في حديثه. . . أفلا تخبرني أين تصلي الفجر القادم؟ ليكون لي حظ الجماعة من خلفك. .؟ (ضحك).

فقال الشيخ: حتى أنت تورى يا زكي الدين. . .؟

لقد هزأت حتى بدا من هزالها ... كلاهما وحتى سماها كل مفلس

يا معشر القاهربين! أنتم لا تفوتكم النكتة، ولا تفلتكم التورية، ولو كانت على أنفسكم، حتى أصبحتم فيها مضرب الأمثال.

وما دمت يا زكي الدين تريد المزاح، فإن لك متسعا في مسجد الشرابشين. . . (ضحك).

فقال علم الدين: الأقل لنا يا مولانا الشيخ! ما حكم الشرع في الصلاة في هذا المسجد؟

فقال الشيخ: حكم الصلاة؟ مباحة في كافة المساجد، وفي الأماكن الطاهرة، لا حرمة فيها على المصلي، أما الجمعة وخطبتها، فقد أجاز الحنفية تعددها في المدينة الواحدة. وقد أفتى قاضي الحنفية الشيخ عبد البربن الشحنة، لمولانا السلطان الغوري بجوازهما في مسجده هذا، وأذن السلطان بها.

فقال علم الدين: أنا لا أسأل عن حكم الصلاة من هذه الناحية. وإنما قيل إن السلطان بناه بأموال جميعها ظلما وجوراً وعدوانا: فهل تصح صلاة في مسجد لم يؤسس على التقوى؟

الشيخ: أما الجور فوزره على من يجور. وأما الصلاة فليس هناك ما يبطلها في مثل هذا المسجد. فالصلاة صحيحة، وإن لزم المصلى حرمة. .

ثم إن الله تعالى بذات الصدور، وهو يزن الأعمال صالحها وطالحها، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.

علم الدين: أعلمت يا مولانا الشيخ كيف بنى السلطان مسجده هذا؟

الشيخ: لقد تهاوى إلى سمعي منذ أمد ما اجترحه السلطان حين تصدى لبناء هذا المسجد وتشييده وتجميله. ولكني دائما لا أسرع إلى الظن بالناس، فإن بعض الظن إثم. . ثم إني أكره الغيبة والنميمة، وأعرف ان أهل مصر لا تطاق ألسنتهم. . ويل لامرئ تقع عيونهم منه على مذمة، أو تسمع آذانهم عنه منقصة، فإنهم لا يغفرون له ذنبا، ولا يسترون له عيبا. وقد يبالغون في لومه والحملة عليه بما لا يستحقه. . .

ثم إن هذا المسجد قد افتتحه السلطان ومعه قضاة القضاة. فحضورهم معه في افتتاحه والصلاة فيه فتوى ضمنية للعامة بجواز إقامتها فيه. فأن يكن هناك إثم أو حرمة، فهي لاصقة بهم. . . ولكن كيف جمع السلطان هذه الأموال ظلما وجوراً؟

فقال المستوفي زكي الدين: الحق أن السلطان قد اشتط في فرض الغرامات على المتهمين، وجاوز في ذلك حد العدالة. وأصبحت أقرب عقوبة يؤدبهم بها الغرم المالي. فامتلأت بذلك الخزائن الشريفة. . .

ربما كان له عذر عند أول عهده بالسلطنة، لأنه وجد خزائنها خاوية على عروشها، بعد أن عانت ما عانت إبان عهد الملك العادل وفتنته. . . أما الآن وقد امتلأت بالدنانير، وغصت بالأموال فلا معنى لكل هذه الغرامات والمصادرات. . .

إن مدرسته المنشأة في هذا الحي، قد أنفق على أموال المصادرات ووجوه الظلم. وبعثر على تزيينها ما فرضه من الغرامات الممتلكات وأراضي الأوقاف حتى أوقاف البيمارستان المنصوري قد فرض عليها مالاً.

ولم يقف عند هذا الحد، بل غلا في البناء، وبالغ في الزخرف، وجلب إلى مدرسة الرخام النفيس النادر وقد ابتاعه من مالكيه بأبخس الأثمان. وخرب قاعة شموال اليهودي الصيرفي، ونقل منها رخامها وأبوابها قسراً، وهكذا. . . حتى سماها بعض الظرفاء: (المسجد الحرام)! (ضحك).

فقال الشاعر: وقال فيها أيضا بعض الشعراء:

بني الأشرف الغوري للناس جامعا ... فضاع ثواب الله فيه لمطالبه

كمثل حمام جمعت في شباكها ... متى تلقى عنها طار كل لصاحبه

فقال المستوفي: أجل! ثم إنه بافتتاحها، وأقام الولائم الحافلة للأمراء، والقضاة وأعيان الدولة، فأمر الناس فأقاموا علي دورهم وحوانيتهم معالم الزينة، وعلقوا القناديل الموقودة.

وقد عقد بهذه المدرسة تلك القبة العظيمة التي غلفها بالقاشاني الأزرق، وخلع على عدد كبير من اشترك في بنائها من المهندسين والبنائين والنجارين والمرخمين وغيرهم من الصناع خلعا ثمينة، وأنعم عليهم بالإنعامات النفسية، وأعطى كل (فاعل) ألف درهم.

(للكلام بقية)

محمود رزق سليم