مجلة الرسالة/العدد 940/في الحديث المحمدي
مجلة الرسالة/العدد 940/في الحديث المحمدي
9 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
الإسرائيليات في الحديث:
لما قويت شوكة الدعوة المحمدية واشتد ساعدها، وتحطمت أمامها كل قوى تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها، ويصدون على سبيلها، إلا أن يكيدوا لها من طريق الحلية والاختراع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بوسائل القوة والنزاع.
ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار، فلا يعترفون لأحد من غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة، فإن دهاتهم وأحبارهم لم يجدوا بدا بعد أن غلبوا على أمرهم وأخرجوا من ديارهم من أن يستعينوا بالمكر ويتوسلوا بالدهاء لكي يصلوا إلى ما يبتغون. فسول لهم المكر اليهودي بأن يتظاهروا بالإسلام ويطووا نفوسهم على دينهم، حتى يخفي كيدهم ويجوز على الناس مكرهم. وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء ومكرا كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سبأ فاستعلنوا بإسلامهم، واندسوا بين المسلمين مظهرين عبادتهم وورعهم.
ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت وأن المسلمين قد اعتزوا بهم وسكنوا إليهم، جعلوا همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم؛ وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها، ما يريدون من أساطير وخرافات، وأوهام وترهات، لكي تهيئ هذه الأصول وتضعف. ولما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالكتابة والتدوين، وأستظهره الكثير من المسلمين، وأنه قد أصبح بذلك في منعة من أن يزاد فيه كلمة أو يتدسس إليه حرف - اتجهوا إلى السنة القولية فافتروا على النبي أحاديث لم تصدر عنه، وأعانهم على ذلك أن ما تحدث به النبي في حياته لم يكن محدود المعالم ولا محفوظ الأصول، وأن في استطاعة كل ذي هوى أو دخلة سيئة أن يتدسس إليه بالافتراء، ويسطو عليه بالكذب؛ ذلك بأنه لم يدون في عهد النبي كما دون القرآن، ولا كتبه أصحابه من بعده، وقد يسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما يجهلون من أمور العالم الماضية والمستقبلة - واليهود بما لهم من كتاب وبما فيهم من علماء وأحبار يعتبرون أساتذة العرب الأميين فيما يجهلون.
قال الحكيم أبن خلدون في مقدمته عندما تكلم عن التفسير النقلي، وأنه يشمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود: والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهود، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم. . وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات. وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة.
وقال أبن كثير في تفسيره (لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضى الله عنه فربما استمع له عمر فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غث وسمين).
ومن أجل ذلك كله أخذ أولئك الأحبار يبثون في الدين الإسلامي أكاذيب يزعمون مرة أنها في كتابهم، ويدعون أخرى أنها من مكنون علمهم، وما ذلك كله إلا من مفترياتهم. وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق والكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتبهم، ومن جهة أخرى فإنهم أقل منهم دهاء وأضعف مكرا، وراجت بذلك هذه الأكاذيب وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يبثه هؤلاء الدهاة بغير بحث ولا نقد، معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه.
وقبل أن نعرض لبيان هذه الإسرائيليات التي امتلأت بها كتب الحديث والتفسير والتاريخ نأتي بفذلكة صغيرة من تاريخ هؤلاء الأحبار الذين بثوا هذه الإسرائيليات ليكون القارئ على بينة منهم.
كعب الأحبار
هو كعب بن مانع الحميري من آل رعين - وقيل من ذي الكلاع من اليمن، كان من أحبار اليهود وعرف بكعب الأحبار، أسلم في عهد عمر وسكن المدينة في خلافة عمر ثم تحول إلى الشام في زمن عثمان ومات بحمص سنة 32 أو سنة 34هـ.
وقد استصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه كما يقولون وأمره أن يقضي. . وقال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ. . قدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم - وروى عنه جماعة من التابعين مرسلا.
سبب إسلامه:
وضع كعب الأحبار لإسلامه سببا عجيبا ليتسلل به إلى عقول المسلمين، فقد أخرج أبن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم في عهد النبي وأبي بكر؟ فقال عن أبي كتب لي كتابا من التوراة فقال اعجل به، وختم على سائر كتبه، وأخذ على بحق الوالد على الوالد أن لا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبي غيب عني علماً ففتحتها فإذا صفة محمد! وأمته! فجئت الآن مسلما!
وروى عن عبد الله بن عمر أن رجلاً من أهل اليمن جاء إلى كعب فقال له: إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة. فقال كعب هاتها! فقال: إنه يقول لك، ألم تكن سيدا شريفا مطاعا؟ فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعاً إليه؟ قال نعم: قال إن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا ينفر منك! وقل له يقول لك: أسألك بالذي فلق البحر لموسى وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى أبن عمران فيها علم كل شيء ألست تجد في كلمات الله تعالى أن أمة محمد ثلاث أثلاث، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب! وتلك يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة! وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد! فإنه سيقول لك نعم! فقل له يقول لك كعب: اجعلني في أي الثلاث شئت!
وهب بن منير:
قال المؤرخ جورجي زيدان في تاريخ التمدن التمدن الإسلامي هو فارسي الأصل جاء إلى جده إلى اليمن في جملة من بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة، فأقاموا هناك وتناسلوا، وصاروا يعرفون بين العرب (بالأبناء) - أي أبناء الفرس ومنهم طاووس بن كيسان التابعي الشهير.
وكان آباء وهب على دين الفرس (المجوسية أو الردشتية) فلما أقاموا بين اليهود أخذوا عنهم بآداب اليهود وتقاليدهم فتعلموا شيئاً من النصرانية. وكان يعرف اليونانية (وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير) وقد أدرك عدة من الصحابة وروى عنهم. ومن أقواله: إني قرأت من كتب الله 72 كتابا! ومن أجل ذلك كان للمسلمين ثقة كبرى به.
وقال الذهبي عنه في تذكرة الحفاظ. ولد سنة 34هـ روى عن أبي هريرة وعن عبد الله بن عمر وأبن عباس وتوفي بصنعاء سنة 110هـ وقيل غير ذلك.
كيف استحوذوا على عقول المسلمين
اتبع هؤلاء الأحبار بدهائهم العجيب طرقا غريبة لكي يستحوذوا بها عقول المسلمين ويكونوا بذلك محل ثقتهم وموضع احترامهم. وإليك طرفا من هذه الأساليب الغربية التي كانوا يتخذونها ليستولوا بها على عقول الصحابة فيركنوا إليهم ويثقوا بهم ويأخذوا عنهم.
أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام وهو من كبار أحبار اليهود الذين أظهروا الإسلام. أنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبد المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام وهذا الذي أخرجه الترمذي عن أبن سلام قد أحكمه الداهية كعب1 فقد ذكر الحافظ أبن حجر في الفتح أن الدرامي روى عن كعب في صفة النبي في التوراة قال: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام. وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة أو الخرافة حتى وجدناه في سنن الدرامي كذلك، ومصدره الداهية الأكبر كعب، ووجدنا للسطر الأول تكملة لم يأت بها عبد الله بن سلام، فقد روى ذكوان عن كعب قال في السطر الأول: محمد رسول الله عبدي المختار لافظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام. وفي السطر الثاني: محمد رسول الله، أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزل، ويكبرون على شرق رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأسها كناسة، ويأنزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل.
وهذا الكلام قد أورده أبن سعد في طبقاته عن أبن عباس في جواب لكعب، وذكره كذلك ممن عند نفسه أحد تلاميذ كعب: عبد الله بن عمرو بن العاص كما رواه البخاري عندما سئل عن صفة النبي في التوراة.
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: مكتوب في التوراة صفة النبي وعيسى أبن مريم يدفن معه! وروى الجواليفي في المغرب أن أبن الأعرابي ذكر عن كعب أنه قال: أسماء النبي في الكتب السالفة محمد وأحمد وحمياط أي حامي الحرم! وروى القاضي عياض في الشفاء أن وهب أبن منبه قال:
قرأت في أحد وسبعين كتابا فوجدت في جميعها: أن النبي أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا - وفي رواية أخرى - فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جانب عقله (ص) إلا كحبة رمل بين رمال الدنيا!
والذي أغرى كعب الأحبار بالرواية والاتساع فيها أن عمر كان في أول الأمر يستمع إليه ثم توسع الناس في الأخذ عنه، وبالغ هو - كما قال الحافظ بن كثير (في نقل ما نقل من الأشياء إلى كثير منها ما يساوي مداده) ولما تبين لعمر أنه كذاب منع الأخذ عنه، ونهاه عن الرواية عن النبي، وأنذره إذا هو روى أن يعيده إلى بلده.
المنصورة
للكلام صلة
محمود أبو رية