مجلة الرسالة/العدد 940/عقيدتي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 940/عقيدتي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1951



للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر اندرسل

للأديب عبد الجليل السيد حسن

الفصل الخامس

العلم والسعادة

غرض الأخلاقي أن يصلح سلوك الناس، وهذا طموح حميد، لأن سلوكهم إلى حد بعيد يستحق الرثاء، ولكني لا أستطيع أن أمدح الأخلاقي على ما ينشده من إصلاحات خاصة أو على ما يصطفى من طرق لبلوغها، فطريقته الواضحة، هي النصح الخلقي، ومنهجه الحقيقي هو نظام الجزاء والعقاب الاقتصادي والطريقة الأولى تأثيرها غير دائم أو هام، فتأخير الإحصائيين منذ (سافونا رولا) فنازلا كان دائما وقتيا. والثانية - أي الجزاء والعقاب - لها تأثير قوي، فقد جعلت المرء مثلا يفضل عاهرة عارضة على سيدة شبه دائمة، لأنه من الضروري أن تتبع الطريقة الأسهل تخفيا، وهم من أجل ذلك يبقون على عدد من المهن الخطيرة ليحموا بها انتشار داء الزهري، ومع ذلك فليست هذه الموضوعات التي ينشدها الأخلاقي، ولكنه ليس علميا حتى يلاحظ أنها هي الموضوعات التي حصل عليها حقيقة.

ولنر الآن. . هل هناك من شيء أحسن من هذا يمكن أن يكون عوضا عن هذا الخطط غير العلمي من الوعظ والرشوة.؟ أحسب إن هناك شيئاً مثل ذلك.

أعمال الناس مضرة سواء عن جهلهم أو عن رغباتهم السيئة، وحينما نتكلم من وجهة النظر الاجتماعية قد نعرف (الرغبات السيئة) بأنها تلك التي تتجه إلى اعتراض رغبات الآخرين أو بالأحرى هذه التي تعترض من الرغبات أكثر مما تعضد، وليس من الضروري أن يقف طويلاً عند الضرر الذي ينبعث عن الجهل، فكل ما يحتاج إليه حينئذ هو معرفة كثر، ولهذا يكمن طريق الإصلاح في بحث أكثر وتربية أعظم، ولكن الضرر الذي ينبعث عن الرغبات السيئة أمر أكثر صعوبة.

وهناك مقدار من الحقد الفعال عند الرجل والمرأة العاديين ولدى كل منهما ضغن خاص بوجه نحو أعداء معينين، وسرور عام مبهم لمصائب الناس، وعادة يوشي كل ذلك بكلمات مغسولة، وإن ما يقرب من نصف الأخلاق المألوفة، لهو عبارة عن عباءة ورداء لها، ولكن يجب أن يواجه الأمر بصراحة، إذا أراد الأخلاقيين أن يبلغوا هدفهم في إصلاح الأعمال وقد بدا ذلك بآلاف الطرق، صغيرة وكبيرة: في الغبطة التي يكرر الناس بها الفضيحة، ويعتقدون في صحتها؛ وفي معاملة المجرمين القاسية رغما عن البراهين الجلية في أن المعاملة الحسنة أثرها أكبر في إصلاحهم؛ وفي هذه الوحشية العجيبة، التي يعامل بها جميع الأجناس البيض الزنوج؛ وفي الانشراح الذي تبديه السيدات العجائز والقسيس نحو الخدمة الحربية على الشباب أثناء الحرب؛ وحتى الأطفال قد يكونون موضوعات للقسوة الرعناء، فدافيد كوبر فليد، وألفرتوست ليست كلهم خيالية وهذا الحقد الفعال أسوأ سمة في طبيعة الإنسان؛ ومن الضروري تغييره إذا كان العالم أن يسعد. ومن المحتمل أن هذا السبب ووحده له دخل كبير في الحرب أكثر من الأسباب الاقتصادية والسياسية مجتمعة.

فكيف نعمل للقضاء على مشكلة الحقد؟

أولاً دعنا نحاول أن نفهم عللها، وها هي ذي كما أحسبها؛ بعضها اجتماعي وبعضها فسيولوجي. فالعالم الآن وكما كان في أي زمن سالف، مؤسس على النزاع بين الموت والحياة، وكان السؤال في النشرة أثناء الحرب هو: هل ألمانيا أو أطفال الحلفاء يجب أن يموتوا من الحاجة والمسبغة.؟ (وبصرف النظر عن الحقد عند كلا الطرفين فلم يكن هناك من الأسباب ما يمنع أن يعيش كلاهما؟) ومعظم الناس يتمثلون في أغوار عقولهم خوفاً ملازماً من الدمار. وهذا على الأخص صحيح عند ذوي الأطفال. أما الأغنياء فيخشون أن يصادر البلاشفة أموالهم. والفقراء كذلك يخشون فقد وظائفهم أو صحتهم، وكل منهم منهمك في مطاردة (السلام) الجنونية، ويتخيلون أمهم يبلغون إلى ذلك بإبقاء أعدائهم الأشداء خاضعين، وفي لحظات الذعر العام تنتشر القسوة على نطاق واسع وجد فظيع، والرجعيون في كل مكان يلجئون إلى الخوف، ففي إنجلترا الخوف من البلشفية، وفي فرنسا الخوف من ألمانيا، وفي ألمانيا الخوف من فرنسا. والنتيجة الوحيدة لما يلجئون إليه هو زيادة الخطر ضد ما يرغبون النجاة منه.

ومن ثم يجب أن يكون أول ما يهم الأخلاقي ذي النزعة العلمية، أن يقاتل الخوف بطريقتين: بزيادة الأمن ويغرس الشجاعة. وأنا أتحدث عن الخوف كانفعال غير معقول للمصائب المحتملة الوقوع، فحينما تشتعل النار في مسرح يدرك الرجل العاقل الكارثة تماماً كالرجل الذي مسه الذعر، ولكنه يتخذ طرقاً من المحتمل أن تخفف من الكارثة، بينما الرجل الذي مسه الذعر يزيدها أوارا. وأوربا منذ سنة 1914 كالمشاهد الذي مسه الذعر في المسرح المشتعل، وما يحتاج إليه هو الهدوء وإرشادات السلطات ن كيفية الهرب دون أن يسحق بعضهم بعضا أثناء هذه العملية. والعصر الفكتوري رغما عن سيئاته كان فترة تقدم سريع، لأن الناس كان يغلب عليهم الأمل أكثر من الخوف ولو أردنا التقدم ثانية يجب أن يسودنا الأمل.

وكل شيء يزيد في الأمن العام، ومن المحتمل أن يقلل من القسوة. وينطبق هذا على منع الحرب سواء عن طريق عصبة الأمم، أو يمنع الفاقة، والعمل لبلوغ صحة أحسن بالنهوض بالطب والصحة الوقائية. أو بطرق أخرى تخفف من وطأة المخاوف التي تتوارى في أغوار عقول الناس وتلوح كالكوابيس حين ينامون. ولكن لن يتم شيء بمحاولة جعل جزء من الجنس البشري يسعد على حساب جزء آخر. الفرنسيون على حساب الألمان، والرأسماليون على حساب العمال، والبيض على حساب الصفو، وهكذا دواليك، فأن مثل هذه الطرق تزيد الرعب بين الجمهور الساد مخافة أن يقود الاستياء المظلومين إلى الثورة. والعدالة هت التي تنشر (الأمن) وأعني بالعدالة، معرفة الحقوق المتساوية لكل الكائنات البشرية.

وهناك علاوة على التغييرات الاجتماعية المقصود بها أن تأتي بالأمن، وسائل أخرى فعالة لإنقاص الخوف، أعني بذلك نظاما مقتنعا يقصد به زيادة الشجاعة. ولأهمية الشجاعة في المعارك قد أكتشف الأولون وسائل لزيادتها بالتربية والطعام - فكان من المعتقد مثلا أن أكل لحوم البشر مفيد. ولكن الشجاعة الحربية كانت تعتبر امتيازاً للطبقة الحاكمة، فكان الإسربطيون يجب عليهم أن ينالوا حظا من الشجاعة أوفر من الرقيق، والضباط البريطانيون أكثر من العسكر الهنود، والرجال أكثر من النساء، وهكذا دواليك. وكان من المفروض منذ قرون أن يكون ذلك امتيازاً للأرستقراطية، وكل زيادة في الشجاعة لدى الطبقة الحاكمة كانت تستعمل في زيادة الأوقار على المظلومين، ومن ثم تزداد بواعث الخوف عند المستبدين، ولذلك يتركون أسباب الخوف ولا يقللونها. والشجاعة يجب أن تمقرط قبل أن تجعل الناس إنسانيين.

وقد تمقرطت الشجاعة إلى مدى بعيد بالحوادث الراهنة، فإن النسوة المطالبات بحقوق الانتخاب أبدين أن لديهن من الشجاعة ما عند أشجع الرجال، وهذا البرهان الواضح كان ضروريا لكسبهن حق التصويت. ويحتاج الجندي العادي في الحرب إلى مثل شجاعة الكابتن أو الضابط وأكثر من الجنرال والبلاشفة الذين يدعون أنفسهم أبطال (البروليتاريا) لا تنقصهم الشجاعة مهما قبل عنهم، وقد ثبت هذا باستشهادهم في حقبة ما قبل الثورة وفي اليابان حيث كان سابقاً محتكرين الأعمال الحربية دعا التجنيد الإجباري إلى الحاجة إلى الشجاعة بين الذكور من السكان وهكذا من بين كل (القوى العظمى) قد بذل الكثير في نصف القرن السالف لجعل الشجاعة أقل من ذلك وقفا على الأرستقراطيين: ولو لم تكن هذه الحالة، فإن الخطر على الديمقراطية أعظم مما هو كائن.

ولكن الشجاعة في الحرب ليست الصورة الوحيدة، بل لعلها ليست أهم الصور، فهناك الشجاعة في مواجهة الفقر، والشجاعة في مواجهة الاستهزاء، والشجاعة في مواجهة عشيرة المرء له، وفي كل ذلك غالباً ما يكون أشجع الجنود عاجزاً إلى حد محزن وهناك فوق كل ذلك شجاعة التفكير بهدوء وعقل في مواجهة الخطر، وفي كبح جماح نزوات الخوف العنيف والغضب الشديد وهذه بالتأكيد أشياء تساعد التربية على نيلها وتعليم كل صور الشجاعة يتم بسهولة بالصحة الجيدة والبنية القوية والغذاء الكافي وإخلاء الطريق للدوافع الحيوية الأساسية، وربما اكتشفت المصادر الفسيولوجية للشجاعة بمقارنة دم قطة بدم أرنب. وليس هناك من حد قد يستطيع العلم أن يفعله في زيادة الشجاعة فمثلا التدريب على الخطر، والعيشة، والبيئة الرياضية، والطعام الملائم: كل هذه أشياء يتمتع بها أبناء الطبقة الدنيا عندا إلى مدى بعيد، ولكن ما زالت إلى الآن من امتياز الأغنياء. والشجاعة التي تشجع كثيرا بين الطبقات الفقيرة من المجتمع، هي شجاعة تحت الأوامر، وليست من النوع الذي يشمل الابتكار والقيادة، وحينما تصبح الصفات التي تؤهل لقيادة عامة، فلن يكن يكون هناك قادة ومقودون، وستتحقق الديمقراطية أخيرا.

ولكن ليس الخوف هو المصدر الوحيد للحقد. فالحسد واليأس لهما دخل في ذلك؛ فالأمثال مستفيضة بذكر العرج والحدب من مصادر عاهات ومصائب أكثر من مصائبهما تنتج نتائج مشابهة، فالرجل أو المرأة الذي عجز جنسيا يصلح لأن يفعم بالحسد، ويظهر هذا بصورة اللعن على من هم أكثر حظاً منها. وأكثر القوى الدافعة إلى الحركات الثورية ترجع إلى حسد الفقراء للأغنياء والغيرة بالطبع شكل خاص من الحسد، (حسد الحب) وغالبا ما يحسد الشيوخ الشباب، وهو حين يفعلون ذلك يميلون إلى معاملتهم بقسوة.

وليس هناك من طريق للتغلب على الحسد كما أعلم، إلا بأن نجعل حياة الحاسدين أسعد وأحفل، وأن نشجع في الشباب فكرة المشروعات الجماعية أكثر من المنافسة وأسوأ أشكال الحسد ما عند الذين لم تكن حياتهم كاملة في سبيل الزواج أو افال أو العمل. ومثل هذه المصائب يستطاع تفاديها في أغلب الحالات بإنشاء منشآت اجتماعية أحسن من القائمة ومع ذلك فأن من المحتمل أن يمكث شيء من بقايا الجسد، ويروي لنا التاريخ أمثلة عدة عن قواد كان كل واحد منهم يغار من الآخر، حتى أنهما كانا يفضلان الهزيمة للإزراء بشهرة الآخر، وعن سياسيين من حزب واحد أو فتانين من مدرسة واحدة، كان يغار أحدهما من الآخر. وفي مثل هذه الحالات يبدو أن ليس هناك من شيء يعمل إلا أن نجعل - على قدر الإمكان - كل منافس غير قادر على ضر الآخر، وأن نعمله أنه يستطيع أن ينتصر بكفاءته الفائقة فقط. وغيره الفنان من منافسه قليلة الضرر، لأن السبيل الوحيد الفعال، لإرضاء رغبته هو أن يرسم صوراً أحسن من صور منافسة، لأنه ليس من المصرح له أن يحطم صور منافسه. وحيثما يكون الحسد أمرا لا يتفادى، يجب أن يتخذ كمحرض لمجهودات المرء الخاصة، لا لتعطيل مجهودات المنافسين.

وقد رأت العلم في سبيل زيادة السعادة ليست مقصورة على إنقاص هذه الجوانب من الطبيعة البشرية التي تدأب على تحقيق الهزيمة المتبادلة، والتي نسميها لذل، الشر، ومن المحتمل أن لا يكون هناك حدود لما يستطيع العلم أن يعمله ي سبيل زيادة الخير الإيجابي، فقد تحسنت الصحة كثيراً بالرغم من عويل هؤلاء الذين يقدسون الماضي، نعمر أكثر، ولدينا أمراض أقل من أي طبقة أو أمة في القرن الثامن عشر، وسنكون قريباً أصح ما نحن عليه الآن باستخدام المعرفة التي حصلنا عليها، ومن المحتمل أن تجعل اكتشافات المستقبل هذه العملية على أوسع نطاق.

وللعلم الطبيعي أشد الأثر إلى حد بعيد في حياتنا، ولكن من المحتمل أن يكون في المستقبل للفسيولوجيا وعلم النفس الأثر الأكبر حينما نكشف الغطاء عن كيفية اعتماد الشخصية على الشروط الفسيولوجية، سنكون قادرين، إذا شئنا، على أن ننتج كثيراً من أنماط الكائنات البشرية التي نستجيدها. والذكاء والقدرة الفنية وحب الخير - كل ذلك يزداد بلا شك بالعلم. ونادرا ما يبدو هنا أية حدود لما سوف يأتي به استعمل الناس للعلم بحكمة في سبيل إحداث عالم سعيد وقد عبرت عن مخاوفي في مكان آخر، من أن الناس قد لا يستعملون القوة التي استخرجوها من العلم استعمالا حكيما وأنا مهتم في الحالة الراهنة بالخير الذي يستطيع الناس عمله إذا اختاروا، وليس بالسؤال: هل سيختارون ما يسيء إليهم أكثر مما ينفعهم؟

وهناك بعض مواقف بصدد استعمال العلم في الحياة الإنسانية أعطف عليها، على رغم أني لا أتفق معها في التحليل الأخير. ومن هذا موقف الذين يخشون (ما ليس بطبيعي) ولقد كان الرائد العظيم لوجهة النظر هذه في أوربا هو (روسو) وفي آسيا الحكيم الصيني (لاوتز) الذي قال بذلك منذ 2400 سنة وكان أشد إقناعا، وإني لأحسب أن هناك خلطا بين الحق والاطل في مسألة الإعجاب بالطبيعة الذي هو أمر جوهري في حل الإشكال ولكي تبدأ في حل هذا الإشكال نتساءل: ما هو الشيء الطبيعي؟ وهو - بدون لف أو دوران - كل ما كان المتكلم متعودا عليه منذ الطفولة، فلاوتز كان يعارض وجود الطرق والعربات، والقوارب ربما لم تكن معروفة في القرية التي نشأ فيها، ولكن روسو كان معتادا على هذه الأشياء، فلم ينظر إليها على أنها شيء ضد الطبيعة، ولكنه كان يرغي ويزيد ضد السكك الحديدة لو أنه عاش حتى يراها، ونحن نعلم أن الملابس والطبخ موجودان منذ القدم، بحيث لا نستطيع أن نقول إنهما أبلغا إلى الناس عن طريق أنبياء الطبيعة، ومع ذلك فهم يعترضون على الطراز الجديدة في كليهما، وأيضا يظن الذين يسمحون بالعزوبة أن تحديد النسل شر؛ لأن الأول (تحديد النسل) انتهاك جديد لحرمة الطبيعة، والثاني (العزوبة) شيء قديم. ومن كل ذلك نرى أن هؤلاء الذين يحبذون فكرة الرجوع إلى كل ما هو طبيعي متناقضون والإنسان مدفوع إلى اعتبارهم محافظين.

ومع ذلك فهناك شيء يقال في صالحهم، مثال ذلك وجود الفيتامينات التي أحدثت اكتشافها انقلابا في خدمة الأطعمة الطبيعة، ولكن يبدو (ذلك واقع الآن) أنه يستطاع استخلاص الفيتامينات من زيت كبد الحوت والأشعة الكهربائية، ومن المؤكد أن هذين ليسا من طعام الإنسان الطبيعي وهذه الحالة تصور ما قد يحدث من ضرر غير متوقع حين فقدان المعرفة لانتقال جديد في الطبيعة. ولكن حينما يفهم الضرر فهو يعالج عادة ببعض أشياء صناعية جديدة، وأنا أجيب فيما يختص بيئتنا الطبيعية ووسائلنا الطبيعية لإرضاء رغباتنا: أن عقيدة (الرجوع إلى الطبيعة) تبرز أي شيء بعد اتخاذ الاحتياطات التجريبية، حين اختيار شيء ملائم. مثلا: الملابس - على العكس من الطبيعة - تحتاج إلى أن يضاف إليها عمل آخر غير طبيعي؛ أعني الغسيل، وذلك إذا أريد منها ألا تأتي بالمرض؛ والعملان مما يجعلان الإنسان أصح من الحيوان الذي يجتنبها.

وهناك كلام أكثر من ذلك يقال بصدد (الطبيعة) في ناحية الرغبات البشرية، وأنه لشيء قاس وخطر أن ترغم الرجل أو المرأة أو الطفل على حياة تتنافى مع أقوى دوافعهم، وبهذا المعنى تمدح الحياة المطابقة لمقتضى (الطبيعة) وليس هناك من شيء أعظم من إنشاء سكة حديد كهربائية تحت الأرض ولكن، على أن لا يؤخذ أي طفل قسرا ليسافر في إحداهما، وعلى العكس يجد معظم الأطفال في هذا الفعل شيئاً من السرور. والأشياء الصناعية وما يماثلها من الأعمال التي تشبع رغبات الكائن البشري العادي، تعد خيرا ولكن لا يقال مثل ذلك عن وسائل الحياة الصناعية التي تفرضها السلطة أو الحاجة الاقتصادية، فمثل وسائل الحياة هذه هي من دون شك ضرورية إلى مدى بعيد في الوقت الحاضر: فالسفر عبر المحيطات يصبح شاقاً جداً إذا لم يكن هناك وقادون يتعبون في السفن البخارية، ولكن الضرورات من هذا النوع، هي مما يؤسف له، وعلينا أن نبحث عن طريق لتجنبها.

وفي الحقيقة ليس قدر معين من العمل بالشيء الذي يتألم منه، ففي تسع حالات من كل عشرة يحمل هذا الإنسان أسعد من الكسل التام، ولكن مقدار ونوع العمل الذي على معظم الناس أن يعملوه في الوقت الحاضر، هو الشر المستطير، وخاصة ما أيأس تلك الحياة الطويلة التي تجعل من الإنسان عبدا لنظام مطرد. والحياة لا ينبغي أن تكون بمثل هذا النظام الرتيب، أو هذه المنهج الدقيق، بل ينبغي أن نفسح المجال لدوافعنا، حينما لا تكون هذه الدوافع مهلكة وضارة بالآخرين. ومن الواجب احترام الطبيعة البشرية لأن دوافعنا ورغباتنا هي المجموع الذي تتألف منه سعادتنا، وليس بشيء ذي بال، أن تمنح الناس شيئاً مجرداً يدعى (الخير) بل علينا أن تمنحهم شيئا يرغبون فيه ويحتاجون إليه، إذا كنا نريد أن نزيد من سعادتهم وقد يصل العلم في بعض الأوقات إلى أن يشكل رغباتنا حتى لا تتصارع مع رغبات الآخرين كما تتصارع الآن، وعندئذ سنكون قادرين على إرضاء قسم أعظم رغباتنا أكثر مما هو حادث في الوقت الحاضر، وبذلك المعنى، وبذلك المعنى فقط، ستصبح رغباتنا حينئذ (أحسن) والرغبة وحدها ليست خيرا أو شرا من رغبى أخرى حينما نعتبرها وحدها، ولكن مجموعة من الرغبات خير من مجموعة أخرى إذا كانت كل مجموعة الأولى يستطاع إشباعها كلها في آن واحد، بينما المجموعة الثانية، بعضها يتناقض مع البعض الآخر، وهذا هو السبب في أن الحب خير من الكراهية.

أن توقير العالم الطبيعي، لا معنى له، لأنه يجب أن يدرس بقصد جعله له خادماً للغايات الإنسانية بقدر المستطاع، ولكنه يبقى من الوجهة الأخلاقية، ليس خير أو شرا. وحيثما يتفاعل العالم الطبيعي والطبيعة البشرية كما في مسألة السكان فليس هناك من حاجة لأن نبسط أيدينا ساجدين، ونتقبل الحرب والوباء والمجاعة على أنها الوسائل الممكنة فقط لإنقاص الزيادة المفرطة في السكان، والإلهيين يقولون إن من الشر أن نطبق في هذا المجال العلم على الجانب الطبيعي من المشكلة؛ بل يجب علينا (هكذا يقولون) أن نطبق الأخلاق على الجانب الإنساني، ونسير بشيء من الزهد وهم في ذلك يعبدون عن حقيقة أن كل فرد - بما في ذلك الإلهيين أنفسهم - يعلم أن نصائحهم لن تتقبل، فلماذا يكون من الشر أن نحل مشكلة السكان الوسائل الطبيعية لمنع الحمل؟ وليس هناك أية إجابة يحتمل ظهورها. وما عدا واحدة مبنية على عقائد عتيقة، فمن الواضح أن دفاع الإلهيين عن القسوة على الطبيعة ومخالفتها، هو على الأقل عظيم مثل الدفاع عن الرأي القائل بتحديد النسل ويفضل الإلهيين القسوة على الطبيعة البشرية ومخالفاتها، وهذا الأمر - حينما يأخذ مجاله من التطبيق - يشمل الشقاء والحسد والميل إلى الاضطهاد، وغالبا الجنون. أما أنا فأفضل (القسوة) على الطبيعة البشرية، ولكنها قسوة من نوع آخر، تشبه تلك القسوة العمل في آلة بخارية، وهذا المثل يبين إلى أي حد كيف أن العمل بالمبدأ القائل: إننا يجب أن نتبع الطبيعة غامض ومهوش.

إن العالم الطبيعي، وحتى الطبيعة البشرية، سيتوقف أكثر فأكثر، على كونه حقيقة مطلقة، وأكثر فأكثر سيصبح على نحو ما تشكله المهارة العلمية، والعلم إذا شاء أن يساعد أحفادنا على أن يعيشوا الحياة السعيدة بمنحهم المعرفة وضبط النفس والصفات المؤدية إلى الانسجام أكثر من الشحناء أما في الوقت الحاضر، فهو يعلم أطفالنا قتل بعضهم بعضا، لأن كثيرا من رجال يريدون أن يضحوا بمستقبل الجنس البشري من اجل سعادتهم الوقتية، ولكن هذا الأمر سيزول حينما يحرز الناس على انفعالاتهم نفس السيطرة التي أحرزوها على قوى العالم الخارجي الطبيعية. وأخيرا سنكون قد كسبنا حريتنا.

(تم الكتاب)

عبد الجليل السيد حسن