مجلة الرسالة/العدد 94/رشيد في ضحى عيدها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 94/رشيد في ضحى عيدها

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1935



للأستاذ محمد محمود جلال

كدنا لا نذكر اليوم عن (رشيد) إلا إخراج الأرز طعاما شهيا. وأنها مقر صناعته ولا نعرف لها أكثر من الترويج الذي نلقاه من جمال موقعها حين نبرم بالمصيف المتمدين المملوء بالرسميات على شاطئ الإسكندرية فنفزع إليها نلتمس شيئا من التغيير وقربا من الطبيعة في أهنأ مظاهرها

فأما نصيبها من حياتنا المعنوية فمقصور على ما نتوارثه سماعا عن سرعة النكتة في طبيعة أهلها، فنتنادر بشيء مما حفظنا منه في مناسبات متباعدة، فإذا طلبت في إحدى بيئاتنا مزيدا فلست تجده إلا رواية عن مختصر مخل من كتب الجغرافيا (فهي ميناء على ملتقى النيل بالبحر الأبيض المتوسط وهي مركز من مديرية الغربية كانت محافظة إلى عهد قريب)

وهكذا غمطت (رشيد) حقها، وغمر في قاموسنا أصلها كما ذهب الإهمال بأكثر صحفنا، وعصفت الأنواء بمفاخرنا. كأنها لم تكن طغراء في كتاب الجهاد الحديث، ومسرحا أظهر الله فيه آيات الحكمة والبسالة لشعب وادي النيل. كأنها ليست هي رشيد التي حققت في سنة 1807 ما لا يزال في أحضان التقدم والرقي مجرد أمل لوادي النيل، وأمنية لأكثر أقطار الشرق

أحببت أن أرى رشيد أول مرة في أول أبريل، وكنت بالإسكندرية والمسافة بينهما تقطعها السيارة في ساعتين

تخيرت (سيارة أجرة) أعجبني مظهرها واطمأنت نفسي إلى أدب سائقها، وسارت تقطع الطريق وقد أوصيت قائدها بالتؤدة لعلة الأمعاء التي أشكو

وقف بي السائق في الطريق عند (ادكو) المشرفة على بحيرتها ونزلت أمشي قليلا على قدمي، فلما عدت أستأنف رحلتي وجدت السائق قد أعد فنجان قهوة وكوبة ماء وقدمهما إلي في أدب يندر أن تراه في زملائه. شكرت له صنيعه وألححت في أن يطلب له فنجانا آخر وسرحته ريثما يشربه في قهوة مجاورة بيد أنه لم يقبل إلا بعد مشقة

جلست إلى جوار السائق مستأنفا رحلتي وقد ألهمت أن للرجل قسطا من العلم ولابد من س مؤثر في حياته وبدأت آنس به

قلت: (لأي غرض تظنني أقصد إلى رشيد؟) قال: (لعل حضرتك محام ولديك اليوم جلسة) قلت: (لقد تركت المهنة منذ ثماني حجج وأنا اليوم فلاح مقيم بالوجه القبلي) قال: (لعلها نزهة، فكثير من الخواجات يأتونها في أوقات مختلفة) قلت: (ولا هذا أيضا وليس معي رفيق ولم أر رشيد من قبل)!! قال: (لعلك تزور صاحبا) قلت: (لا أعرف أحدا وقد ذكرت لك أن هذه أول زيارة لها)

اكتفيت من حدس السائق بما سمعت، وخففت عنه عبء الفكر فقلت: (هذا يوم عيد رشيد - بل عيد لوادي النيل. فقد أشرقت شمس هذا اليوم منذ 128 عاما وللمدينة غنى بشمس النصر، وحرارة الجهد والظفر على المعتدين حتى جلا الإنجليز في ظل معاهدة محمد علي باشا عن البلاد بعد ذلك بشهور)!!

سر السائق بما سمع وبدا لي أنه يريد أن يتكلم فلزمت الصمت قال: (إن بلاءنا منا وبسبابنا. قلت: لم وكيف كان ذلك؟ قال: (ألا تذكر حضرتك كيف التجأ الخديو توفيق باشا لحماية الإنجليز؟ - ألم تسرق من معسكر عرابي خريطة في التل الكبير بواسطة أحد الضباط)؟!

ذكرت على التو أمر الخريطة وأني قرأت شيئا من ذلك في أحد المؤلفات التي كتبت عن المسألة المصرية وإذا لم تخني الذاكرة فهذا الضابط الذي يعنيه يدعى (علي يوسف خنفس)

قلت: ولكن بعد ذلك ألم يكن السبيل لتصحيح الخطأ ودرء الخطر؟)

قال: (ألم يكن رؤساء الحكومة أغرابا بين الترك وأرمني ورومي؟)

تساءلت: ومن هذا الأرمني؟ أو كان لنا رئيس حكومة أرمني؟

قال: نعم. نوبار باشا، ألم يساعد على سلخ السودان؟ استدركت قائلا (بل قل الوجه السوداني كما تقول الوجه البحري والقبلي. أو تعرف للسودان قيمة؟)

قال: (إنه حياتنا، ولقد عشت فيه، وتلك الشهادة الابتدائية من كلية غوردون)

صدق ظني فأنا بأزاء رجل متعلم، وطاب لي أن يستمر في حديثه وكله سمر مفيد متصل بما أعنى به

سألت السائق: (وما الذي دفع بك إلى الوجه السوداني؟) قال: (ولدت هناك؛ وقد كان أبي موظفا بمصلحة السكة الحديد. أرسل إلى السودان ليدرب المبتدئين هناك من عمال التلغراف، ولما عدنا أتممت دراستي إلى شهادة الكفاءة، وشق علي أن أسعى للوظيفة وسط أمواج الساعين وذل الوساطة، فتعلمت قيادة السيارات واشتريت هذه، وأنا بعيشي قانع ولله الشكر)

لم أجد بدا من تحيته تحية تجزئ شيئا من كرامته وحسن تقديره للحياة ولوطنيته. قلت: قف السيارة - وقد ظن أني أريد استئناف السير على قدمي لدقائق أخرى، فهم بفتح الباب قلت: كلا أمد يدك أني أصافحك، وأنت الآن في نظري خير مني، وأنت إذن سائق ورفيق

أشرفنا على المدينة، فسألت السائق هل يعرفها جيدا؟ قال (نعم) فاطمأن خاطري فنزلت وصورت مدخلها

رأيت أعلاما منشورة، وزينات مرفوعة، وبشرا يغمر الوجوه. فقلت: الحمد لله إنهم يعرفون لليوم حقه. والتفت إلى رفيقي خريج (كلية غوردون) وقلت: (ألا ترى مظاهر العيد؟) أجاب الرجل: (إنه اتفاق سعيد، فقد ازينت المنازل والطرقات لعودة الحجاج من أهل رشيد، وقد دعيت أمس ليركب سيارتي أحد أعيانها القادمين، ولكني وعدتك أن أوفيك بفندق وندسور. فاعتذرت مهما علا الأجر، وأنا اليوم أعد نفسي سعيدا) قلت: بل أنا يا بني، فقد وجدت فيك من يحتفل معي بهذا العيد على معرفة!) وقلت: لا يزال في الدنيا من يرخص المادة في سبيل الوفاء، وإذن ما تزال الدنيا بخير

رشيد بلد ظريف جذاب. إذا نظرت إلى التقاء النيل عنده بالبحر الأبيض المتوسط، ذكرت على التو كيف انسابت مدينة وادي النيل القديمة إلى أوربا، وعرفت كيف سارت تعاريج الأمواج الحلوة الهادئة بين الشاطئين الهادئين، فكانت أشبه بالسطور يحملها الأثير بفعل الاختراع - فنقلت في أقدم العصور التشريع المصري إلى (أثينا) فأضفت على تاريخها مفخرة التقنين وسن الشرائع

أمواج النيل الهادئة، بالإضافة إلى أمواج البحر الصاخبة الهائلة، كذلك الخلق الرصين المتين يثابر متئدا فيتغلب على صخب الجبروت، والهيولى الضخمة المخيفة لكتائب الغضب والغزو - وقد شهد وادي النيل مصارع أمم كبيرة فأفنى قواها أو مثلها ففنيت في شعبه ممرنا بالمباني الحديثة فقلت خلوا بيني وبينها، أروني المباني القديمة، أسمعوني الشهود العدول، دعوها تحدثني عما شهدت وتطلعني على ما خفي من تفاصيل المفاخر

رأيت المنازل القديمة، ووقفت بربوعها أسائلها وتجيبني. أصغي إلى (طيقانها) الصغيرة، فأسمع حديث الإباء والشمم، ووقفت بأبوابها أذكر القرى والكرم

التقيت بأحد أبناء رشيد الكرام الأستاذ فؤاد نور المحامي فحمدت الله رفقته وحمدت السري في ظله، زرنا المنازل الأثرية فهذا بيت (الأماصيلي) كان يملكه حاجب المحكمة الأهلية فابتاعته مصلحة الآثار ولكنه مقفل فلا دليل يقف ببابه للمسترشدين، ولا نشرة توزع بما يجب للبناية الأثرية من بيانات، ولا (كارت بوستال) يباع - حاويا صوره الداخلية

والبيت من داخله تحفة فنية وفيه متعة وشغل للبصر والبصيرة، بني في 28 شوال سنة 1223 هجرية وقل أن تجد من يعنى بتاريخ البناء إلا في السنوات الأخيرة

وأعجب ما ترى فيه (مقصورات) شبيهة بالألواح التي نراها اليوم بالمسارح أعدت لجلوس السيدات ليشهدن مجالس الغناء وتسمى (الأغاني) إضافة إلى الغرض منها

وفقت إذن: أن هذا البيت قد شهد موقعة النصر وأنه شاهد أمين عليها، وقفت به طويلا وقلت: ما يؤلمني أن أكون وحيدا ولا يرافقني رهط قليل ما دمنا نقوم بما نعلم من واجب، فغدا يزور رشيد آلاف وغدا يكون الاحتفال عاما، ولا ضير أن نبدأ قلة وقد نعلم أن (واشنتجون) عد في وقت مجنونا، وأنه لم يخل من تآمر حرسه عليه، وهو اليوم، وفكرته اليوم متجه الأنظار للأمريكان جميعا

ليس في رشيد فندق لائق. وقد أعد يوناني مطعما منذ سنوات قليلة فقاطعه أهل البلد حتى لم يجد مناصا من إغلاقه وهجرة البلد

كل دار أحق بالأهل إلا ... في خبيث من المذاهب رجس

ولكن هذا الميدان الذي خلا أليس من أهل البلد من يملؤه؛ أولئك الذين كتب عنهم الجنرال ستيورات إلى القائد فرزيه في 31 مارس سنة 1807 يقول: (أن الأهالي لا يعبأون بالمصائب برغم ما أحدثنا بالمدينة من تخريب حتى بلغ ما أطلقناه من القنابل من المدافع البعيدة المرمى وحدها 300 قذيفة)

على أحفاد أولئك الكرام أن يحتفلوا بذكرى أجدادهم وبمجد بلدهم. وعليهم أن يسدوا كل ثغرة، ولعلنا نقتبس الرشد عما قريب عن رشيد

الشيخ عطا

محمد محمود جلال المحامي