مجلة الرسالة/العدد 94/ربيع الغوطة
مجلة الرسالة/العدد 94/ربيع الغوطة
للأمير مصطفى الشهابي عضو المجمع العلمي ومدير أملاك الدولة
بدمشق
جلست في الدار في سفح (قاسيون) أجيل الطرف في أرجاء الغوطة الفيحاء، وقد ازينت للربيع وتبرجت وتجلت فتنة للناظرين. وجرت مياه بردى ومشتقاته صخابة جرافة، قد بجسها شتاء هذه السنة الممطار، بعد أن لبثت ثلاث سنين لاصقة من الجفاف بأرض النهر، وهي تتنغص وتتمور كأنها ترتقب من يدفعها إلى جنان الغوطة دفعا؛ ودبت الحياة في الأشجار الغبياء، فأرسلت عساليجها تتنشق أنفاس الربيع العليلة، وأطالت غماليجها تستقبل أشعة الشمس المنعشة، ونشرت أوراقها تهيئ للدوح وسائل الحياة وغضارة العيش
وبشر اللوز بإقبال الربيع فنور. وأعقبه المشمش فاشتعل زهرا وتضوع عطرا، وملأ جو الغوطة بهجة وإشراقا. وغار التفاح والكمثري والخوخ فعمدن إلى الازهرار، وتلألأن بالنوار، وسكر الصفصاف المستحي فدلى أغصانه وتمايل، وانتصب الحور فصعر خده وتثاقل، وعربد الجوز الدواح فنثر هريراته ذات اليمين وذات الشمال، وترزن السرو الجبار المتشائم وصاح قائلا كلنا للزوال. وابتسم الزيتون بأوراقه الخضر الحانئة، وقد نثرت أرومته السنون، وكسر فروعه الدهر الطحون. أما الرمان فلبث عاري الجسد ينتظر الدفء، فما ازدهى بنوره، ولا أشعل الجو بناره
وجن جنون النباتات البرية، فنبتت بين الزروع وعلى ضفاف الجداول وفي كل أرض سبخة أو بائرة، فالخردل هجم على الحنطة فكساها من زهره حللا صفرا، والنرجس نجم في مياه المناقع ونثر فوقها دررا وتبرا، وبدت شقائق النعمان بألوانها الزاهية، وتجلى الخشخاش بحمرته القانية، وتضوع البابونج والأقحوان، واستسرا تحت جنبه الآس والرمان
وشاركت الطير النبات فهبت تغرد بشتى الألحان، وتتراقص في كل مكان. فمن سمانيات تغلغلن بين الزروع خشية الصيادين، وشحارير سود الجلابيب إن طارت هتفت، وإن استقرت صدحت، وسنونوات لا يبرحن في السماء مدومات، أو على البعوض هاويات، وأنواع العصافير، في زقزقة وصفير، كأنها تشكر الباعث الغيث آلاء المطر، وكأنها تدعوا الإنسان إلى الأخضرين، لينعم بهما قرير العين جلست في الدار أدير الطرف بجنان الغوطة وقراها، فبدت عن يميني رياض (النيربين)، فذكرني بأبيات وجيه الدولة ابن حمدان:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها ... فلي بجنوب الغوطتين شجون
فما ذكرتها النفس إلا استخفى ... إلى بر ماء الَّنْبرَ بَيَن حنين
وقد كان شكى للفراق يروعني ... فكيف يكون اليوم وهو يقين؟
وبدت جنوبها بساتين داريا فقلت مع الصنوبري:
ونعم الدارُ دارَيَّا ففيها ... صفا لي العيش صار أرَيا
ولي في باب جيرون ظباء ... أعاطيها الهوى ظبياً فظبيا
والتفت إلى دمشق فإذا بها غرقى في خضم أخضر كأنها ياقوتة في نثير من الزمرد، وبرز الجامع الأموي عظيما جبارا بمآذنه الشاهقة العالية التي قال فيها نابغة بني شيبان من قصيدة غراء وصف بها ذلك الجامع الكبير:
وقبة لا تكاد الطير تبلغها ... أعلى محاريبها بالساج مسقوف
لها مصابيح فيها الزيت من ذهب ... يضيء من نورها البنان والسِّيف
قلت رحم الله نابغة بني شيبان! فلو عاش في أيامنا هذه لا في أيام بني أمية لقال:
لها مصابيح فيها الكهربا سطعت ... يضيء من نورها لبنان والسيف
ورق النسيم وراق الجو، فتذكرت قول القائل:
يا نسيما هبَّ مسكاً عبقاً ... هذه أنفاس ريَّا جِلَّفا
لكنني ما كدت أنشق هذه الأنفاس العطرات وأغرق في بحر من التأملات حتى فتح الخادم مذياع مصر فأسمعني ألحانا شجية حملتها أنفاس القاهرة الكهربائية، فذكرت شتاء مدينة المعز وعهدي به قريب، ورددت قصيدة لي ودعت بها تلك المدينة الساحرة، منها الأبيات الآتية في نسمات النيل:
أوَّاه يا نسمات النيل ساجيةً ... كم ضمك الصدرَ شهَّاقاً وزفّاراً
وكم تعطرت بِالريحان وامتزجتْ ... رّياك بالروض أفناناً وأزهاراً
ما إن نشقتك حتى خلتُ منتعشاً ... ماء الحياة جرى في جسم أنهاراً
وخفق القلب لشتاء مصر ولربيع دمشق معا، فكلاهما ساحر جذاب، وكلاهما مجتلي ذكريات عذاب، وفي البلدين رفاق وصحاب، وأهل وأحباب، وفيهما للثقافة العربية أفسح رحاب
دمشق
مصطفى الشهابي