مجلة الرسالة/العدد 94/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 94/الكتب
الإنكليز في بلادهم
تأليف الدكتور حافظ عفيفي باشا
للأستاذ م. ف. ا
لسنا نحاول في هذه الكلمة أن نقدم كتاب الدكتور حافظ عفيفي باشا إلى الجمهور، فقد تقدم به مؤلفه إليه مباشرة، وله من أسمه ومعرفة الجمهور به ما يغنيه عن ذلك التقديم، كم أننا لسنا نحاول في هذه الكلمة أن نجامل الدكتور، فإن احترامنا للمؤلف إنما يبعثنا عل أن لا نحاول مجاملته بغير الحق
إن ذلك الكتاب الذي أخرجه الدكتور من تلك الكتب التي لا يملك القارئ أن يصفها وصفا موضوعيا، فإن كل فصل منه، بل كل فقرة منه، تدعو إلى التفكير وتتداعى لها المعاني في ذهن القارئ تداعيا يجعله في شبه معترك أحيانا، وفي شبه حماسة أحيانا أخرى، بحسب اختلافه مع المؤلف أو اتفاقه معه في الرأي؛ فالذي يقرأ ذلك الكتاب يحس ما يحسه المتحدث إلى جليسه في اجتماع خاص: لا يخيل إليه أنه يتعلم، ولا يخيل إليه أنه يعرف شيئا جديدا، بل يشعر كأنه يجاذب جليسه أطراف حديث في سمر، وهو في أثناء ذلك تارة يناقش، وتارة يوافق، وتارة يخالف، ولكنه في كل الأحوال مستغرق في الحديث ومستمتع به
لا يحاول الدكتور أن يظهر بمظهر المعلم الذي ينقل إلى الناس شيئا جديدا، بل يلقي ما بريد قوله في نغنة هادئة تنسي الإنسان أنه يعالج موضوعا لم يسبق لأحد أن عالجه بمثل استيعابه وطريقته. مع إن الكتاب جديد في موضوعه، جديد في طريقته، جديد في لونه
يتكون الكتاب من مقدمة ومن ستة أبواب، كل منها يعالج ناحية من نواحي الحياة الإنكليزية، فالأول: يتناول الدستور البريطاني، والثاني: يتناول الرأي العام الإنكليزي وتكوينه، والثالث: المسائل المالية، والرابع: التعليم في بريطانيا، والخامس: نظام القضاء، والسادس: الإمبراطورية الإنجليزية. فأنت ترى من هذا الكتاب بحث شامل يكاد لا يفقد فيه القارئ ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية في بلاد الإنكليز. على أننا مع ذ شعرنا بأن مقدار ما يخرج به القارئ من العلم بالحياة العادية في بلاد الإنكليز لا يشفي الغلة، فإن تصوير الكتاب لطبقات الشعب، ونفسية كل طبقة، وعلاقة الطبقات مع بعضها ببعض، يترك محلا كبيرا يشبه التشوق إلى المزيد
والكتاب جدير بأن نعقد له غير فصل واحد في صفحات الأدب والاجتماع. ولكن حسبنا اليوم أن نقول كلمة واحدة عامة عنه، لنبين معنى واحد من المعاني التي رأينا فيها مأخذا على الكتاب، ولكي نقدره تقديرا مجملا بغير تفصيل
لعل من أكبر أسباب الزلل في الحكم على قوم أن يكون الذي يقف نفسه للحكم عليهم متأثرا بميل سابق قبل أن يتصدى للحكم. وقد ظهر ذلك المأخذ واضحا لنا في معالجة الدكتور للحكم على طبقات الشعب الإنكليزي وتحديد ماهيتها. فكما أن الحكم قد يكون منتقدا لتحامل صاحبه على من تصدى للحكم عليهم، كذلك قد يكون منتقدا إذ كان صاحبه مملوء القلب بإجلال من تصدى للحكم عليهم. بل قد يكون زلل الحكم أعظم وأكثر تضليلا إذ كان الذي يحكم متأثرا بالميل والمودة. ويكون ذلك الزلل أشد أثرا إذا صحبته تلك النغمة الهادئة التي تلقي في روع القارئ أن الكاتب غير متحيز في الحكم. فالحق أن الدكتور معجب بالشعب الإنجليزي إعجابا جعله في حكمه لا يكاد يرى بع غاية ذلك الشعب غاية، ولا دون قصاراه قصارى
فنظام إنجلترا في نظره يحوي في نواحيه نزعة ديمقراطية جمهورية بارزة متغلغلة في جميع أسسها ونواحيها، بل إن المؤلف يقول أنه لا يبالغ إذا قال: (إن هذه النزعة أظهر في أنظمة الحكم في بريطانيا منها في أنظمة الحكم في فرنسا التي لما أعلنت الجمهورية استبقت لأسباب تاريخية. . . . . . . جميع أسس الأنظمة التي خلفها الملوك المستبدون)
ويقول: (ومها يكن من بلوغ الديمقراطية البريطانية أعلى غاية ممكنة في هذا الزمان فإن بريطانيا لا تزال محتفظة بجميع مظاهر الأرستقراطية الملكية)
ولن يستطيع أشد الإنجليز تعصبا لقومه، ولا أعظمهم إكبارا لكبريائه القومية، أن يقول أكثر من هذا
وهو يقول بعد ذلك في وصف طبقات الشعب مبتدئا بوصف الأشراف: (فالواقع أن هؤلاء الأشراف في إنجلترة مهما سمت مراكزهم وبلغت ثروتهم هم كغيرهم يعملون ويكدون، لا يأنفون الاشتغال بأي عمل أو مزاولة أية مهنة)
فهو قد نظر إلى تلك الطبقة من خير جهاتها، وتطلع عليها بعين الرضى والعجاب، ولا بعين الناقد المتحكم
ويقول في عرض حديثه عن الحمل الثقيل الذي تشكو منه حكومات الإنجليز المتعاقبة، وهو ما تبذله في ميزانيتها للعمال العاطلين: (ولئن كان هذا العبء الناشئ من تنفيذ هذه القوانين الاجتماعية في إنجلترة لا يزال ثقيلا، إذ يتراوح بين الخمسين والثمانين مليونا من الجنيهات سنويا، فإن إنجلترة في الوقت نفسه قد اشترت راحتها وطمأنينتها السياسية بهذا المبلغ الذي يتضاءل بجانب النتائج العظيمة التي جنتها من تنفيذ هذه القوانين)
وكأننا به قد تجاهل ما كان لأثر هذه التحيات المالية العظيمة في فداحة الضرائب، وإبهاظ كاهل الإنتاج، وعرقلة المصنوعات الإنجليزية، بطريق غير مباشر في ميدان المنافسة التجارية الدولية
وقد يطول بنا القول إذا التمسنا الأمثلة الدالة على هذه النظرة العاطفة في الكتاب حتى لتكاد تجعل القارئ ينسى أنه يقرأ كتاب رجل من أمة أجنبية يصف ما في إنجلترة بعين الناقد المستقل
ولئن كانت نظرة العطف هذه مالت بالمؤلف النابه إلى هذه الناحية الكريمة في التقدير، فإن نظرة رجل السياسي الدبلوماسي قد أثرت من جهة أخرى في تقدير المؤلف، حتى كاد في بعض الأوقات يصل من المقدمات إلى نتائج لا يبررها الاستنتاج. ولا يمكن أن يؤول هذا إلا بمجاملة الرجل الدبلوماسي الذي اعتاد أن يوحي إلى نفسه بما تصوره الظروف السياسية، فإذا هو ناطق عن هذا الإيحاء بغير أن يحس. يريد الرجل الدبلوماسي مثلا أن يقول أحيانا إن عمل من الأعمال يؤدي حتما إلى نشوب حرب بين دولته وبين الدولة التي هو ممثل لدولته فيها، فإذا به يقول إن ذلك العمل قد لا يكون مما يؤدي إلى زيادة حسن التفاهم بين الدولتين، وعلى هذا القياس كان للدكتور الكبير يصل من بعض مقدماته إلى بعض نتائجه. ولأضرب لذلك مثلا من الفصل الأخير الذي عقده على مصير الإمبراطورية الإنجليزية، فإنه ابتدأ بحثه بسؤال فقال: (أهي سائرة نحو التفكك والانحلال أم أنها ستستطيع المحافظة على وحدتها إلى أجل طويل؟) ثم ناقش السؤال مناقشة لا يشك القراء منها أنه واصل إلى نتيجة أن تلك الإمبراطورية محتوم عليها أن تتصدع، أو على الأقل أن ينصدع عنها نصفها عند أول حرب جديدة، ولكن القارئ يعجب إذا هو بلغ النتيجة فإذا بها: (من كل ما تقدم يمكن القول بأن لا محال للتشاؤم نحو مستقبل الإمبراطورية البريطانية). ثم استثنى من ذلك أيرلندة وحدها وقال عنها: (إنها سحابة تعكر هذا الجو)
ولا شك في أن الرجل الدبلوماسي هو المسئول عن مثل تلك المجاملة. لقد يكون من المستحسن أحيانا أن نجامل، ولكن المؤلف إذا تعرض لكلمة عامة كان واجبا عليه أن يسير مع المنطق، ومع المنطق وحده، والكلمة التي يقولها مثل الدكتور الكبير لها من الأهمية والوقع ما لا يكون لرجل دونه في المكانة أو أقل منه علما بما يقول
وفي الكتاب فوق كل ذلك نقد ثالث على وجه عام. فإننا إذا قرأنا عن الإنجليز لا يمكن أننا نقرأ عن قوم بيننا وبينهم مسألة قومية، وإذا كان المعنى في ذهن القارئ فإنه بغير شك يعجب أشد العجب إذا هو قرأ كتاب الدكتور الفاضل. إذا يخيل إليه إنه على تقدير إنما يقرأ كتابا لرجل من بلاد غير مصر عن قوم هو معجب بهم إعجاباً خاصاً
على هذا المأخذ الذي أخذناه على نظرة المؤلف لا ينبغي أن يعد مفسدا للكتاب أو منقصا من قدره نقصا فادحا، فإن البحث الذي ساقه المؤلف من دون هذه النظرة العاطفة المجاملة بحث جدير بكل إكبار. ففيه وصف للحياة الدستورية وأساليب الحكم في بلاد الإنجليز قلما يجد قارئ مثله في كتاب واحد؛ وفيه باب في تكوين الرأي العام يمكن أن يعد بحثا خاصا لصاحب رأي مجتهد مستقل؛ وفيه بحث في المسائل المالية استعرض فيه المؤلف الموقف العملي، ودس فيه نظريات المالية والاقتصاد زبدا وافية مع القصد والجمع للأطراف؛ وكان المؤلف موفقا كل التوفيق في بحثه الخاص بالتعليم في بريطانيا، فقد وصفه وصفا دقيقا يدل على نظره الفاحص وعقله الثاقب. فإذا نحن نقدنا لون التفكير ونغمته، فلا يسعنا إلا شكر المؤلف الكبير على بحثه فيما دون ذلك، وعلى هديته من المعلومات الثمينة التي زفها إلى قراء العربية
م. ف. ا