مجلة الرسالة/العدد 939/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 939/البريد الأدبي
الرعايا هم العبيد:
أصدر الأستاذ خالد محمد خالد كتيبه الثاني (مواطنون لا رعايا) والكتيب - كما يتضح من عنوانه - إحدى صرخات الأستاذ في سبيل تصحيح الأوضاع الاجتماعية في هذا البلد.
وكان طبيعيا أن يستقر هذا الكتيب في كل يد، وأن تلتهم سطوره كل عين، وكان طبيعيا أيضا أن تلقفه أيدي الأفاضل من علماء الأزهر، ولا عجب، فالأمر أمس بهم وأدنى إليهم، فالمؤلف عالم آثر الانطلاق والتجديد، على التقيد والتقليد، وأباح لعقله وفكره أن ينطلقا من إسار المتون والشروح، والهوامش والحواشي إلى فضاء المجتمع العريض، فعينه تقع على كل دقيقة فيه، يرى بعض الناس كل الناس، ومن بقى هملا، قطعانا تسعى إلى ساقط العيش، وترقى إلى أدنى الرزق، وما هي بمالئة منها بطنا، ولا قريرة بها عينا، بل سابغة لاغبة، واجفة خائفة، لا ترى فيما حولها هدوءا ولا أمنا، فأنى لها أن تحسن الظن؟ أنى؟!
وتعرض الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي في العدد رقم (936) من الرسالة الغراء للكتيب - أو بعبارة أدق لعنوانه - بالنقد؛ وكان كل ما أخذه على الكاتب أنه لم يكن موفقا في اختيار كلمة (رعايا) لأن المعنى الذي سيقت إليه في الكتيب هو الذل والعبودية، وهذا يخالف معناها في كتب اللغة والحديث! والذي وقع فيه حضرة الناقد، عين ما أراد المؤلف نفسه على أن نتخلص منه، وننفر عنه. .
لم يبحث الأستاذ الناقد عن معنى الكلمة في قاموس المجتمع الذي يلفظ أنفاسه، تحت لذعات السياط، وركلات الأقدام، ولا في هذه المزق تشدها إلى بعضها مسكنة تستسلم سريعا لعوامل الفناء، فوق أجساد عجاف!
ولا بين هذه الأكوام الآدمية التي تحظى دائما بامتهاد الفرش الوفيرة على جوانب الشوارع، حشوها (الزلط والأسمنت والقار) وتسعد دائما بالتحاف الطبقات الرقيقة الرفيقة من نسائم الليل، تداعب أوصالا تتداعى في إلحاف إلى الانحلال والفرقة!
لم يبحث الأستاذ الفاضل عن معنى تلك الكلمة بين ذلك كله، ولكنه آثر أن يبحث عنه في (القاموس) و (النهاية) و (المصباح المنير)! وهكذا ظن حضرته أنه قد أمسك بخناق المؤلف، وورطه وأحرجه أيما توريط وإحراج! وهو بعد ذلك وقبل ذلك ينحى على الكات باللائمة أن صرف وجه عن هذا المعنى القاموسي، فهو لذلك مخطئ، وخطؤه غير مغتفر، لأنه عالم باللغة، عالم بالدين، لاشك أن الأستاذ الصعيدي لم يدفعه إلى لومه هذا إلا حبه للأزهر وحرصه على سمعته وسمعة علمائه، خشية أن يتمسك الناس بأخطائهم وهم الذين تفترض فيهم الإمامة.
ومع ذلك فالمؤلف غير مخطئ، وعنوان كتيبه، عنوان الصواب. هو لم يشأ أن ينطلق إلى كتب اللغة يستوحيها معنى كلمته، لأنه يعلم أن هذا هو مدخل البلاء على الأزهر. .! فعلماؤه ينفصلون تماما عن الحياة حولهم وما يعتريها من تطور وتغير، ويؤثرون أن يعيشوا في أجوائهم الخاصة.
ولكنه طفق يبحث عن معناها بين الشفاه التي قددها الجوع، والحلاقيم التي جففها الظمأ،
والضلوع التي أيبستها وطوحت بها أعاصير الداء، لا مقادير الفضاء. .!
طفق يبحث عن معناها بين هذه المواكب الحافلة بالبؤس والمذلة والشقاء، والتي أطلق عليها سلفا وجهلا أنها رعية ترعى وشعب يساس.
أليس في الأولين يختصون بنصيب من حسن التدبير وحسن الإشراف، وجميل العناية، وأن الآخرين أقل من أن يقبل عليهم برعاية، وأدنى من أن ينظر إليهم بإمعان. .؟
فأين هذا التدبير الحسن، وتلك العناية الجميلة. .؟
أهما في أن تجوع وتعرى أجساد وأكباد، وأن تلهو وترتع أفراد وآحاد. .؟
أهما في أن تقتات الملايين شر القوت، وتسام جدب المرعى، وأن تكتظ معد العشرات بدمائهم وعروقهم ودموعهم. .؟
أهما في تلك الجحافل الساعية ليل نهار تسأل وتستجدي. .؟
أين يا سيدي اللقم السائغة للمنكوب والمنكود. .؟
أين الكسوة السابغة للمعروق والمكدود. .؟
أين الجرعة الصافية للمتعوس والمطرود. .؟
إن الرعايا في مصر هم العبيد، والعبيد في مصر هم الرعايا، وأنف كل قاموس راغم. .!
أحمد قاسم أحمد
بيني وبين قرائي تفضل الزميل الصديق الأستاذ عباس خضر فأشار في كشكوله منذ قريب، إلى أن بعض القراء قد سأله عن كاتب هذه السطور وسر انقطاعه عن الكتابة. . ولقد أفصح الزميل الصديق عن سر هذا الانقطاع بما لم يعد الحق والواقع.
أنني أكتب هذه الكلمة لأؤكد لحضرات السائلينعني ممن كتبوا إلى الأستاذ عباس وإلي، أن ما وقع في ظنهم حول صلتي بالأستاذ الجليل صاحب الرسالة، كان أبعد من أن يطيقه منطق الصلاة الروحية والودية بين الخلص من الأصدقاء!
لقد انقطعت عن الكتابة لأدفع إلى المطبعة بكتابين، شغل أولهما وقتي بين تقديم الفصول ومراجعة الأصول، وشغل الأخر قلمي بين التفكير والتحرير. وبعد أيام سيكون الكتاب الأول بين أيدي القراء، أولئك الذين طالما كتبوا إلي راغبين في إصداره. أما الكتاب الثاني فسيكون بين أيديهم أيضا في الغد القريب.
ولا يسعني بعد أن عدت بقلمي إلى هذا المكان الحبيب، إلا أن أبعث بشكري خالصا إلى كل من كتب إلى مصر والبلاد العربية، معبرا عن صادق الود وخالص الوفاء.
أنور المعداوي
مستقبل الثقافة في مصر
قرأت في العدد 936 من (الرسالة (الغراء أنه تألفت في مصر شعبة قومية برياسة معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف العمومية لدراسة المسائل المهمة في ميادين الثقافة والتربية والعلوم، ودراسة أحوال البلاد في هذه الميادين وتقديمها إلى الجهات المختصة لتنفيذها أو الاستفادة منها. وأن مجرد التفكير في مثل هذا الأمر في الوقت الحاضر ليدل دلالة واضحة على أن معالي الوزير الجليل رأى بفكره الثاقب أن يمهد لمستقبل الثقافة في مصر طريق الازدهار بتأليف هذه الشعبة للتخلص من أنانية الحياة العقلية في مصر وجمودها.
ولا شك أن هذا رأى سديد ينطوي على إحساس صاحبه العميق بخطورة المجاعة العقلية التي يرزح الشعب تحت أعبائها البغيضة في النصف الثاني من القرن العشرين. وأنا لنأمل أن توفق الشعبة القومية في تحقيق الأغراض النبيلة التي تألفت من أجلها. وفي الواقع أن الحياة العقلية في مصر الآن تعاني مشكلة من أكبر المشاكل، وهي أنها حياة الخاصة وليس للعامة حياة عقلية بالمعنى الحقيقي. ونحن إذا أردنا النهوض بالشعب المصري وجب أن يصل نور العلم والمعرفة إلى عقول الفلاحين والعمال قبل أن يصل نور الكهرباء والماء النظيف إلى أكواخهم ومساكنهم. وإذا أردنا أن يصل نور العلم والمعرفة إلى ملايين العقول المظلمة،
وجب أن نبدأ أولا بإصلاح البيئات العلمية والمناطق التعليمية إصلاحا شاملا يتناول الأشخاص والأدوات والمناهج والأساليب لتؤدي رسالتها على الوجه الأكمل في قوة وصراحة وإخلاص، لأن البحث عن أثر هذه البيئات طوال الثلاثين عاما الأخيرة في حياة الشعب الاجتماعية يثبت أن المجهود الذي بذلته في ذلك السبيل أفضى إلى نتائج خطيرة مفزعة: إلى الفقر والجهل والمرض، إلى الضعف والخلف والتخلف، إلى اللهو واللعب والتحلل، إلى غير ذلك مما نشكو منه ونتوجع.
محمد يوسف الغزالي