مجلة الرسالة/العدد 938/المسرح والسينما

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 938/المسَرَح والسِينَما

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 06 - 1951



في عالم النقد:

حورية من المريخ

للأستاذ علي متولي صلاح

تحية طيبة نبعث بها إلى تلك الفرقة الناشئة الشابة المتوثبة، من فوق منبر (الرسالة) مجلة الفن والأدب والعلم، ونعني بها فرقة (المسرح المصري الحديث) التي ظهرت خلال هذا المرسم كما تظهر بواكير الندى، وكما تتفتح براعم الورود فتجلو كامن الحسن وخفي الجمال.

أخذ الناس إشفاق على تلك الفرقة يوم رأوها تنتظم عصافير ناعمة بضة حسبوها تزقزق على خشبة المسرح فلا تبين، وتهتز الخشبة من تحتها فلا تثبت، وقالوا: من أين لزغب القطا أن تقوى على ما تنبهر أمامه أنفاس النسور؟ ومن أين للظبي الأغن أن ينهض بما يعيا به الأسد الهصور؟

. . ولكن هؤلاء المشفقين انقلوا مشدوهين عجبين عند ما رأوا هذه الفرقة تنهض بالروائع والآيات لكبار المؤلفين من أمثال: موليير وتشيخوف وتيمور، تنهض بها نهضة يرى الناس فيها بحق أن الأمر لو كان بالسن لكان في الأمة من هو أحق من أمير المؤمنين بمجلسه كما قال الغلام العربي القديم! وتنهض بها نهضة يبدو فيها - أظهر وأبين ما يبدو - معنى التضامن وفناء الفرد في سبيل المجموع، ومعنى نكران الذات. . فما رأينا واحداً منهم حاول في موقف له أن يسطع على حساب زملائه، أو أن يسلبه مجداً يراه له حقاً. ولعل مرد ذلك فيهم إلى ما لقنوه من ثقافة ومعرفة حرمهما الكثير من رجال المسرح الأقدمين.

هؤلاء بحق هم (الأعوان الذين يمكن أن يعتمد عليهم وزير المعارف) كما يقول معالي الوزير الجليل في حديثه مع صديقنا الأستاذ عباس حسان خضر، وليس عمل هؤلاء قط هو (الترفيه وإضاعة الوقت) كما يقول معاليه عن المسرح عامة في مصر، وإنما عملهم هو (التعليم وإشاعة الجمال والذوق في نفوس الناس) كما يفعلون بحق، معرضين إعراضاً ملائكياً عن المادة وسيطرتها على الفن، والانحدار به إلى مرتبة الوسيلة الرخيصة، والأداء الذلول!

ولقد كانت آخر مسرحية قامت بها هذه الفرقة هي المسرحية التي جعلناها عنواناً لهذا المقال (حورية من المريخ)، وهي تدور في جملتها على فكرة واحدة، تلك هي أن الإنسان كما يضيق بالمتاعب والمصاعب التي يخلقها له من يخالطونه في العيش، فتكدر صفوه، وتشرد أمنه، فإنه يضيق كذلك بالراحة الكبرى والطاعة الدائمة والصفو المقيم!

فالزواج (رفعت) يضيق بزوجته (إحسان) لما تحدثه له من متاعب متصلة، فيهب الله له حورية من المريخ حسناء رائعة الحسن تطيعه طاعة عمياء، وتوافقه في كل ما يرى، وتذهب مع هواه حيثما ذهب، فلا خلاف ولا شجار، ولا عصيان ولاشقاق، ولكنها حياة رتيبة هينة لينة! فيضيق الزوج بهذا الهدوء الشامل، ويشقى بهذا الأمن الكامل، وتعلم الحورية بما يعتل في صدره من غم، وما تسببه هذه الحياة الناعمة له من هم، فتعود أدراجها إلى المريخ بعد أن تعيد ما انقطع بينه وبين زوجه الآدمية من صلة، وتسترجع ما كان انبت بسببها من علاقة!

هذه المسرحية تلفحنا منها ريح أسطورة يونانية شهيرة، هي أسطورة (بجماليون) ذلك المثال البارع الذي صنع تمثالاً رائع الفتنة لامرأة سماها (جالاتيا) ولكنه أغرم بالتمثال وتمنى على الإلهة (فينوس) أن تمنحها الحياة ليتخذها زوجاً له، فاستجابت الإلهة لدعائه ومنحتها الحياة، وما إن دبت فيها الحياة الإنسانية حتى دبت معها غرائز الإنسان! فكان أن خانته وهربت منه! فعاد يتمنى على الإله (أيولون) أن يعيدها إليه ثم يسلبها الحياة ويرجعها كما كانت تمثالاً من العاج، فاستجاب له الإله وأعادها كما كانت فهوى عليها بجماليون فحطمها تحطيماً!

تلك هي الأسطورة القديمة التي نشتم رائحتها قوية في (حورية من المريخ) فإن صح ما نحس به فإن المؤلف يكون قد استطاع الانتفاع بالأسطورة القديمة أكبر انتفاع، ولا لوم عليه في ذلك ولا تثريب. وليت الكثير من أدبائنا يحسبون الانتفاع بهذه الأساطير إذن لأثرى الأديب العربي إثراء كبيراً ويأخذ الأستاذ زكي طليمات في مقدمته التي كتبها للرواية على المؤلف أنه (أجرى الحوار فيها تارة باللهجة العامية وتارة باللغة العربية الفصحى. . وقد كان يفضل أن تشمل المسرحية كلها وحدة في الأسلوب البياني حتى تحتفظ بطابع واحد من التعبير اللفظي يسوده الانسجام اللغوي) ولسنا نذهب هذا المذهب حتى ولو استطاع المؤلف أن يستنبط إمكانيات أخرى يبتغي بها استقامة مفاجآت المسرحية ومشوقاتها كما يقول الأستاذ زكي طليمات.

فلو أن الحورية تكلمت باللهجة العامية لانتفت عنها فورها صفة الحورية ولكانت بشراً ممن يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق! فنحن نعلم أن العامية هي لغة السواد من الناس وأين الحورية من هذا السواد؟

ولنا - بعد - على المسرحية ملاحظات يسيرة نتوجه بها إلى هذه الفرقة المرموقة المأمول منها خير كثير، نتوجه بها إليها في رفق ولين، ولكن هذا الرفق لن يطول أمده، وسنأخذها فيما بعد بصرامة الحق وصراحة القول فذلك أنفع لها وأجدى عليها، ونحمل تلك الملاحظات فيما يأتي: -

1 - يتكلف الأستاذ (عدلي كاسب) شخصية الأستاذ (حسن فائق) تكلفاً ظاهراً جداً. وأرجو أن يعلم الأستاذ أن في هذا التكلف إفناء لشخصية وإعلاء لشخص الأستاذ حسن فائق! فالناس إذ يرونه كذلك لا يذكرونه وإنما يذكرون حسن فائق!

2 - الأبيات التي يرويها الزوج (الأستاذ نور الدمرداش) لعلقم الفحل يرويها مكسورة وبها بعض الأخطاء. وليس مما ينهض عذراً له أنها وردت كذلك في الأصل المطبوع فقد كان عليه بل كان على المخرج أن يتلافى هذا الخطأ وبخاصة الكسر الذي في البيت الأخير. . وصحة الأبيات هي كالآتي مأخوذة من الديوان ومن الجزء الثالث من كتاب (نهاية الأرب) وكما ينبغي أن تكون وأرجو أن يرويها كذلك مستقلاً: -

فإن تسألوني بالنساء فإنني ... عليم بأدواء النساء طبيب

إذا شارب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب

يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب

3 - انتقلت ملابس الحورية فجأة من ملابس الحوريات الغريبة، فصارت بمجرد هبوطها إلى الأرض ومن أول لحظة ملابس (إسبور) وبنصف كم! وعندي - ولو أن هذا مصدر من مصادر سوء التفاهم لاستحالة فهم الأناسي الذين يعاشرون الزوج أنها من حوريات المريخ وهي تلبس ملابسهم - عندي أنه كان الأولى أن تنتقل من ملابس الحوريات إلى ملابس الآدميين المعاصرين الإسبور انتقالاً تدريجياً لتبقى لها هالة الحوريات بعض البقاء الخفيف وبحيث لا يجب ماضيها جبأن ولم تبقى لها لغتها دون ملابسها؟؟

4 - شخصية الأستاذ (عزمي عثمان) في دور (صلاح) صديق الزوج ضعيفة باهتة جداً يمكن وصفها بأنها لا لون لها ولا رائحة، ولم يستطيع أن ينفث الحياة في شيء مما قال بتاتاً؛ مع أن في دوره ما كان يمكن أن تدب فيه حياة حارة نابضة

5 - كان وضع (الميكروفون) غير حكيم، فالصوت كان يخفت جداً إذا جرى الكلام في مؤخرة المسرح، ويقوى ويشتد حتى يمتلئ حشرجة إذا جرى الكلام في مقدمة المسرح، وصوت الممثل ينبغي أن يكون نقياً خالصاً من هذه الحشرات والنتوءات الصوتية التي قد نغتفرها في السينما.

هذا - وقد كان الزوج وزوجه والحورية وأعني بهم: الأستاذ نور الدمرداش والآنستين ملك الجمل وزهرة العلا بكير، كانوا يقومون بأدوارهم قياماً يشكرون عليه. أما الأستاذ أحمد الجزيري فقد بلغ شأواً بعيداً في تمثيله حيث كان ينطلق انطلاقاً طبيعياً لا تكلف فيه ولا صنعة مما يستحق عليه أطيب الثناء.

وبعد: فتلك كلمة إجمالية لم نذهب فيها مذهب التفصيل والإسهاب، ولم نعرض فيها إلا القليل من الحسنات والقليل من السيئات، راجين أن نتتبع الحركة الفنية القائمة بالعرض والنقد والتسجيل، ولن يحدونا إلا الحق وحده.

علي متولي صلاح