مجلة الرسالة/العدد 938/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 938/الأدب والفن في أسبُوع

مجلة الرسالة - العدد 938
الأدب والفن في أسبُوع
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 06 - 1951



للأستاذ عباس خضر

مناقشة رسالة جامعية:

عافتني بعض العوائق عن حضور مناقشة الرسالة التي قدمها الأستاذ بدوي طبانة في كلية دار العلوم للحصول على درجة (الماجستير) وموضوعها (أبو هلال العسكري ومقاييسه البلاغية) ولكن شاباً أديباً هو صديقي الأستاذ حسن صبري علوان - جزاه الله صالحة - قد سد الثغرة وهو من أعزائي المدمنين على قراءة (الأدب والفن) وقد تعارفنا أولاً عن طريق المراسلة ثم التقينا فظفرت بصداقته. تفقدني صبري هناك يوم مناقشة تلك الرسالة، فلما لم يلقني حرص على أن يقوم مقامي ويؤدي مهمتي. وثمة مفارقة لا بأس بذكرهأن وهي أن صبري طالب بالسنة النهائية بكلية العلوم، ومع ذلك ستراه ينقد أساتذة الأدب في البلاغة في الجامعة: كلية دار العلوم وكلية الآداب، نقداً حصيفاً يدل على من وراء. . خرج من غازات المعامل وتجاربها وامتحاناتها إلى عالم الأدب الذي يعشقه، يرتاد آفاقه ويبحث عن مجالاته، وهو يسمى هذا العالم (العش الكبير) الذي يقابل (العش الصغير) عش دراساته في كلية العلوم. . . وهكذا نرى الأديب هو الأديب في أي مكان.

كتب إلى صديقي صبري يقول، وقد ذهب لحضور تلك المناقشة: (. . . فألقيت بجميع وراء كل كلمة قالها العارض، وكل كلمة قالها مناقش. . . ثم وجدت في نفسي حنيناً أن أكتب إليك، لأنك ناحية من نواحي العش الكبير الذي أستطيع أن أتنفس في أجوائه) ثم يحدثنا عن مناقشة الرسالة، فيقول:

(كانت هيئة التحكيم مشتملة على الأساتذة: إبراهيم سلامة رئيساً وعلى الجندي وأمين الخولي بك عضوين. . وبعد أن عرض الأستاذ طبانة رسالته. . أعطيت الكلمة للأستاذ علي الجندي الذي كان أكثر الثلاثة كما في المناقشة. . أعقبه الأستاذ أمين لخولي بك كان يهوى بفأسه. . كأنما يريد أن يقتلع الجذور! لا أن يهشم الأغصان! ثم أعقبه الأستاذ إبراهيم سلامة.

ابتدأ الأستاذ الجندي قائلاً: نحن وإن كنا سنعصرك. . فلا تخش. فقد يسكون كما نعصر عود القصب لنستخرج منه السكر!. . وقد كان كثير الاستشهاد بالشعر. . وكان يقول: ق أميرنا. . عندما يستشهد لشوقي!. . يريد أنه من الشعراء. . ولاشك أن هذا إعلان طيب على كل اعتراض في مناقشة الأستاذ الجندي. . وكان رأى الأستاذ الجندي ككرة المطاط إن ضغط عليها تباينت أبعاد حوافها عن مركزها. ولكن شاعرنا كان يصر في كثير أن يظل المركز على أبعاد متساوية. ومن ذلك قوله إن الجاحظ وأبا هلال لم يعطيا اللفظ كل شيء، واستشهد للجاحظ وترك أبا هلال. . فرد الأستاذ طبانة قائلاً إن النص لأبي هلال يلزمنا ويقول: (وليس الشأن في إيراد المعاني. فالمعاني يعرفها العربي والعجمي. . . وإنما هي جودة اللفظ. . . وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً) أي لا يكون خطأ!. . ولكن الأستاذ الجندي أصر. .!

وقد غمر شاعرنا النقاد غمرة ما كنت لأرضاها له قال: من هو الناقد الأدبي؟ هو رجل لم يستطيع أن يقول أي شيء! فأراد أن يقول في كل شيء!. لم يستطع أن يكون قاصاً أو شاعراً أو ناثراً. . فالتمس باب المجد من هذا الباب! وكان متحمساً كأنما يلقي قصيدة! وهو يعلم أن النقد موهبة لا تتفق لكثيرين في دولة النقد، كما أن الشعر موهبة لا تتفق لكثيرين في إمارة الشعر!

وقال إنه ألف ديواناً فإنه لا يبالي ما يقول فيه النقاد. ولكن ما يقول الجمهور المثقف. كأن النقاد ليسوا من هؤلاء! ولفت الأستاذ الجندي نظر صاحب منهجاً من مناهج الدراسات الأدبية.

وقد ذكر الأستاذ سيد قطب في المناقشة حين عرض الأستاذ الجندي لقولة الأستاذ طبانة عن كلمة عمر بن الخطاب في زهير: إنه كان لا يعاظل. . قال: إن التعليق منقول عن كتاب النقد الأدبي (للأستاذ سيد قطب). . . وكلا الرأيين خطأ! لأن كلمة عمر لم تكن أول عهدنا بالنقد المفصل! فهناك حكاية النابغة مع الخنساء وحسان. . إن صحت! وهناك محمد رسول الله. . كان ينهى عن الحوشى. . . والتشدق والتقعر! ويقول: إن من البيان لسحراً!. . . وحكاية النابغة إن صحت فإنما هي إعجاب أو حكم غير معلل. . وذيل القصة الذي يفصل ويعلل ظاهر البطلان لأنه لا يتفق مع طبيعة النقد في هذا العصر كما قال الأستاذ سيد قطب. على أن أبا الفرج لم يذكر الذيل في الأغاني. .

وأما سيدنا محمد فإنما قال ما قال في معرض التقوى والصلاح لأن من صفات المؤمن ألا يتشدق أو يتفيهق أو يغرب، بل أن يكون مستقيماً. واضحاً. . متواضعاً! وانتهت مناقشة الأستاذ الجندي بقوله: إنني وأن أكن قد قرأت رسالتك بين الصحة والمرض، فإنني قد تدبرتها جيداً. . . وقد لاحظت فيها أثر الجهد والسهر!

ثم تكلم الخولي بك فقال: إنني لن أكثر. سأضرب لكل نقطة مثلاً واحداً. . إنني قرأت رسالتك وحاولت أن أجد فيها صورة قلمية لأبي هلال أو ترجمة علمية له فلم أوفق! إنني أعرف أن للبحث من أول نقطة إلى آخر نقطة، ثم يخلص إلى ما يريد من نتيجة! ولكنني وجدتك تناقض نفسك مناقضة لا أدري كيف وقعت فيها. . اتهمت أبا هلال في ذمته وفي خلقه وفي ذوقه وفي أدبه. . ثم رجعت تسائل نفسك. . هل وضع أبو هلال مقاييس للبلاغة؟ ثم تجيب: كلا! إنه اعتدى على من سبقوه فنقل ما قالوا وحاول جهده أن يخفي ما فعل. .

فاتهمته كذلك باللصوصية!! وبعد هذا تجعله ومقاييسه البلاغية عنواناً لرسالتك!. ثم إنك عرفت الأدب بأنه الكلام الجيد. فما بالك بالمتوسط؟ وقلت إن موضوع الأدب علوم الأدب وهذه ليست دقة علمية. . فقال الأستاذ طبانه: هذا عند القدامى! فقال الخولي بك: تأكد أن القدامى أدق من أكبر منك ومني! كان لك أن تقول إنها من ثقافة الأديب أو الناقد الأدبي!. ثم إني رأيتك تعزو التحول في الظواهر الأدبية إلى الأشخاص وهو كالتحول في الظواهر الاجتماعية يعزى إلى العصور. . وتكلم الأستاذ إبراهيم سلامة عن الذوق والقاعدة أو عن الفن والعلم فقال، إن أرسطو نفسه كان يحيرنا في خلطه بين الفن والعلم فكان يضع أحدهما مكان الآخر فيقول عن الطب مثلاً: إنه فن الطب!

وقال: إن موضوعك كان شائكاً لأنه فترة انتقال بين عصرين أو هو عصر التردد!. . وقد لاحظ قلة المراجع في الرسالة قائلاً: لماذا تعتمد على الفرع دون الأصل. . لماذا تنقل عن فلان أو فلان. . إنهم ليسوا أحسن منك. . . لماذا تأخذ حكاية عمر عن (مش عارف مين. .) خذها من الأغاني. . . خذها من غيره. . ارجع إلى الأصل دون الفرع. . وخلت اللجنة للمداولة. . بعد مناقشة استغرقت ما يقرب من خمس ساعات تخللتها استراحات قصيرة. . . وقضت اللجنة للأستاذ بدوي بدرجة الماجستير من رتبة ممتاز.)

وما أحسب الأستاذ على الجندي - بعد قراءة هذا النقد - إلا مسلماً بأن في كنانة الأدب نقاداً لا يستهان بهم. . وأن المدار في الأدب على الموهبة!

وليت شعري، هل يرى الأستاذ الجندي رأيه ذاك في أبي هلال العسكري باعتباره - أعني أبا هلال - ناقداً، وهو موضوع الرسالة التي عينها وما هي إلا نقد؟ وهل يرى رأيه ذاك في نفسه وفي زميليه وهم يناقشون الرسالة وما هم في هذا إلا نقاد؟ ثم هل يرى رأيه ذاك في نفسه باعتباره أستاذاً في دار العلوم جل عمله إن لم يكن كله الدراسة التي لا تخرج عن النقد؟ وبعد فلي نظرة في مسألتين: الأولى تعريف الأدب بأنه الكلام الجيد، من حيث اعتراض الأستاذ الخولي بقوله (فما بالك بالمتوسط؟) والذي أراه أن المقصود بالكلام الجيد ما يقابل الكلام العادي غير الأدب، فالأدب المتوسط بالإضافة إلى الأدب الجيد، وهو جيد بالنظر إلى غير الأدب.

والمسألة الثانية ما قاله الدكتور إبراهيم سلامة في الفن والعلم وخلط أرسطو بينهما في قولته عن الطب إنه الطب. ولست أدري ماذا يعنيه أرسطو فلم أطلع على كلامه هذا. وإنما أقول: إن فن الطب غير علم الطب، فلأول عمل وتطبيق، والثاني أبحاث ونظريات.

الأهرام ومنصور جاب الله:

لعل قراء الرسالة يذكرون ما حدثتهم به من قبل، عن النزاع بين صحيفة الأهرام وبين الأستاذ منصور جاب الله، ذلك النزاع الذي يتلخص في أن الأستاذ كان يعمل محرراً بالأهرام وقد استقال من وظيفته بوزارة المعارف ليتفرع للتحرير بها، ولا يجهل أحد من القارئين ما كان يكتبه في الأهرام من افتتاحيات ومقالات وتحقيقات صحفية. ثم تقلبت الأحوال في الأهرام، وجاء ناس بعد ناس، وإذا الأستاذ منصور مخرج من عمله في الصحيفة دون أي مبرر. . . وحاول التفاهم، ولجأ إلى النقابة، فلم يجده شيء من ذلك، فاضطر إلى المقاضاة أمام المحكمة

وقد سرنا أن القضاة أنصفه وحكم له بتعويض، وكان لهذا الحكم وقع طيب وخاصة لدى أدباء الإسكندرية الذين عبروا عن مشاعرهم بحفلات التكريم التي أقاموها له

ثم حدثت بعد ذلك ملابسات، أدعه يحدثنا عنها في رسالته التي تلقيتها منه في هذا الأسبوع:

(. . وإذ كان المبلغ الذي قضى لي به لا يتجاوز عشر التعويض المطلوب، فقد أزمعت استئناف الحكم، ولكن بعض الأدباء الذين تربطهم بالأهرام صلة سعي إلى بالمودة قائلاً: إنني طالب مبدأ لا طالب مبلغ، وأن حسي هذا الحكم الرائع وعطف الرأي العام. وطلب إلى أن أتنازل عن الاستئناف على أن تدفع لي جريدة الأهرام المبلغ المحكوم به. وأجيبت الأديب الفاضل إلى ما طلب. وبعد يومين من هذه (الوساطة) علمت أن الصحيفة المذكورة قدمت استئنافاً، فلم أجد أنا بدا من الاستئناف. ولعلك عاذري يا صديقي إذا أنا لجأت إلى الأساليب ذاتها التي تلجأ إليها الأهرام. وأحب أن يعلم المسئولون فيها أنه من الخطأ أن يستضعف الخصم خصمه، فقد يصيب المستضعف مقاتل القوى. . .)

وإنني الآن لأشعر بالإشفاق على الأهرام نظراً إلى ماضيها وإلى ما تحب لهأن وإلى جانب ما أشعر به من الرغبة في الانتصاف لأديب وصديق ناله عنت، وألم به ضيق، فإنه - وإن كان يعاني هذا الذي ناله - سينصفه القضاء وقد أنصفه فعلاً، والقضاء العادل هو أعز ما تملكه في هذه البلاد. أما الصحيفة الكبيرة فلا يشرفها، ولا يتفق مع روح العصر، أن يخرج عامل فيها بعد سنين في خدمتها إلى الطريق صفر اليدين. . .

وهنا طرف آخر في هذا الموضوع، هو نقابة الصحفيين. . لست أدري أي شيء هذه النقابة إن لم يكن مثل هذا من صميم عملها؟ أليست تسعى لتقرير معاشات للصحفيين الذين يعجزون عن العمل؟ فما بالها تقف عاجزة عن إنصاف محرر عامل من صحيفة؟ إن النقابة تمثل أصحاب والمحررين فهي تجمع بين لقط والفأر. . ولا بأس بذلك على أن تقلم أظفار الأول، ولكن لبأس كل البأس أن تمكن الأول من التهام الثاني. . .

عباس خضر